تتمة الحديث ( .....أمر بالقصواء ، فرحلت له ، فأتى بطن الوادي ، فخطب الناس ، ثم أذن ثم أقام ، فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئاً ، ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلاً ، حتى غاب القرص حفظ
الشيخ : فلما زالت الشمس يقول : ( أمر بالقصواء فرحلت له ) :
القصواء اسم ناقته.
( فرحلت له ) : أي جعل رحله عليها .
( ثم ركب عليه الصلاة والسلام فأتى بطن الوادي ) : أي وادي عرنة .
( فخطب الناس ثم أذّن ثم أقام ) : أذّن يعني أمر من يؤذن وكذلك في الإقامة. ( فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ) : ففي هذه الجملة أنه ينبغي الإحرام بالحج في اليوم الثامن ، وأن يبقى الإنسان الحاج في منى يوم الثامن ، وليلة التاسع ، وأن ينزل بنمرة إلى زوال الشمس ، وهذا على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب ؟
الطالب : الاستحباب .
الشيخ : كل هذا على سبيل الاستحباب ، ثم فيه أيضا أنه يصلي الظهر والعصر في بطن الوادي بطن عرنة وهو في مكان المصلى الموجود الآن ، في مكان المسجد الموجود الآن .
وفيه أيضا أنه ينبغي أن يخطب الخطبة ، وهذه الخطبة قال بها حتى من لم يقولوا بخطبة صلاة الكسوف .
والصحيح أن الخطبة في صلاة الكسوف سنة ، وكذلك الخطبة هنا سنة.
هذه الخطبة بيّن فيها الرسول عليه الصلاة والسلام قواعد الإسلام وشيئا من الفروع الهامة كتحريم الربا الذي قال فيه : ( ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا : ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ) .
( وصلى الظهر والعصر جمع تقديم ) : وفيه أنه يسن جمع التقديم في يوم عرفة ، وإنما صلى جمع تقديم من أجل اجتماع الناس ، لأن الناس إذا تفرقوا بعد الصلاة تفرقوا في مواقفهم ، فلو أُخرت صلاة العصر لكان كل طائفة يصلون وحدهم في مكانهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يجتمع الناس حتى وإن أدَّى ذلك إلى جمع الصلوات التي يجمع بعضها إلى بعض ، أرأيتم جمعه في المدينة من أجل المطر ما المقصود منه ؟
حرصًا على الجماعة، وإلا فبإمكانهم أن يذهبوا إلى بيوتهم ويصلوا فيها وهم معذورون في هذه الحال، لكن من أجل الجماعة جمع عليه الصلاة والسلام.
هذا مثله.
كذلك أيضا أبدى بعض العلماء أبدى حكمة أخرى قال : من أجل أن يطول زمن الوقوف والدعاء ، حتى لا يشتغل الناس بالصلاة بالطهارة لها والنداء والاجتماع إليها، ويبقَون في الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل مِن حين أن يصلوا الظهر والعصر جمع تقديم.
يقول : ( ولم يصل بينهما شيئا ) : يعني أنه ما صلى بين الظهر والعصر شيئا لأن سنة الظهر تسقط عن المسافر .
( ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة ) :
ذهب عليه الصلاة والسلام في موقفه إلى أقصى عرفة من الشرق ، من خلف الجبل ، جعل بطن الناقة إلى الصخرات : يعني يلي الصخرات .
وحبل المشاة وهو : طريق يمشون فيه الناس جعله بين يديه عليه الصلاة والسلام .
واستقبل القبلة ولم يزل واقفا على بعيره حتى غربت الشمس ، وهو مشتغل بالابتهال إلى الله عز وجل ، والتضرع إليه ، رافعا يديه إلى الله تبارك وتعالى حتى غربت الشمس ، ولم يمل ولم يتعب مع طول القيام ، ولكن الله عز وجل أعانه على طاعته أعانه عونًا.
( وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا ) : قوله ( كفنوه في ثوبيه ) : يعني ثيابي الإحرام ، فلا يكفن بغيرها ولو تيسر أن يكفن بغيرها ، بل إن الأفضل والسنة أن يكفن بها ، لأنه سيخرج من قبره يوم القيامة يقول : لبيك اللهم لبيك ، نسأل الله من فضله .
وثبت أنه عليه الصلاة والسلام : ( سقط خطام ناقته ، فأخذه بإحدى يديه وهو رافع الأخرى ) : وهذا يدل على تأكد رفع اليدين هنا .
المهم أنه بقي يدعو يقول : ( فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص ودفع ) :
في هذا من الفوائد أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام ذهب إلى ذلك الموقف لأنه والله أعلم كان مِن عادته أن يكون في أخريات القوم، وهذا هو آخر حدود عرفة من الناحية الشرقية، أو هو آخر ما يصل إليه الحجاج في ذلك الوقت.
ووقف هذا الموقف وقال للناس : ( وقفت ههنا وعرفة كلها موقف ) ، حتى لا يجتمع الناس إلى هذا المكان فيحصل الضيق والعنت عليهم .
كأنه يقول : الزموا أماكنكم فإن عرفة كلها موقف.
ويستفاد من ذلك استقبال القبلة حال الدعاء يوم عرفة، ورفع اليدين.
وأن الإنسان إذا تشاغل بما ينفع المسلمين من إجابة سؤال أو أمر بالمعروف أو نهي عن منكر، فإن ذلك لا يقطع دعاءه، لأن نفع هذا متعدٍ والدعاء نفعه خاص غير متعدي ، فلا ينبغي للإنسان مثلا إذا اشتغل بالدعاء في عرفة وجاء شخص يسأله أن يُكشر في وجهه أو يقول: لا تشغلني أو ما أشبه ذلك. اللهم إلا في مسائل لا تفوت، وهذا السائل الذي معك سيدركك ويسألك في وقت آخر، فهنا ربما نقول: إنه يسوغ لك أن تقول: لا تشغلني واشتغل بالدعاء.
قد يكون هذا السائل من رفقتك ويكون السؤال لا داعي له ، يعني لا حاجة إلى بيانه في هذا الوقت لأنها مسألة علمية تناقشوا فيها واختلفوا وجاءوا إليك يسألونك مثلا ، فلكل مقام مقال .
لكن لو تكون مسألة واقعة حادثة تحتاج إلى حل فإن التشاغل بإجابة السائل هنا أفضل من التشاغل بالدعاء.
ومن فوائد هذه الجملة أنه لا دفع من عرفة إلا بعد الغروب ، لقوله رضي الله عنه : ( حتى غاب القرص ودفع ) :
ولا يجوز الدفع قبل الغروب ، لكن لو دفع فهو آثم ، والحج صحيح ، لحديث عروة بن مضرِّس رضي الله عنه وسيأتي إن شاء الله تعالى .
الدفع قبل الغروب فيه عدة مفاسد :
المفسدة الأولى : أنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم .
الثانية : أنه موافق لهدي المشركين ، لأن المشركين كانوا يدفعون من عرفة إذا كانت الشمس على الجبال كالعمائم على الرؤوس ، دفعوا .
الثالث : أن فيه نقصًا في الوقوف الذي هو الركن ، ومعلوم أن الأركان أفضل من الواجبات ، والواجبات أفضل من السنن ، لأنه كلما تأكدت العبادة كانت أفضل ، لقوله تعالى في الحديث القدسي : ( ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ) .