وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة : ( اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن ، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا ، وأعوذ بك من عذاب القبر ) . رواه البخاري . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
قال -رحمه الله تعالى- : " وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة ) " :
( يتعوذ بهن ) : هذا فيه إعادة الضمير على متأخر لفظا ورتبة وهو شاذ وقليل كما قال ابن مالك :
" وشذ نحو زان نوره الشجر ".
ولكن ما دام المعنى واضحًا فإنه لا بأس به .
يقول: ( كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة ) : دبر يحتمل أن يكون معناه ما بعد الصلاة، ويحتمل أن يكون معناه آخر الصلاة، لأن آخر الشيء دبره، فآخر الشيء دبر الشيء هو آخره ، وكذلك دبر الشيء ما كان بعده ، ( فتسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ) : المراد ما بعد الصلاة. وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ( لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك ) : هذا في آخر الصلاة قبل السلام، والمرجَّح: أن ما كان ذكرًا فالمراد بالدبر فيه ما بعد الصلاة، وما كان دعاء فالمراد بالدبر فيه ما كان في آخر الصلاة .
والقرينة التي ترجح ذلك أن الذكر أمر الله به بعد الصلاة، فقال: (( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله )) ، فيكون كل ذكر قيّد بدبر الصلاة يكون بعدها .
وأما الدعاء فإننا نرجح أن دبر الصلاة فيه آخرها ، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود : ( ثم ليتخير من الدعاء ما شاء ) ، ولأن الإنسان يدعو الله عز وجل في أثناء الصلاة قبل أن ينصرف منها ، والإنسان في صلاته كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( يناجي ربه ) ، وعلى هذا فيكون المشهور أن يدعو بهذه الدعوات ، أو يتعوذ من هذه الأشياء في آخر الصلاة.
يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن ) : كلاهما شح ومنع، لكن البخل منع لبذل المال في محله، والجبن منع لبذل النفس في محله، ولهذا ضد الجبن الشجاعة، وضد البخل الكرم.
فالبخيل هو الذي يمنع ما ينبغي بذله من المال، أو من الأعمال أيضًا، ولهذا جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ ) .
وأما الجبن فإنه منع ما ينبغي بذله من النفس، وضده الشجاعة .
واعلم أن منع ما لا ينبغي بذله من المال ليس ببخل ، ولكنه اقتصاد واعتدال فإذا كان الإنسان لا يتهور بالإنفاق، وإنما ينفق المال حسب ما شرعه لله ورسوله، فهذا ليس ببخيل، وإنما هو مقتصد ومعتدل في إنفاقه، والله عز وجل يقول: (( كلوا واشربوا ولا تسرفوا )).
وبهذه المناسبة أود أن أنبه أن بعض الناس يتبع النساء فيما يُنفَق ، حتى إنك تجده يشتري أشياء ما لها داعي وليس لها حاجة كله من أجل إرضاء أهله ، وهذا أمر لا ينبغي ، بل الذي ينبغي أن يكون الإنسان معتدلا في إنفاقه ، ويمكنه أن يقنع زوجته أو من طلب من أهله أن ينفق وأن يشتري كذا وأن يشتري كذا ، يقنعهم بما يعطيه الله عز وجل من البيان والإقناع .
وأما الجبن : فإن الجبن لا يكون جُبناً إذا كان في موضع ينبغي فيه الإحجام، انتبهوا الجبن لا يكون جبنا في موضع ينبغي فيه الإحجام، ولهذا ما ينبغي أن تقدم إلا بعد أن تعرف النتيجة كما قال المتنبي:
" الرأي قبل شجاعة الشجعان *** هو أولٌ وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ حرة *** بلغت من العلياء كل مكان "
.
فالإنسان لا يتهور بل ينظر ويتأمل، فإذا كان للإقدام مكان أقدم، وإذا كان للإحجام مكان أحجم، وكما قيل أيضا وأظنه المتنبي :
" ووضع الندى في موضع السيف بالعُلا *** مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى ".
وضع الندى : يعني كرم في موضع السيف للعلا مضر ، كوضع السيف في موضع الندى ، فإذا كان الحال تقتضي الكرم والعفو والصفح ، صار السيف وضعه مضر بالعلا ، وإذا كان الأمر بالعكس صار الكرم وضعه مضرا بالعلا. والمهم أن الجبن الذي هو ضد الشجاعة لا يكون جُبنا إذا كان المقام لا يقتضي الإقدام.
ومن ثَم ينبغي للإنسان أن يتأنى في أموره وألا يتعجل حتى يعرف النتائج.
( وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر ) : أرذله أنقصه وأردئه ، والإنسان يرد إلى أرذل العمر إما لعلة طارئة وإما لتقدم في السن، الكبير إذا كبر يرد إلى أرذل العمر، تجده مثل الصبي، بل إنه أبلغ من الصبي، لأن الصبي حتى الآن لم يعرف ويرجى أن يعرف، فأهله يتحملون منه هذا الرداء وهذا النقص في عقله، لأنهم يؤملون أنه يزول ويترقى العقل والفهم .
لكن الذي والعياذ بالله وصل إلى كبر حتى صار عقله في منزلة الصبي يكون الرجاء فيه بعيد، فيُتعب أكثر، ثم إن هذا الذي رُد إلى أرذل العمر قد عرف بعض الأشياء، ولهذا تجده بعض الأحيان يصر على أهله أن يأتوا بها، مثلا إذا كان من أصحاب الغنم صار يهذي بالغنم، يوقظ أهله من النوم في وقت الليل يقول: جيبوا لي العنزة الفلانية مثلا، وإذا كان من أهله الأموال تجده أيضا يهذي فيها، هذا يتعب، لكن الصبي هل في باله هذا الشيء حتى يتعبهم؟
أبدًا، ولهذا سمي أرذل العمر، وأرذل صفة اسم تفضيل، يعني مافي العمر أرذل منه ولا حالة الصغر.
من أن يرد إلى أرذل العمر أقول: إن أرذل العمر قد يكون طارئا وقد يكون طارئا عارضا كما لو حصل للإنسان وجع في دماغه من حادث أو غيره وقد يكون بسبب الكبر .
( وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر ) : من فتنة الدنيا، فتنة الدنيا تقدم لنا معناها، وهو: كل أمر أو بالأصح تعود إلى أمرين:
إما شبهات وإما شهوات:
الشبهات معناه أن الإنسان يخفى عليه الحق، إما لكثرة البدع والأفكار السيئة أو لغير ذلك من الأسباب، فتجده يكون حيران والعياذ بالله، ما يدري أن يذهب.
وإما شهوة: يكون عارفا بالحق عالما به لكنه لا يريده، نفسه تريد وتهوى خلاف الحق، النصارى فتنتهم شبهة ولا شهوة ؟
الطالب : شبهة.
الشيخ : هاه؟ النصارى؟
الآن شهوة لا شك، لكن حين تلقوا دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام كانت شبهة ، لأنهم ضالون ، واليهود شهوة لأنهم عالمون بالحق ، وكل من خالف الحق عالم به فقد فتن فتنة شهوة والعياذ بالله.
وكل من خالف الحق جاهلا به فقد فتن فتنة شبهة .
كثير من الناس الآن فتنوا في الدنيا فتنة شهوة يعلمون ما أوجب الله عليهم، ولا أظن الناس في عصر من العصور المتأخرة كانوا أعلم بالمسائل الشرعية من عصرنا هذا، لكن والعياذ بالله صار عندهم شهوات، ميل إلى الباطل.
أو ما كتبوا يشتبه عليه، لو كان عنده قرار وعقيدة سليمة لكن مع التلبيس والعياذ بالله صار قد يشتبه عليه الحق.
( وأعوذ بك من عذاب القبر ) : عذاب القبر ثابت كما سبق في القرآن والسنة وإجماع المسلمين.
ثابت بالقرآن والسنة وإجماع المسلمين : ما دليله من القرآن ؟
دليله من القرآن عدة آيات، منها قوله تعالى في آل فرعون: (( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ))، ومنها قوله تعالى: (( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون )) : اليوم ، وأل هنا للعهد ما نوعه؟
للعهد الحضوري، مثلها في قوله تعالى: (( اليوم أكملت لكم دينكم )) يعني اليوم الحاضر.
(( اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون )) .
ومنها قوله تعالى: (( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق )) : إذ : ظرف ، إذ يتوفى ، فصار هذا الأمر متى ؟
حينما يتوفون، تتوفاهم الملائكة ، وأما السنة فكثيرة دلالتها كثيرة ظاهرة تبلغ إلى قريب التواتر.
وأما إجماع المسلمين: فكل المسلمين يقولون في صلاتهم: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات إلى آخره، فهل يتعوذ الناس من شيء لا وجود له ؟
ما يمكن، لولا أن له وجودًا ما تعوذوا بالله منه، وعلى هذا فيكون عذاب القبر ثابتا بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
ولكن هذا العذاب غيبي، من نعمة الله عز وجل أن الله لا يطلع عليه أحدًا إلا من شاء من خلقه، لأنه لو اطلع الناس عليه لما تدافنوا، ولو اطلع الناس عليه لكان في ذلك فضيحة للمقبور، ولو اطلع الناس عليه لكان في ذلك عار على أهله، ولو اطلع الناس عليه لكان في ذلك أذى على أهله، ولكن من حكمة الله عز وجل أن الله أخفاه، ولو اطلع الناس عليه أيضًا ما كان للإيمان به فائدة، لأنه يكون الآن من أمور الشهادة، والفضل كل الفضل بالإيمان بالغيب. عذاب القبر الأصل أنه على الروح، ولكنها قد تتصل بالبدن، ولاسيما حال الدفن، حين يسأل الإنسان عن ربه ودينه ونبيه، فإنه يضرب بمرزبة من حديد إذا لم يجب، يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين، نعوذ بالله.
وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه مر بقبرين في المدينة وقال: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) .
فهذه الخمس كان الرسول عليه الصلاة والسلام يتعوذ بهن دبر كل صلاة : ( اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر ).