تتمة الحديث ( ..... ودفع ، وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى ، ( يا أيها الناس ، السكينة ، السكينة ) وكلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد . حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر ، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة فدعاه ، وكبره ، وهلله ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ، فدفع قبل أن تطلع الشمس ، حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة ، فرماها بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة منها ، كل حصاة مثل حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر . رواه مسلم مطولاً . حفظ
الشيخ : قال رضي الله عنه : ( ودفع وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ) : اللهم صل وسلم عليه.
شنقه: يعني جذبه.
حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله : يعني عنان رقبتها ، لماذا ؟
لئلا تندفع ، لأن دفع الناس جميعاً والإبل ومشيها يعني يأخذ بعضها بعضًا حتى تسرع كما يقول العامة : " إن بعضها يشيل بعض " ، لكن الرسول شنق لها الزمام لئلا تسرع ، وهو يقول بيده عليه الصلاة والسلام ، يقول بيده اليمنى : ( أيها الناس السكينة السكينة ) : يعني اسكنوا اطمئنوا .
يقول : ( وكلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ) : في هذه الجملة كيف يدفع الإنسان من عرفة ؟
يدفع بسكينة بقدر ما يستطيع ، ويأمر الناس بالسكينة ليسكنوا ، يأمرهم بالسكينة إما بصوته إن تمكن ، أو بمكبر الصوت : أيها الناس السكينة السكينة ، نعم ، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام .
وفيه أيضًا حسن رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم لما هو مولاً عليه ، هذه البهيمة إذا أتى حبلا من الحبال يعني شيئا مرتفعًا أرخى لها قليلا حتى تصعد رفقاً بها ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم : ( أنه إذا وجد فجوة نص ) أي أسرع السير ، فيؤخذ من هذا أنه ينبغي للإنسان مراعاة ما هو راكب عليه وأنه إذا وجد فجوة ومتسعا فليسرع .
طيب يقول : ( حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله فلم يزل واقفا حتى أسفر جدًا فدفع قبل أن تطلع الشمس ) :
هذا موقف مزدلفة ، دفع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة بسكينة وهو يسكن الناس عليه الصلاة والسلام ، وفي أثناء الطريق نزل فبال ، وتوضأ وضوءً خفيفا فقال له أسامة وكان رديفه : قال له : ( الصلاة يا رسول الله ؟ قال : الصلاة أمامك ) ، لأنه لا يمكن الصلاة في الطريق ، لأن إيقاف الناس وهم مندفعون فيه شيء من الصعوبة ، ثم المبادرة ما دام ضوء النهار باقيا أرفق بالناس ، ولهذا قال : ( الصلاة أمامك ) .
فلما وصل إلى مزدلفة أمر بلالًا فأذن ثم أقام فصلى المغرب ثم أناخ كل واحد بعيره ثم صلى العشاء .
وفيه أيضا دليل على أنه لا ينبغي في ليلة مزدلفة أن يشتغل الناس بالذكر أو بالقرآن أو بالصلاة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اضطجع حتى طلع الفجر ، وهذا من حسن رعايته لنفسه عليه الصلاة والسلام ، لأنه بعد التعب في المسير من عرفة إلى مزدلفة ، وفي النهار أيضًا كان مشتغلا بالدعاء وبتعليم الناس وتوجيههم تحتاج النفس إلى راحة ، فنام كل الليل ، ولم يذكر جابرٌ ولا غيره فيما أعلم : هل أوتر النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟
والظاهر أنه أوتر، لأنه لم يكن يدع الوتر لا حضرًا ولا سفرًا.
وفيه أنه ينبغي تقديم صلاة الفجر في يوم العيد في مزدلفة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر من حين تبين له الفجر، ولكن يجب الحذر من الاغترار بفعل بعض الناس، فإنه في ليلة مزدلفة تسمع بعض الناس يؤذن قبل الوقت بساعة أحياناً أو أكثر، يستطيلون الليل، ثم يقوم يؤذن ويصلي الفجر ويمشي، وليته لم يضر إلا نفسه، لكن إذا سمعه غيره يؤذن أذن وتتابع الناس، ولهذا يجب الحذر في صلاة الفجر ليلة المزدلفة .
وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يتقدم إلى المشعر الحرام إما براحلته إن كان على راحلة ، أو بقدميه إن كان ماشياً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم إليه ومع ذلك قال : ( وقفت ها هنا وجمعٌ كلها موقف ) .
ويدعو إلى أن يسفر جدًا ويتبين النهار تماما ثم يدفع إلى منى.
قال رضي الله عنه : ( حتى أتى بطن محسِّر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى ) إلى آخره .
أتى بطن محسر هذا بطن الوادي وسمي محسِّرا لأنه يحسر سالكه ، لأن فيه رملا ودعثا فيحسّر سالكه .
فحرك قليلا لماذا حرك ؟
قيل: لأن هذا هو المكان الذي نزلت فيه عقوبة أصحاب الفيل فأسرع فيه ، ولهذا أمر أن يسرع الناس إذا مروا بديار ثمود .
وقيل: إنه أسرع فيه من أجل أنه دعث، وعادة يكون المشي في الدعث بطيئًا، فحرك .
وقيل: إنه حرك لأن قريشًا كانوا ينزلون في هذا الوادي ويذكرون أمجاد آبائهم يفتخرون بهم، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعاكسهم، وأن يسرع بدلا من وقوف قريش.
على كل حال كل هذا ممكن ، إلا القول بأنه أسرع ، لأن الله أنزل فيه عقوبة أصحاب الفيل ففيه نظر ، لأن المعروف أن عقوبة أصحاب الفيل كانت في المغمَّس وليست هنا .
قال ثم سلك الطريق الوسطى : لأن منى فيها ثلاثة طرق : شمالية وجنوبية ووسطى ، فسلك عليه الصلاة والسلام الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، الجمرة : يعني مكان اجتماع الناس ، لأن الناس كلهم ينصبون في هذه الجمرة، ورماها عليه الصلاة والسلام وهو راكب، وكان معه أسامة وبلال أحدهما يقود به راحلته ، والثاني يظلله بثوب يستره من الحر .
حتى رمى الجمرة صلوات الله وسلامه عليه .
قال : ( حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ) : يعني يقول : الله أكبر .
( كل حصاة منها مثل حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ) :
رمى صلى الله عليه وسلم من بطن الوادي لأنه أيسر ، وكانت جمرة العقبة في ذلك الوقت كانت في سفح جبل ، وأنا أدركت ذلك ، فرمى من بطن الوادي لأنه أيسر من أن يرمي من فوق ، ولكن كيف رمى ؟
جعل الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه ، والجمرة أمامه ، هذا هو الذي ثبت في الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه .
رمى بسبع حصيات : فيستفاد من هذا أنه ينبغي للإنسان في أسفاره أن يسلك أقرب الطرق إلى حصول المقصود ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلك الطريق الوسطى التي تخرج رأسًا على الجمرة الكبرى .
وفيه أيضًا المبادرة برمي جمرة العقبة ، يرميها قبل أن ينزل من رحله .
وفيها أيضا أنها ترمى بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة .
وفيه أن هذا الحصى ليس بالكبير ولا بالصغير ، بل هو مثل حصى الخذف قال العلماء : " وهو بين الحمص والبندق " .
وفيه أيضا أنه يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ، فلو رماها من فوق الجبل فالرمي صحيح ، لكن لا ينبغي للإنسان أن يسلك الأشق مع إمكان الأسهل ،إلا أنه يقال : ربما يكون رميها من فوق الجبل أسهل إذا كثر الزحام ، كما كان الناس يفعلونه من قبل .
لكن هنا بنوا هذا الجدار من خلفها لما أزالوا الجبل لئلا ترمى من الخلف ، ومع الأسف أنها صارت الآن ترمى من الخلف ، لا سيما في يوم العيد ، يأتي الناس بكثرة وزحام ويشوفون هذا الجدار فيرمونه .
طيب يقول : " ( ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر ) رواه مسلم مطولا " :
انصرف إلى المنحر يعني مكان نحر الإبل ، وكان صلى الله عليه وسلم قد أهدى مئة بعير ، والواحد منا الآن يتعثر على شاة واحدة واجبة أيضًا، ويقول: أي الأنساك الثلاثة أيها أسهل ، وأيها التي ما فيها ذبح نعم فيختاره خوفا من هذه الشاة .
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فأهدى مئة بعير وأشرك علي بن أبي طالب في هديه ، ونحر منها ثلاثا وستين بيده ، وأعطى عليًا فنحر الباقي ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها تحقيقا لقوله تعالى : (( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير )) .
قال العلماء : ومن الأمور العجيبة أنه نحر ثلاثا وستين بيده الكريمة، وكان هذا العدد مطابقًا لسني عمره، فإن عمره كان ثلاثا وستين سنة صلوات الله وسلامه عليه.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام حلَّ من إحرامه بعد أن رمى ونحر وحلق حل من إحرامه وتطيب ونزل إلى البيت فطاف وصلى بمكة الظهر.
والحقيقة أنه عند التأمل يجد الإنسان بركة عظيمة في هذا الوقت الموجز وكانت حجة الرسول عليه الصلاة والسلام في الاعتدال الربيعي يعني : النهار والليل متساويان تقريبا ، في هذه المدة الوجيزة عمل هذه الأعمال الكثيرة ، نعم : دفع من مزدلفة ، ورمى ونحر ثلاثا وستين بل مئة الذي نحر وأمر بأن تطبخ وأكل من لحمها ، وشرب من مرقها ، وحلق وحل ووقف للناس يسألونه ، ونزل إلى مكة وطاف وسعى وصلى الظهر بمكة !
نعم أعمال عظيمة في زمن قليل، ولكن الله عز وجل إذا بارك للإنسان صار يفعل في الوقت القصير أفعالًا كثيرة، وهذا شيء مشاهد، نسأل الله أن يبارك لنا ولكم في الأعمار والأعمال .
يقول هنا : ( فصلى بمكة الظهر ) ، وفي حديث أنس في الصحيحين : ( أنه صلى الظهر في منى ) :
فاختلف العلماء في ذلك فقال بعضهم : نقدم حديث أنس لأنه في الصحيحين.
وقال آخرون: نقدم حديث جابر لأن جابرا ضبط الحج ضبطا وافيا فكان أعلم بذلك من غيره .
وقال بعضهم: بل نجمع بينهما فنقول: صلى الظهر بمكة في وقتها ولما خرج إلى منى وجد جماعة من أصحابه لم يصلوا فصلى بهم فيكون صلى الظهر مرتين. طيب هنا يقول : ( فطاف بالبيت ) : الجمع أولى كلما أمكن الجمع فهو أولى طاف بالبيت ولم يذكر السعي لماذا ؟
لأنه سعى بعد طواف القدوم ، والقارن إذا سعى بعد طواف القدوم كفاه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : ( طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجك وعمرتك ).
فقد أدى الواجب وكذلك أصحابه الذين لم يَحلوا طافوا معه، ولم يسعوا، لأنهم كانوا قد سعوا، وعلى هذا يحمل حديث جابر: ( لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا طوافه الأول ) : فيعني بأصحابه هنا الذين لم يحلوا معه ، يتعين هذا ، لأن الذين حلوا ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : ( أنه لما كان عشية يوم التروية أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأحرموا ) .
فلما أنهوا المناسك ، لما قضوا المناسك : ( طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ) هكذا جاء في صحيح البخاري في حديث ابن عباس قال : ( طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ) : وهو صريح بأنهم طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ، وكذلك ثبت في الصحيح من حديث عائشة : أن الذين أحرموا بالعمرة طافوا بالصفا والمروة مرتين .
وما دام عندنا حديثان صحيحان صريحان في أن المتمتع يطوف ويسعى مرتين فإن حديث جابر يتعين أن يحمل على أي شيء ؟
على الذين لم يحلوا ، وبهذا نعرف أن ما ذهب إليه جماعة من أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية : في أن المتمتع يكفيه سعي واحد أنه قول ضعيف ، ويتبين لنا أيضًا أن الإنسان مهما بلغ من العلم والفهم فإنه لا يسلم من الخطأ ، لأنه لا معصوم إلا من عصم الله عز وجل ، والإنسان يخطئ ويصيب ، وحديث ابن عباس وعائشة كلاهما في البخاري ، ومثل هذا لا يخفى على شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه -رحمه الله- من حفاظ الحديث حتى قال بعضهم : " كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بصحيح " ، ولكن الإنسان بشر فالصواب بلا شك أن المتمتع يلزمه طوافان وسعيان ، والقياس يقتضي ذلك لأن العمرة انفردت وفصل بينها وبين الحج حِل كامل ، وأحرم الإنسان بالحج إحراما جديدًا نعم .
بعد ما ينتهي الدرس إن شاء الله .
الطالب : ما خلينا .
شنقه: يعني جذبه.
حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله : يعني عنان رقبتها ، لماذا ؟
لئلا تندفع ، لأن دفع الناس جميعاً والإبل ومشيها يعني يأخذ بعضها بعضًا حتى تسرع كما يقول العامة : " إن بعضها يشيل بعض " ، لكن الرسول شنق لها الزمام لئلا تسرع ، وهو يقول بيده عليه الصلاة والسلام ، يقول بيده اليمنى : ( أيها الناس السكينة السكينة ) : يعني اسكنوا اطمئنوا .
يقول : ( وكلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ) : في هذه الجملة كيف يدفع الإنسان من عرفة ؟
يدفع بسكينة بقدر ما يستطيع ، ويأمر الناس بالسكينة ليسكنوا ، يأمرهم بالسكينة إما بصوته إن تمكن ، أو بمكبر الصوت : أيها الناس السكينة السكينة ، نعم ، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام .
وفيه أيضًا حسن رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم لما هو مولاً عليه ، هذه البهيمة إذا أتى حبلا من الحبال يعني شيئا مرتفعًا أرخى لها قليلا حتى تصعد رفقاً بها ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم : ( أنه إذا وجد فجوة نص ) أي أسرع السير ، فيؤخذ من هذا أنه ينبغي للإنسان مراعاة ما هو راكب عليه وأنه إذا وجد فجوة ومتسعا فليسرع .
طيب يقول : ( حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله فلم يزل واقفا حتى أسفر جدًا فدفع قبل أن تطلع الشمس ) :
هذا موقف مزدلفة ، دفع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة بسكينة وهو يسكن الناس عليه الصلاة والسلام ، وفي أثناء الطريق نزل فبال ، وتوضأ وضوءً خفيفا فقال له أسامة وكان رديفه : قال له : ( الصلاة يا رسول الله ؟ قال : الصلاة أمامك ) ، لأنه لا يمكن الصلاة في الطريق ، لأن إيقاف الناس وهم مندفعون فيه شيء من الصعوبة ، ثم المبادرة ما دام ضوء النهار باقيا أرفق بالناس ، ولهذا قال : ( الصلاة أمامك ) .
فلما وصل إلى مزدلفة أمر بلالًا فأذن ثم أقام فصلى المغرب ثم أناخ كل واحد بعيره ثم صلى العشاء .
وفيه أيضا دليل على أنه لا ينبغي في ليلة مزدلفة أن يشتغل الناس بالذكر أو بالقرآن أو بالصلاة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اضطجع حتى طلع الفجر ، وهذا من حسن رعايته لنفسه عليه الصلاة والسلام ، لأنه بعد التعب في المسير من عرفة إلى مزدلفة ، وفي النهار أيضًا كان مشتغلا بالدعاء وبتعليم الناس وتوجيههم تحتاج النفس إلى راحة ، فنام كل الليل ، ولم يذكر جابرٌ ولا غيره فيما أعلم : هل أوتر النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟
والظاهر أنه أوتر، لأنه لم يكن يدع الوتر لا حضرًا ولا سفرًا.
وفيه أنه ينبغي تقديم صلاة الفجر في يوم العيد في مزدلفة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر من حين تبين له الفجر، ولكن يجب الحذر من الاغترار بفعل بعض الناس، فإنه في ليلة مزدلفة تسمع بعض الناس يؤذن قبل الوقت بساعة أحياناً أو أكثر، يستطيلون الليل، ثم يقوم يؤذن ويصلي الفجر ويمشي، وليته لم يضر إلا نفسه، لكن إذا سمعه غيره يؤذن أذن وتتابع الناس، ولهذا يجب الحذر في صلاة الفجر ليلة المزدلفة .
وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يتقدم إلى المشعر الحرام إما براحلته إن كان على راحلة ، أو بقدميه إن كان ماشياً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم إليه ومع ذلك قال : ( وقفت ها هنا وجمعٌ كلها موقف ) .
ويدعو إلى أن يسفر جدًا ويتبين النهار تماما ثم يدفع إلى منى.
قال رضي الله عنه : ( حتى أتى بطن محسِّر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى ) إلى آخره .
أتى بطن محسر هذا بطن الوادي وسمي محسِّرا لأنه يحسر سالكه ، لأن فيه رملا ودعثا فيحسّر سالكه .
فحرك قليلا لماذا حرك ؟
قيل: لأن هذا هو المكان الذي نزلت فيه عقوبة أصحاب الفيل فأسرع فيه ، ولهذا أمر أن يسرع الناس إذا مروا بديار ثمود .
وقيل: إنه أسرع فيه من أجل أنه دعث، وعادة يكون المشي في الدعث بطيئًا، فحرك .
وقيل: إنه حرك لأن قريشًا كانوا ينزلون في هذا الوادي ويذكرون أمجاد آبائهم يفتخرون بهم، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعاكسهم، وأن يسرع بدلا من وقوف قريش.
على كل حال كل هذا ممكن ، إلا القول بأنه أسرع ، لأن الله أنزل فيه عقوبة أصحاب الفيل ففيه نظر ، لأن المعروف أن عقوبة أصحاب الفيل كانت في المغمَّس وليست هنا .
قال ثم سلك الطريق الوسطى : لأن منى فيها ثلاثة طرق : شمالية وجنوبية ووسطى ، فسلك عليه الصلاة والسلام الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، الجمرة : يعني مكان اجتماع الناس ، لأن الناس كلهم ينصبون في هذه الجمرة، ورماها عليه الصلاة والسلام وهو راكب، وكان معه أسامة وبلال أحدهما يقود به راحلته ، والثاني يظلله بثوب يستره من الحر .
حتى رمى الجمرة صلوات الله وسلامه عليه .
قال : ( حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ) : يعني يقول : الله أكبر .
( كل حصاة منها مثل حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ) :
رمى صلى الله عليه وسلم من بطن الوادي لأنه أيسر ، وكانت جمرة العقبة في ذلك الوقت كانت في سفح جبل ، وأنا أدركت ذلك ، فرمى من بطن الوادي لأنه أيسر من أن يرمي من فوق ، ولكن كيف رمى ؟
جعل الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه ، والجمرة أمامه ، هذا هو الذي ثبت في الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه .
رمى بسبع حصيات : فيستفاد من هذا أنه ينبغي للإنسان في أسفاره أن يسلك أقرب الطرق إلى حصول المقصود ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلك الطريق الوسطى التي تخرج رأسًا على الجمرة الكبرى .
وفيه أيضًا المبادرة برمي جمرة العقبة ، يرميها قبل أن ينزل من رحله .
وفيها أيضا أنها ترمى بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة .
وفيه أن هذا الحصى ليس بالكبير ولا بالصغير ، بل هو مثل حصى الخذف قال العلماء : " وهو بين الحمص والبندق " .
وفيه أيضا أنه يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ، فلو رماها من فوق الجبل فالرمي صحيح ، لكن لا ينبغي للإنسان أن يسلك الأشق مع إمكان الأسهل ،إلا أنه يقال : ربما يكون رميها من فوق الجبل أسهل إذا كثر الزحام ، كما كان الناس يفعلونه من قبل .
لكن هنا بنوا هذا الجدار من خلفها لما أزالوا الجبل لئلا ترمى من الخلف ، ومع الأسف أنها صارت الآن ترمى من الخلف ، لا سيما في يوم العيد ، يأتي الناس بكثرة وزحام ويشوفون هذا الجدار فيرمونه .
طيب يقول : " ( ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر ) رواه مسلم مطولا " :
انصرف إلى المنحر يعني مكان نحر الإبل ، وكان صلى الله عليه وسلم قد أهدى مئة بعير ، والواحد منا الآن يتعثر على شاة واحدة واجبة أيضًا، ويقول: أي الأنساك الثلاثة أيها أسهل ، وأيها التي ما فيها ذبح نعم فيختاره خوفا من هذه الشاة .
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فأهدى مئة بعير وأشرك علي بن أبي طالب في هديه ، ونحر منها ثلاثا وستين بيده ، وأعطى عليًا فنحر الباقي ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها تحقيقا لقوله تعالى : (( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير )) .
قال العلماء : ومن الأمور العجيبة أنه نحر ثلاثا وستين بيده الكريمة، وكان هذا العدد مطابقًا لسني عمره، فإن عمره كان ثلاثا وستين سنة صلوات الله وسلامه عليه.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام حلَّ من إحرامه بعد أن رمى ونحر وحلق حل من إحرامه وتطيب ونزل إلى البيت فطاف وصلى بمكة الظهر.
والحقيقة أنه عند التأمل يجد الإنسان بركة عظيمة في هذا الوقت الموجز وكانت حجة الرسول عليه الصلاة والسلام في الاعتدال الربيعي يعني : النهار والليل متساويان تقريبا ، في هذه المدة الوجيزة عمل هذه الأعمال الكثيرة ، نعم : دفع من مزدلفة ، ورمى ونحر ثلاثا وستين بل مئة الذي نحر وأمر بأن تطبخ وأكل من لحمها ، وشرب من مرقها ، وحلق وحل ووقف للناس يسألونه ، ونزل إلى مكة وطاف وسعى وصلى الظهر بمكة !
نعم أعمال عظيمة في زمن قليل، ولكن الله عز وجل إذا بارك للإنسان صار يفعل في الوقت القصير أفعالًا كثيرة، وهذا شيء مشاهد، نسأل الله أن يبارك لنا ولكم في الأعمار والأعمال .
يقول هنا : ( فصلى بمكة الظهر ) ، وفي حديث أنس في الصحيحين : ( أنه صلى الظهر في منى ) :
فاختلف العلماء في ذلك فقال بعضهم : نقدم حديث أنس لأنه في الصحيحين.
وقال آخرون: نقدم حديث جابر لأن جابرا ضبط الحج ضبطا وافيا فكان أعلم بذلك من غيره .
وقال بعضهم: بل نجمع بينهما فنقول: صلى الظهر بمكة في وقتها ولما خرج إلى منى وجد جماعة من أصحابه لم يصلوا فصلى بهم فيكون صلى الظهر مرتين. طيب هنا يقول : ( فطاف بالبيت ) : الجمع أولى كلما أمكن الجمع فهو أولى طاف بالبيت ولم يذكر السعي لماذا ؟
لأنه سعى بعد طواف القدوم ، والقارن إذا سعى بعد طواف القدوم كفاه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : ( طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجك وعمرتك ).
فقد أدى الواجب وكذلك أصحابه الذين لم يَحلوا طافوا معه، ولم يسعوا، لأنهم كانوا قد سعوا، وعلى هذا يحمل حديث جابر: ( لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا طوافه الأول ) : فيعني بأصحابه هنا الذين لم يحلوا معه ، يتعين هذا ، لأن الذين حلوا ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : ( أنه لما كان عشية يوم التروية أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأحرموا ) .
فلما أنهوا المناسك ، لما قضوا المناسك : ( طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ) هكذا جاء في صحيح البخاري في حديث ابن عباس قال : ( طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ) : وهو صريح بأنهم طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ، وكذلك ثبت في الصحيح من حديث عائشة : أن الذين أحرموا بالعمرة طافوا بالصفا والمروة مرتين .
وما دام عندنا حديثان صحيحان صريحان في أن المتمتع يطوف ويسعى مرتين فإن حديث جابر يتعين أن يحمل على أي شيء ؟
على الذين لم يحلوا ، وبهذا نعرف أن ما ذهب إليه جماعة من أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية : في أن المتمتع يكفيه سعي واحد أنه قول ضعيف ، ويتبين لنا أيضًا أن الإنسان مهما بلغ من العلم والفهم فإنه لا يسلم من الخطأ ، لأنه لا معصوم إلا من عصم الله عز وجل ، والإنسان يخطئ ويصيب ، وحديث ابن عباس وعائشة كلاهما في البخاري ، ومثل هذا لا يخفى على شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه -رحمه الله- من حفاظ الحديث حتى قال بعضهم : " كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بصحيح " ، ولكن الإنسان بشر فالصواب بلا شك أن المتمتع يلزمه طوافان وسعيان ، والقياس يقتضي ذلك لأن العمرة انفردت وفصل بينها وبين الحج حِل كامل ، وأحرم الإنسان بالحج إحراما جديدًا نعم .
بعد ما ينتهي الدرس إن شاء الله .
الطالب : ما خلينا .