وعن عمران بن حصينٍ رضي الله عنه قال: قاتل يعلى بن أمية رجلاً فعض أحدهما صاحبه فانتزع يده من فمه فنزع ثنيته، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يعض أحدكم كما يعض الفحل؟ لا دية له ) متفقٌ عليه واللفظ لمسلمٍ. حفظ
الشيخ : بسم الله الرّحمن الرّحيم .
نبدأ درسنا اللّيلة إن شاء الله :
بسم الله الرحمن الرحيم :
قال المؤلف -رحمه الله- فيما نقله : " عن عمران بن حصين رضي الله: قال: قاتل يعلى بن أمية رجلاً " :
المقاتلة أعم من أن تكون بالسّلاح أو غيره، قد تكون بالأيدي كالملاكمة، وبالعصيّ، وبالأحجار فهي أعمّ من أن تكون بالسّيف أو بالسّلاح ولهذا قال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في الرّجل إذا أراد أن يجتاز بين يدي المصلّي قال: ( فليدفعه، فإن أبى فليقاتله )، ومعلوم أنّ المصلّي ليس معه سلاح يقاتل به هذا المارّ ولكن المراد يقاتله يدفعه بشدّة .
يقول: ( فعضّ أحدهما الآخر ) عضّ بالضّاد أو بالظّاء؟
الطالب : بالضّاد.
الشيخ : بالضّاد، ومضارعها: يعضّ، ولغتكم التي قلتموها غير صحيحة، قال الله تعالى: (( ويوم يعَضّ الظالم على يديه )) طيب.
( فعضّ أحدهما صاحبه فانتزع يده من فمه ) : الفاعل في قوله فانتزع يعود على المعضوض، وكذلك الضّمير في يده.
من فمه: الضّمير يعود على العاضّ ، يعني أن المعضوض لم يتحمّل وعادة لا يمكن أن يتحمّل، يجعل هذا الرّجل يقضم يده كما يقضم الفحل لقمة العلف، ( فنزع ثنيّته ) ثنيّة من؟
الطالب : العاضّ.
الشيخ : ثنيّة العاضّ، ( فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ) : يعني جاءا إليه خصمين، والخصم هو: المحاكم المجادل الذي يريد أن يخصم صاحبه، أي: أن يغلبه في الخصومة .
فقال صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم : ( يعض أحدكم كما يعض الفحل ) : وهذه الجملة كما ترون خبريّة، ولكنّها إنشائيّة حذفت منها همزة الإستفهام الإنكاري، والتّقدير: أيعضّ أحدكم أخاه كما يعضّ الفحل؟!
والمراد من الإستفهام هنا الإنكار والتّوبيخ، ولهذا جاءت بوجهين:
الوجه الأوّل : وجه يقتضي الحنوّ والرّفق والرّأفة وهو قوله: ( أخاه ) .
والوجه الثاني : يقتضي التّنفير والبعد عن هذا العمل المشين وهو قوله: ( كما يعضّ الفحل ) ، فشبّهه بالحيوان، والفحل هو الذّكور من البهائم لكن المراد بهذا الذّكور من الإبل لأنّ عضّه شديد كما سنذكر إن شاء الله.
قلنا إنّ الجملة هنا خبريّة حذف منها همزة الإستفهام، ونظير ذلك قوله تعالى: (( أم اتّخذوا آلهة من الأرض هم يُنشرون )) جملة هم ينشرون: ليست صفة لآلهة، ولكنّها جملة استئنافيّة إنشائيّة حذفت منها همزة الإستفهام، والتّقدير أهم منشرون حتى يكونوا آلهة؟
والاستفهام هنا للإنكار، ولهذا يحسن بالقارئ إذا قرأ هذه الآية : (( أم اتّخذوا آلهة من الأرض )) : يحسن به أن يقف حتى يتبيّن معنى الكلام.
وكثير من القرّاء وهم قرّاء قد يشار إليهم بالبنان يغفلون مثل هذه الأمور، تجده يقرأ من هذه الآيات ويصل بعضها ببعض فيختلف المعنى اختلافا كبيرًا، ومثل ذلك أيضا قوله تعالى: (( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقًا )) سمعنا قرّاء يقولون: (( كمن كان فاسقًا لا يستوون )) وهذا غلط بل تقف ، (( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا )) ، حتى يحتاج إلى جواب الآن ، الجواب : (( لا يستوون )) إذن فالجملة بعدها جواب لها فكيف توصله بها وهي جواب؟! فمثل هذه المسائل ينبغي للإنسان أن يتفطّن لها حتى أنّ شيخ الإسلام -رحمه الله- انتقد الذين حزّبوا القرآن ولم يراعوا الجمل والقواطع والفواصل المعنويّة ، (( قال ألم أقل لك إنّك لن تستطيع معي صبرا )) ، نعم ، (( قال لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنّك لن تستطيع معي صبرا )) كثير من المصاحف يجعلون منتهى الجزء (( لقد جئت شيئا نكرا )) ، ما تمّ الكلام !
الصّحابة ما يمكن أن يحزّبوا القرآن هذا التّحزيب فيبترون المعاني أبدًا، لا بدّ أن يكون الحزب على منتهى الكلام، وقد ذكر هذا رحمه الله في التّفسير الذي خرج أخيرًا ، بأنّ تحزيب الصّحابة للقرآن ليس كالتّحزيب الموجود الآن يعني من كلّ وجه ، بل كانوا يراعون الكلام والمعاني المتّصل بعضها ببعض حتى إنّي رأيت بعض المصاحف جعل جزء نصف القرآن : (( فليتلطّف )) قال هذا نصف القرآن ، يبدأ النّصف الثاني من : (( ولا يشعرّن بكم أحدا )) ، فإن أرادوا بالمعنى فهذا غير صحيح ، وإن أرادوا بالحروف والكلمات فهذا شيء يرجع إلى الإحصاء، المهم على كلّ حال أنّ قوله: ( يعضّ أحدكم ) الجملة إيش؟
الطالب : خبريّة.
الشيخ : خبريّة لكنّها إنشائيّة حذفت منها همزة الإسنفهام الدّالّة على الإنكار. وقوله: ( كما يعضّ الفحل ) قلنا : إنّ هذا للتّقبيح لينفر الإنسان من هذه الحال ، لأنّ الفحل عضّه شديد، فحل الإبل، والإبل من أكثر الحيوان حقدا ولا تنسى أبدًا، ذكر لنا أن رجلا كان هنا في البلد في عنيزة، تباع الإبل هنا عند الجامع كان فيه متّسع يسمّى المـَجن وهو سوق للغنم والإبل، وكان مع النّاس واقفا ليشتري بعيرا، فإذا بجمل جاء منصبا إلى دماغ هذا الرّجل، فأمسكه بفمه وضرب به الأرض، وبرك عليه، لولا أنّ الله سبحانه وتعالى يسّر أنّ عادة الناس الذين يبتاعون الإبل ويبيعونها يكون معهم عِصيّ جيّدة فضربوا هذا الجمل حتى مات، وإلاّ لمات الرّجل، فقيل له ما السّبب؟
قال: إنّي مرّة من المرّات أراد النّاقة فمنعته عنها، فجعل هذا الجمل الحقد في قلبه حتى وجده.
فالفحل عَضّه شديد نسأل الله العافية، طيب في هذا ثمّ قال: ( لا دية له ) : ما هي الدّية؟
هي العوض المدفوع عن الجناية على النّفس، وأصلها عن النّفس الكاملة ، ولكن تطلق الدّية حتى على دية الأعضاء والجروح تسمى دية .
وأما ما يدفع ضمانا لغير النّفس والأعضاء والجروح فإنّه لا يسمّى دية ، فلو أنّ إنسانا أتلف بعيرًا أو شاة أو بقرة لشخص ودفع قيمتها فإنّ ذلك لا يسمّى دية، يسمّى قيمة.