وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : علمني دعاءً أدعو به في صلاتي ، قال : ( قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) . متفق عليه . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
قال -رحمه الله تعالى- " وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ( علمني دعاء أدعو به في صلاتي ) " :
أولًا: اعرف أهمية هذا الدعاء وقدره بمن سأل ولمن سُئل، فالسائل أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وهو أحب الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صاحبه في هجرته، إذن لابد أن يكون لهذا الدعاء شأن كبير، والمسؤول النبي عليه الصلاة والسلام فسوف يعلّم الصديق رضي الله عنه أجمع دعاء وأنفعه .
وقوله : ( علمني دعاء أدعو به في صلاتي ) : في هذا دليل على طلب العلم حتى من الكبراء ، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يأنف من طلب العلم، أو يقول أنا عندي علم فلا أسأل عنه ، هذا أبو بكر رضي الله عنه أعلم الصحابة ومع ذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء.
وفي قوله : ( علمني دعاء أدعو به في صلاتي ) دليل على أن الدعاء في الصلاة من أفضل ما يكون ، فإن الصلاة فيها السجود الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )، وأمرنا أن نجتهد فيه بالدعاء.
وقوله: ( في صلاتي ) لم يبين الموضع فهل يكون في السجود أو بين السجدتين أو بعد التشهد؟
ظاهر صنيع المؤلف رحمه الله أنه يكون بعد التشهد، لأنه ذكره في أدعية التشهد، ولكن الحقيقة أنه أعني: الحديث ليس فيه ما يدل على ذلك، فأنت إذا دعوت الله به في حال السجود أو بعد التشهد فكله حسن، وحسب ما يتيسر لك.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) :
هذا جمع بين الاعتراف والسؤال والثناء ، فجمع كل أنواع ما يدعى به ، لأن دعاء الله عز وجل إما أن يكون بالاعتراف وذكر الحال أو بالثناء المجرد أو بهذا وبهذا جميعا بالدعاء، فهنا دعاء وثناء وذكر حال.
أما الاعتراف وذكر الحال ففي قوله : ( اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ): هذا اعتراف من الإنسان بأنه ظلم نفسه ظلما كثيرا، وفي رواية: ( ظلما كبيرا ): والفرق بينهما أن الكِبَر باعتبار الكيفية، والكثرة باعتبار الكمية، وأكثر الروايات على: كثيرا ، ( ظلما كثيرا ) .
وقوله: ( ظلمت نفسي ) لماذا قال ظلمت نفسي والإنسان يعامل نفسه وإنما يظلم غيره ؟
نقول: لأن نفسك أمانة عندك يجب عليك أن ترعاها حق رعايتها، فلهذا إذا نصحتها شيئًا مما يجب لها فإنك تكون ظالما لها ، وبماذا يكون ظلم النفس؟ ظلم النفس يدور على شيئين:
إما تفريط في واجب، أو انتهاك لمحرم، هذا ظلم النفس:
فمن فرّط في واجباته فقد ظلم نفسه ، ومن انتهك محارم الله فقد ظلم نفسه، ولهذا قال الله عز وجل: (( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه )) .
وقوله: ( ولا يغفر الذنوب إلا أنت ) : هذا الثناء : ( ولا يغفر الذنوب إلا أنت ) هذا هو الثناء، ثناء على الله بأنه لا أحد يغفر الذنوب إلا الله ، كما قال الله تعالى في سورة آل عمران : (( ومن يغفر الذنوب إلا الله )) ، لو اجتمع الخلق كلهم على أن يغفروا لك زلة من الزلات في حق الله عز وجل فإن ذلك لا يمكن، مستحيل، أما الذنوب التي بينك وبين الخلق فيمكن أن يغفروا لك كما قال الله تعالى: (( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله )) وقال تعالى: (( وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم )) .
لكن في حق الله عز وجل لا يمكن لأحد أن يغفر لك ذنبك، وإنما الذي يغفره الله عز وجل.
وقوله: ( ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك ): فاغفر لي هذا الدعاء، فاغفر لي، وقد سبق لنا مرارا وتكرارا بأن المغفرة هي: ستر الذنب والتجاوز عنه، لأنها مأخوذة من المِغفر الذي يغطى به الرأس عند الحرب، والمغفر يستر الرأس ويقيه السهام، ففيه ستر ووقاية.
وقوله: ( فاغفر لي مغفرة من عندك ): نكرّها، مغفرة، لأن التنكير يدل على التعظيم، وهنا نكرّها للتعظيم.
ثم زادها تعظيما بقوله: ( من عندك ): فأضافها إلى الله عز وجل، لأن المغفرة من الكريم تكون أعظم وأكبر.
وقوله: ( وارحمني ) عطف على ( فاغفر لي )، وذلك أن الإنسان محتاج إلى معونة الله تعالى في شيئين:
غفران لذنوب مضت، ورحمة يسلم بها من ذنوب مستقبلة:
فالمغفرة للذنوب الماضية، والرحمة للعصمة من الذنوب في المستقبل، وقد يقال: وجه آخر المغفرة بها زوال المكروه، والرحمة بها حصول المطلوب، فإن الله عز وجل يذكر نعمه على العباد ويجعلها من آثار رحمته، وكلٌ صحيح، فأنت إذا سألت الله المغفرة والرحمة تسأل الله مغفرة ما سلف والرحمة في العصمة مما يستقبل، أو تسأل الله مغفرة الذنوب التي بها زوال المكروه والرحمة التي بها حصول المطلوب.
ثم قال: ( إنك أنت الغفور الرحيم ) هذا كالتعليل للدعاء، لأنه سأل شيئين: هما المغفرة والرحمة، ثم أتى بعدهما باسمين من أسماء الله يتضمنان ذلك وهما: ( إنك أنت الغفور الرحيم ) : وأنت هنا يقول أهل النحو: إنها ضمير فصل، وضمير الفصل له ثلاث فوائد:
التوكيد، والثاني الحصر، والثالث التمييز بين الخبر والصفة، ولهذا سمي فصل يفصل، التمييز بين الخبر والصفة.
فأنت إذا قلت: زيد الفاضل يحتمل أن تكون الفاضل صفة لزيد والخبر ما بعد حضر، ولكن إذا قلت: زيد هو الفاضل تعين أن تكون الفاضل خبرًا، فلهذا سمي ضمير فصل.
والصحيح من أقوال المعربين أنه حرف لا محل له من الإعراب، كما قال الله تعالى: (( لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم )) الغالبون ولا الغالبين ؟
(( الغالبين )) بالياء، فدل هذا على أنه لا محل لها من الإعراب.
هذا الدعاء الذي علمه النبي عليه الصلاة والسلام الصديقَ رضي الله عنه ينبغي الإنسان أن يدعو به في صلاته، إما بعد التشهد لقول النبي عليه الصلاة والسلام لابن مسعود رضي الله عنه في حديث ابن مسعود : ( ثم ليتخير من الدعاء ما شاء ) ، ولا شك أن ما عينه النبي عليه الصلاة والسلام وأرشد إليه خير مما نعينه نحن، لأن الأدعية الواردة أجمع وأنفع من الأدعية المستحدثة، وإن كان الإنسان له أن يدعو بما شاء ما لم يكن إثما، لكن الحفاظ على الأدعية الواردة أولى وأحسن.
وإما أن يقال: محله السجود لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )، وأيٌّ جعلته في هذا أو هذا فإنه لا بأس به .
هذا الدعاء قلنا إنه تضمن ثلاثة أمور يتوصل إلى الله بها في الدعاء:
أولاً : الاعتراف ، والثناء ، والطلب ، وقد يكون الدعاء مجرّد إخبار بالحال واعتراف كقول موسى: (( رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير )) : أخبر عن نفسه فقط ، والله عز وجل إذا أخبره عبده بحاله فمعناه أنه يسأله أن يزيل تلك الحال إلى حال خير منها.
وقد يكون الدعاء دعاء مجردًا فقط، مثل قول الإنسان في صلاته: رب اغفر لي وارحمني بين السجدتين ما تقدمه ثناء، بل هو دعاء محض.
وقد يكون ثناء محضًا، قد يكون الدعاء ثناءً محضًا، يعني تثني على الله عز وجل اللهم أنت الكريم العظيم الرحيم وما أشبه ذلك، فهذا أيضا من الدعاء ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك ) إلى آخره ، هذا الحديث الذي علمه النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر جامع للأصناف الثلاثة.
الطالب : شيخ ...!
الشيخ : نعم.
الطالب : ما يستدلون به؟
الشيخ : لا، ما يستدلون به، لأنك نطقت ما كتبت، وهم يقولون: لا تدع وهذا من أكبر المنكرات.
الطالب : قول بعضهم ...
الشيخ : يعني لأنه متضمن للدعاء، ولكنه ماهو بصريح هو.
الطالب : والإخبار بالحال؟
الشيخ : ماهو بصريح لكن الإخبار بالحال يتضمن الدعاء.
الطالب : يتضمن.
الشيخ : إيه.