تتمة شرح حديث:( معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه ــــ في رجلٍ أسلم ثم تهود ــــ: ( لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله ) فأمر به فقتل، متفقٌ عليه، وفي روايةٍ لأبي داود: ( وكان قد استتيب قبل ذلك).). حفظ
الشيخ : وهذا الرّجل اليهودي كما رأيتم أسلم ثمّ ارتدّ، لأنّ رجوعه إلى دينه بعد أن أسلم ردّة، ويقول: ( لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ) أي: هذا قضاء الله ورسوله أي: حكم الله ورسوله.
والقضاء المضاف إلى الله عّز وجلّ ينقسم إلى قسمين:
قضاء شرعي، وقضاء قدري.
فالقضاء الشّرعي هو : الحكم الشّرعي كالأمر والنّهي وما يتعلّق بهما .
والقضاء القدري هو : الحكم الكوني الذي يقضي به الله عزّ وجلّ ولا بدّ من وقوعه.
مثال الأوّل القضاء الشّرعي: قوله تعالى: (( وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه )) هذا قضاء شرعيّ يعني أمر بذلك.
والدّليل على أنّه قضاء شرعي أنّ من النّاس من لم يعبد الله، ولم يمتثل هذه الأوامر ولو كان قضاء كونيا لامتثل جميع النّاس.
ومثال الثاني وهو القضاء الكوني: قوله تعالى: (( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوّا كبيرا )) : فالقضاء هنا لا شكّ أنّه قضاء قدري إذ لا يمكن أن يقضي الله قضاء شرعيّا يتضمّن الإفساد في الأرض.
هنا قضاء الله ورسوله مراده الشّرعي، قضاء الله ورسوله، ولم يقل: قضاء الله ثمّ رسوله، لأنّ الأحكام الشّرعيّة حقّ سواء من الله أو من رسوله، والحكم الصّادر من الرّسول كالحكم الصّادر من عند الله.
( فأمر به فقتل ): أمر به يحتمل أنّه معاذ بن جبل ويحتمل أنّه أبو موسى، والمهمّ أنّه قتل هذا اليهوديّ لماذا؟
لأنّه أسلم ثمّ ارتدّ.
" متّفق عليه، وفي روايةٍ لأبي داود: ( وكان قد استتيب قبل ذلك ) " : استتيب أي طلب منه التّوبة والرّجوع إلى الإسلام ولكنّه أصرّ فقتل ، هذا الحديث أصل في قتل المرتدّ وكذلك الحديث الذي بعده : " حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ( من بدّل دينه فاقتلوه ) " :
من بدّل دينه أي: دينه الإسلامي فاقتلوه، أما من بدّل دينه غير الإسلامي فإنّنا نرحّب به ولا نقتله، ولكن المراد الدّين دين الإسلام.
هذان حديثان هما أصل في قتل المرتدّ، فلا بدّ إذن أن نعرف من هو المرتدّ؟ المرتدّ هو: الذي كفر بعد إسلامه، وهو في اللّغة هو الرّاجع، مأخوذ من ارتدّ بمعنى رجع، ولكنّه شرعًا هو الذي يكفر بعد إسلامه.
والكفر يدور على شيئين: إما جحد وإما استكبار، فمن جحد شيئا ممّا أخبر الله به ورسولُه، أو ممّا حكم الله به ورسوله فأنكر الحكم وجحده فإنّه كافر، مثال ذلك لو قال: إنّ آية من القرآن ليست منه، قال هذه الآية ليست من القرآن فإنّه كافر، كفر إيش؟
كفر جحود، ولو قال إنّ الصّيام ليس فريضة فهو كافر كفر جحود، ولو صام، ومن قال: إنّ الزّنا ليس محرّما فهو كافر كفر جحود وهلمّ جرّا.
ومن جحد من وصف الله به نفسه فهو كافر إذا كفره كفر جحود، إذا كان إنكاره إنكار جحود، فإن كان إنكاره إنكار تأويل فإنّه لا يكفر بذلك وله أحكام تليق به.
أمّا الاستكبار فأن لا يجحد شيئا ولكن يستكبر عنه كما فعل إبليس، فإنّ إبليس أمر ليسجد لآدم لكنّه أبى واستكبر، لم يجحد الأمر لكنّه استكبر وقال أنا خير منه وقال: (( أأسجد لمن خلقت طينًا )) ، وهكذا لو استكبر أحد عن شيء من فرائض الله ولو أقرّ بوجوبها فإنّه يكون كافراً ، لكن هناك تقييدات فإنّ بعض الشّرائع لا يكفر الإنسان بالاستكبار عنها:
الاستكبار عن الصّلاة، وعن الزّكاة، وعن الصّيام، وعن الحجّ هذا كفر الإستكبار عنهم، وليس هذا من باب التّهاون، التّهاون ليس يرى نفسه أنّه كبير وأنّه أعظم من أن يؤمر!
المستكبر: هو الذي يرى نفسه هو أعظم من أن يؤمر بهذه الشّعائر، والمتهاون متهاون يوجّه الخطاب إليه ويؤمر لكنّه يتهاون فترك التّهاون لا يكفر به إلاّ في إيش؟
الطالب : الصلاة.
الشيخ : في الصّلاة، وأمّا ترك الاستكبار والعلوّ والتّعالي على أوامر الله فهذا يكفر به ولو كان غير الصّلاة حتى لو كان من الزكاة والصّيام والحجّ.
طيب ... من اتّخذ لله صاحبة أو ولدا أو شريكا في الملك أو ما أشبه ذلك، من أيّ أنواع الكفر هذا؟
الطالب : أكبر
الشيخ : نعم، شرك أكبر لكن ذكرنا أنّ الرّدّة تعود على أمرين: الجحود والاستكبار.
الطالب : جحود.
الشيخ : جحود، لأنّه جحد أن يكون الله واحدًا حيث أشرك به، وقد يكون من باب الجحود والإستكبار أيضًا، فإنّ الله نهى أن يشرك به فإذا أشرك به فهو مستكبر.
طيب بناء على ذلك نقول: إنّ الإنسان إذا ارتدّ على الوجه الذي ذكرنا فإنّه ينتقل من وصف الإسلام إلى وصف الكفر، ولكن لا بدّ لهذا من شروط: الشّرط الأوّل: العلم، فإن لم يكن عنده علم فإنّه لا يكفر سواء جحدا أو استكبارا، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: (( وما كنّا معذّبين حتى نبعث رسولا )) ، رسولا لإيش؟
ليعلّم النّاس، وقال تعالى: (( رسلاً مبشرّين ومنذرين لئلاّ يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرّسل )) ، فدلّ ذلك على أنّه إذا لم تبلغ الرّسالة فللنّاس حجّة فلا يكفرون.
وقال الله تعالى: (( وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولًا يتلو عليهم آياتنا وما كنّا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون )) ، قال: (( حتى يبعث في أمّها رسولًا يتلو عليهم آياتنا وما كنّا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون )). وقال الله تعالى: (( وما كان الله ليضلّ قوما بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون )) : حتى يبين لهم ما يتقون.
وقال تعالى: (( وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبيّن لهم )) ، وإذا لم يبيّن فلا فائدة من الرّسالة.
وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ( والذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي من هذه الأمّة يهوديّ ولا نصرانيّ ثمّ لا يؤمن إلاّ بما جئت به إلاّ كان من أصحاب النّار ) فقال: ( لا يسمع ) : وهذا يدلّ على أنّه إذا لم يسمع فليس من أهل النّار، لأنّه جاهل .
وأنكر عمر رضي الله عنه آية من الفرقان لأنّه سمعها من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على غير الوجه الذي سمعها من قارئها، حتى إنّه خاصمه وذهب به إلى الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، فحكم بينهما وقال: ( هكذا أنزلت ) لما قال عمر وقال الرّجل الآخر.
ومعلوم أنّ إنكار حرف أو آية من القرآن كفر، لكن عمر لم يعلم، إذن لا بدّ من العلم.
فإن قال قائل: إذا ادّعى أنّه جاهل فهل تقبل دعوى الجهل؟
نقول: في هذا تفصيل، إن كان في مكان ناء بعيد كمن عاش في بادية بعيدة ليس عندهم من يعلّمهم فإنّ دعوى الجهل منه مقبولة، وإن كان قد عاش بين الناس الذين عندهم علم في هذا الأمر فإنّه لا يقبل، فمن كان حديث عهد بالإسلام هو في بلده بلد كفر يعبدون الأشجار والأصنام ويزنون ويشربون الخمر ثمّ أسلم وقال: إنّ الخمر ليس حرامًا فإنّنا نعذره بذلك لأنّه؟
الطالب : جاهل.
الشيخ : جاهل نعم ويحتمل أن يكون جاهلا ، لكن لو قال : إنّ الخمر غير حرام وهو عائش في بلاد المسلمين فإنّنا لا نقبل منه لأنّ هذه الدّعوى خلاف الظاهر.
الشّرط الثاني : أن يكون قاصدا للكفر، وانتبهوا لكلمة قاصد لأنّها دقيقة، فمن قصد الكفر كفر سواء كان جادا أم هازلا، المهمّ أنّه قصد، فمن نطق بالكفر غير قاصد فإنّه لا يكفر، وتحت هذا عدّة صور:
الصورة الأولى: أن يغضب غضبا شديدا حتى لا يدري ما يقول ثمّ يتكلّم بكلمة الكفر فهذا لا يكفر، لماذا؟
الطالب : لم يقصد .
الشيخ : لعدم القصد.
الصورة الثانية: أن يفرح فرحا شديدا فيقول كلمة الكفر وهو غير قاصد فهو أيضا لا يكفر بدليل صاحب الناقة ، الراحلة التي أضلّها حتى اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت فإذا بخطام ناقته متعلّقا بالشّجرة فأخذ به فقال: ( اللهم أنت عبدي وأنا ربّك، أخطأ من شدّة الفرح ) ولم يكفر، لماذا؟
لأنّه غير قاصد، ما قصد هذا، لكن من شدّة الفرح ما يدري ما يقول.
ويشبه هذا من فعل مكفّرا لكمال تعظيمه لله وخوفه منه لا استهانة بالله مثل الرّجل الذي كان مسرفا على نفسه فقال لأهله: ( والله إن قدر الله عليّ ليعذبّني عذابا لا يعذّبه أحدا من العالمين ، ولكن إذا متّ فأحرقوني واذروني في اليمّ ، ففعل أهله فجمعه الله عزّ وجلّ وقال ما الذي حملك على هذا؟ قال يا ربّ مخافتك، فغفر الله له ) : لأنّ هذا جاهل كيف ينفّذ هذا الخوف من الله عزّ وجلّ، ورأى أنّ هذا أقرب طريق يسلم به من مخافة الله.
ومن صور هذه المسألة أعني: القصد إذا أُكره الإنسان على الكفر ففعله بداعي الإكراه لا قاصدًا إيّاه، فإنّه لا يكفر لقول الله تعالى: (( من كفر بالله مِن بعد إيمانه إلاّ من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم )) :
ولا فرق بين أن يكره على قول أو على فعل، وقصّة الذّبابة التي ذكرت ليست بصحيحة، التي فيها أنّه قيل لأحدهم: قرّب ولو ذبابا فقرّب ذبابا فدخل النار، وقيل للآخر قرّب قال ما كنت لأقرّب لأحد شيئا دون الله ، فإنّها غير صحيحة، ثمّ على فرض صحّتها هي في شرع من قبلنا ، وقد ورد شرعنا بخلافه لقوله تعالى: (( إلاّ من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان )) ولم يقيّد ذلك من أكره بقول.
وكذلك الحديث: ( إنّ الله تجاوز عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه )، المهمّ أنّ هذه الصّور كلّها تدخل تحت كلمة قصد الكفر، ولا فرق بين كونه جادا أو هازلا، يعني: لو نطق بكلمة الكفر جادّا أو هازلا أو فعل فعلة الكفر جادّا أو هازلا فهو كافر، ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى: (( ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) الشرط الثالث .
الطالب : الرابع.
الشيخ : الرّابع؟
الطالب : الثالث الثالث.
الشيخ : الثالث، هذه التي ذكرنا صور، الشّرط الثالث : أن نعلم أنّ هذا الشّيء كفر منطبق على من قام به، بمعنى أن نعرف أنّ هذا كفر دلّ عليه الشّرع، وأنّ من قام به هذا الكفر أو هذا العمل المكفّر قابل لأن يكفر، فإذا لم نعلم أنّه كفر وشككنا هل هذا كفر أو غير كفر فالأصل عدم الكفر وأنّ الإنسان مسلم.
وإذا علمنا أنّه كفر لكن شككنا في حال من قام به، هذا العمل هل هو معذور بتأويل أو جهل أو لا ، فإنّنا أيضا لا نحكم بكفره، ولهذا منع النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام من منابذة الولاّة وقال: ( إلاّ أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان ): فهذه قيود مبيّنة عظيمة : ( أن تروا ) يعني تعلموا وضدّه؟
الطالب : الجهل.
الشيخ : الجهل أو الظّنّ، ( كفرا ) أي: لا فسق، لا بدّ أن نعلم أنّه كفر، ( بواحا ) أي: صريحا واضحا، ( عندكم فيه من الله برهان ) أي: دليل واضح -وآت محمّدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته-
الطالب : حفظك الله بالنسبة للشروط التي ذكرناها لو طبقناها على الواقع الموجود كثيرا في بلاد المسلمين هل ينطبق عليهم هذا؟
الشيخ : إذا وُجدت الشّروط ثَبَت المشروط.