تتمة الحديث السابق ( عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه ، حتى إذا أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس فقال : ( اغتسلي واستنفري بثوب ، واحرمي ) ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به على البيداء أهل بالتوحيد : ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) . حتى إذا أتينا البيت استلم الركن ، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ، ... ). حفظ
الشيخ : " ( طرف الحديبية أهل بالتوحيد ) " : أي : رفع صوته بالتوحيد قائلا : ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) : شف قال: ( أهلّ بالتوحيد ) : رفع صوته بهذه الكلمات العظيمة التي سماها جابر توحيدًا، لأنها تضمنت التوحيد والإخلاص قال : ( لبيك اللهم لبيك ) : لبيك هذا حرف جواب للداعي ، ولهذا حتى الآن إذا دعاك شخص فقلت: لبيك يعني أجبت دعوتك .
ولكن التثنية هنا يراد بها مطلق التكرار لا حصره ، فهي بمعنى إجابة بعد إجابة، وهي منصوبة على الفعل المطلق المحذوف عامله : يعني ألبي لك تلبية بعد تلبية .
طيب وقوله : ( اللهم ) : يعني يا الله ، فهي منادى حذفت منها ياء النداء وعوض عنها الميم .
وقول : ( لبيك ) : من باب التوكيد لأن المقام مقام عظيم ينبغي فيه توكيد القول .
( لبيك لا شريك لك لبيك ) : هذا توكيد آخر .
( لا شريك لك ) : في أي شيء ؟
في كل شيء فلا شريك لله تعالى في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته ولا يستثنى من ذلك شيء ، فإن الله لا يشركه أحد في هذا أبدا .
ثم قال : ( إن الحمد والنعمة لك والملك ) : إن أفصح وأعم من أن وإلا فإن بعض النحويين أجاز الفتح ، والصواب الكسر ، لأنه أعم ، لأن إن هنا استئنافية ، لكن أن تعليلية كأنه لو قال : أن الحمد والنعمة لك كأنه يقول : بناء على ذلك أن الحمد والنعمة لك ، مع أن الله تعالى يحمد على كل شيء، فهي أعم .
( إن الحمد والنعمة لك ) : الحمد : وصف المحمود بالكمال على كماله وعلى إنعامه ، والنعمة العطاء ، وكل ذلك لله وحده ، فالمنعم هو الله ، والمحمود هو الله هو المستحق لذلك وحده ولهذا قال : ( والملك ) : والملك لله أيضا ملك الذوات والأعيان وملك التصرف والأفعال ، فالله مالك للسموات والأرض بأعيانهما والتصرف فيهما .
قال : ( لا شريك لك ) : لا شريك لك في ملكك ولا في نعمتك ولا في الحمد الذي تستحقه ، كانوا في الجاهلية يلبون بنحو هذه التلبية ، لكن يقولون : لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، طيب وشلون ما دام أنه له ومملوك كيف يكون شريكا له ؟!
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: (( ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء )) ؟! وش الجواب ؟
الطالب : الجواب : لا .
الشيخ : سؤال ؟ الجواب : لا واضح ، (( هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء )) :
يعني هل عبيدكم يشاركونكم في الأموال التي بين أيديكم التي أعطيناكم إياها ؟ وش الجواب ؟
الطالب : لا .
الشيخ : لا ، طيب هذا مثل من نفسك تعرفه أنت بنفسك كيف تجعل لله عز وجل شريكا يكون مملوكا له شريكا وهو مملوك له في عباده، أظن الإلزام واضح .
إذا كنتم أنتم لا تجيزون ولا تسوغون أن يكون لكم شريك فيما رزقكم الله وليس بعد من حولكم وقوتكم فكيف تسوغون أن يكون لله شريك في ملكه الذي خلقه.
طيب هذه الجملة لبى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان صلى الله عليه وسلم يسمع الناس يقولون : لا إله إلا الله ، وآخرون يكبرون ولا ينكر على هذا ، لأن المقصود هو الذكر وتعظيم الله ، ولكن لا شك أن ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام فهو أولى .
يستفاد من هذه الجملة من الحديث : أنه إذا أحرم من ذي الحليفة فلا يلبي إلا إذا استوت به على البيداء .
ولكن ابن عمر أنكر ذلك وقال : ( بيداؤكم هذه التي تقولون ) : يعني ينكر هذا ، ( ما أهل رسول الله إلا من عند المسجد ) : إذن أهل قبل أن تستوي به ناقته على البيداء ، ولكن الجمع بين قول جابر وقول ابن عمر الجمع بينهما قريب وظاهر :
هو أن ابن عمر سمعه حين استوت به ناقته عند المسجد ، وجابر سمعه حين استوت به على البيداء ، وكل إنسان حكى ما سمع ، وهذا هو الواجب على كل إنسان أن يحكي ما سمع أو ما ثبت عنده بطريق صحيح ، فلا منافاة .ولهذا وردت أحاديث : ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم أهل دبر الصلاة قبل أن يركب ) : ومع هذا فالجمع بينه وبين حديث جابر وابن عمر قريب أيضا كما جمع ذلك ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه الحاكم وغيره : ( وهو أن الناس يدركون النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة ، فأدركه قوم عند صلاته وقالوا : أهل بعد الصلاة وصدقوا ، وأدركه قوم بعد أن ركب عند المسجد وقالوا : أهل حين استوت به ناقته عند المسجد وصدقوا ، وأدركه آخرون حين استوت به على البيداء فقالوا : أهل حين استوت به ناقته على البيداء وصدقوا ) : والجمع هذا قريب وليس فيه إشكال .
ومن فوائد الحديث : أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر أنه في مجيئه إلى مكة وإحرامه إنما يفعل ذلك تلبية لدعاء الله ، فأين الدعاء ؟
قال الله تعالى: (( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم )) :
فالأذان بأمر الله يُعتبر أذاناً من الله، فإذا كان الله هو الذي أذَّن فأنا أجيبه وأقول: لبيك اللهم لبيك إلى آخره.
ثم قال جابر رضي الله عنه : ( حتى إذا أتينا البيت استلم الركن ) : حتى إذا أتينا البيت يعني الكعبة .
استلم الركن أي: مسحه بيده.
أي اليدين ؟
اليمنى، لأن اليد اليمنى تقدم للإكرام والتعظيم، واليد اليسرى في الإهانة نعم فمسحه بيده اليمنى قال : ( فرمل ثلاثا ومشى أربعاً ) : رمل قال العلماء : الرمل هو سرعة المشي مع مقاربة الخطا .
ثلاثا أي : ثلاثة أشواط ، ومشى أربعا يعني أربعة أشواط ، وفيه دليل على أن الطواف سبعة أشواط ، وأن طواف القدوم يرمل فيه الإنسان في الأشواط الثلاثة الأولى ويمشي في الأشواط الأربعة الباقية .
وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الرمل من الحجر إلى الحجر ، وليس من الحجر إلى الركن اليماني كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء . فإن قلت: ما الحكمة من الرمل في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى دون الأربعة الباقية ؟
فالجواب : أن الحكمة في ذلك تذكير المؤمنين في أصل هذا الرمل ، لأن أصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قاضى أهل مكة في غزوة الحديبية على أن يرجع من العام القادم معتمراً ، أهل مكة أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، والعدو يحب الشماتة بعدوه فقال بعضهم لبعض : " دعونا نجلس هنا ننظر إلى هؤلاء القوم الذي وهنتهم حمى يثرب كيف يطوفون " ، لأن عندهم إن هؤلاء قوم أصابهم المرض وأنهك قواهم ، يريدون بذلك إيش ؟
هاه الشماتة ، وجلسوا في شمالي الكعبة من جهة الشمال وقالوا : ننظر ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ليظهروا إيش ؟
الجلد والقوة والنشاط ليغيضوا الكفار ، وإغاضة الكفار يا إخوتي المسلمين إغاضة الكفار أمرٌ مقصود لله عز وجل ، كما قال الله تعالى : (( محمد رسول الله والذين معه أشداءُ على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلا من الله ورضوانًا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع )) إيش ؟ (( ليغيظ بهم الكفار )) .
وقال تعالى : (( ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح )) .
أراد النبي عليه الصلاة والسلام من قومه أن يغيظوا الكفار ، لكنه أمرهم أن يرمُلوا من الحجر إلى الركن اليماني دون ما بين الركنين ، لأنهم بين الركنين يختفون عن المشركين ، وأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرفق بأصحابه ، ولهذا جعل الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى لأن الثلاثة أقل من الأربعة ، فاعتبر الأقل في جانب الصعوبة .
الرَمَل أصعب من المشي العادي أليس كذلك ؟
الطالب : بلى .
الشيخ : فجعل له الأقل وهو ثلاثة من سبعة ، ثم إن اختيار الثلاثة دون الأربعة مثلا فيها القطع على وتر ، والله سبحانه وتعالى إذا تأملنا مشروعاته وجدنا غالبها مقطوعا على وتر ، ففيه فائدتان ، يعني في كونه أي : الرمل خاصا بالثلاثة الأولى فقط :
أولًا : الأخذ بالأخف في باب المشقة .
وثانيًا : القطع على وتر .