فوائد الحديثين ( أن أم سليم - وهي امرأة ابن أبي طلحة - قالت : يا رسول الله ! إن الله لا يستحيي من الحق ...)و ( فقالت أم سلمة : وهل يكون هذا ...) حفظ
الشيخ : فالحديث هذا فيه فوائد :
منها : الأدب العالي في الصحابة رضي الله عنهم ، وذلك يتمثل في قول أم سليم : ( إن الله لا يستحي من الحق ) .
ومنها : وصف الله تعالى بالحياء ، لقولها : ( لا يستحي من الحق ) ، ولو كان الحياء ممتنعا على الله لامتنع عليه الحياء مطلقا من حق وغير حق ، فلما نفى أن يستحي من الحق دلَّ على أنه تعالى يستحي من غيره ، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة : أن الله يوصف بالحياء ، وهو صفة حقيقية ثابتة لله على الوجه اللائق به ، وليس كحيائنا نحن ، بل بينه وبين حيائنا كما بين الإنسان وذات الله عز وجل ، فهو لا يشبه حياء المخلوقين ، وبهذه الطريق وعلى هذا الأساس نسلم من كل شبهة ، ونريح قلوبنا أيضًا ، لأن مذهب أهل السنة والحمد لله هين سهل فيه براءة للذمة وفيه إعمال للنصوص كلها ، فنحن نثبت الحياء لله على وجه يليق به ولا يشبه حياء المخلوقين .
وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام وصف الحياء إثباتاً لا نفياً حيث قال : ( إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا ) :
فقال : ( إن الله حيي كريم ) .
فإن قال قائل : إن الله لا يوصف إلا بالكمال فهل الحياء كمال ؟
فالجواب : نعم هو كمال ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحياء شعبة من الإيمان ) والإيمان كمال ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن مما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى ) أكمل ؟
( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) : وهذا الحديث له معنيان :
المعنى الأول : أن الذي ليس عنده حياء يصنع ما يشاء ولا يبالي.
والمعنى الثاني : أنك إذا أردت أن تفعل شيئا وهو لا يستحيا منه فافعله : ( اصنع ما شئت ) وكلا المعنيين صحيح.
فإن قال قائل : هل من الحياء أن يسكت الإنسان عن الشيء من دين الله يشكل عليه ؟
فالجواب : لا ، ليس هذا من الحياء ، بل هذا من الخَوَر والجبن وضعف الشخصية ، والواجب أن يسأل الإنسان عن كل شيء يتعلق بدينه لاسيما بعد أن انقطع الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإننا الآن قد أمنا أن ينزل الوحي بتحريم شيء حلال أو إيجاب شيء غير واجب فليسأل ولا يستحي ، نعم إذا كان الشيء مما يستحيا من التصريح به فليكني عنه وباب الكناية واسع ، وإذا كان مما لا بد أن يصرح به لكن أراد الإنسان أن يكون السؤال بينه وبين المسؤول فليؤخر لا بأس ، أما إذا كان خاليا من هذا فإن الحياء يعني الجبن وضعف الشخصية وهو حرام بهذه المثابة ، الواجب على الإنسان أن يسأل كما أمر الله تعالى : (( فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) .
ومن فوائد هذا الحديث : أن النساء يحتلمن كما يحتلم الرجال ، لقولها رضي الله عنها : ( هل على المرأة غسل إذا هي احتلمت ) وإذا في الغالب تقال للشرط المحقق لكنها شرط للزمان ، لا للوقوع ، بخلاف إن فإنها شرط للوقوع. ومن فوائد هذا الحديث : أن الاحتلام بلا إنزال لا يجب فيه الغسل ، حتى لو أحس الإنسان باللذة ولكن لم يخرج شيء فلا غسل عليه ، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قيد هذا بما إذا رأت الماء .
ومن فوائد هذا الحديث : أنها أي : المرأة ومثلها الرجل لو رأى بعد استيقاظه أثر الجنابة وتيقن أنه مني وجب عليه الغسل ، وإن لم يذكر احتلامًا، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مدار الحكم على رؤية الماء، وهذا يقتضي أنه متى رؤي الماء فإنه يجب الغُسل، ولهذا قيد بعض الفقهاء هذه فقال : من موجبات الغسل : خروج المني دفقًا بلذة من غير نائم، وقصده بذلك: أن النائم قد ينزل ولا يحس بنفسه، لا يدري بنفسه لكنه إذا استيقظ رأى أثر الجنابة فهنا يجب الغسل .
ومن فوائد هذا الحديث : أنه لا يجب الغسل بانتقال المني إذا لم يخرج ، لقوله : ( إذا هي رأت الماء ) .
وهذا القول هو الراجح ، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المني إذا انتقل ولكن لم يخرج لفتور الشهوة أو لغير ذلك من الأسباب فإنه يجب عليه الغسل، لكن هذا قول ضعيف، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قيد وجوب الغسل بماذا ؟
برؤية الماء، ولأن الشيء في باطنه لا يعتبر شيئاً، ولهذا أجسامنا ممتلئة بالماء ممتلئة بالعذرة ممتلئة بالبول ولا يكون هذا نجساً، حتى إن العلماء ضربوا مثلا قالوا : لو أن رجلا حمل وهو يصلي قارورة فيها نجاسة وظاهرها طاهر مفصول والغطاء محكم فالصلاة غير صحيحة ، ولو حمل طفلا فالصلاة صحيحة ، مع أن بطنه مملوء من القاذورات، لكن لأن الشيء في معدنه ليس له حكم.
طيب إذًا نقول: هذا الحديث يدل على أن الإنسان لو أحس بانتقال المني لقوة شهوته ولكن لم يخرج فلا غسل عليه .
وهل مثله انتقال الحيض؟ يعني لو أن المرأة أحست بانتقال الحيض لكن لم يخرج الدم فهل نقول انتقاله كخروجه ؟
الجواب: إن قلنا إن انتقال المني كخروجه صار انتقال الحيض كخروجه، وإن قلنا : لا، صار انتقال الحيض ليس كخروجه، وتظهر الفائدة في امرأة صائمة أحست قبل غروب الشمس بقليل بأن الحيض انتقل، ولكن لم يخرج إلا بعد غروب الشمس، فعلى القول بأن الانتقال كالخروج يكون صومها باطلا، وعلى القول الراجح صومها صحيح، لأنه لم يخرج إلا بعد غروب الشمس .
ومن فوائد هذا الحديث : أنه لا يجب الغُسل مع الشك، وجه ذلك الأخ نعم؟ .
الطالب : لا يجب الغسل ؟
الشيخ : مع الشك، إذا وجد النائم بللا بعد استيقاظه ولا يدري أهو جنابة أم بول أم مذي ما يدري هل يجب عليه الغسل أو لا ؟
الطالب : لا ، لا يجب .
الشيخ : لا يجب من أين تأخذ هذا ؟
من قوله : ( إذا رأت الماء ) ، إذا رأت ، لم يقل : إذا ظنت الماء أو إذا غلب على ظنها ، قال : ( إذا رأت الماء ).
طيب فإذا استيقظ النائم ورأى بللا ولا يدري أهو عرق أو بول أو مذي أو سائل آخر أو مني فليس عليه غسل .
ولكن هل يجب عليه أن يغسل ما أصابه ؟
نقول : نعم ، يغسله احتياطا ، أما الغسل فلا يجب ، ولا فرق في ذلك بين أن يتقدم نومه ما يثير الشهوة أو لا ، ما دام على شك فالأصل براءة الذمة، وهذا الحديث يدل على ما ذكرنا .
ومن فوائد الحديث : الفائدة العظيمة وهي : أن الشريعة الإسلامية مبنية على الحقائق لا على الأوهام ، ولا على الظنون ، إلا فيما طُلب من الإنسان فعله فلا حرج عليه أن يبني على ظنه ، على ظنه أنه أتى بالفعل المطلوب.
لكن الأوهام الطارئة على أصل ثابت هذه لا عبرة بها في الشريعة ، وهذه قاعدة من أحسن قواعد الإسلام، حتى يبقى الإنسان غير متحير ولا قلق وإلا لبقي الإنسان في أوهام لا نهاية لها .
أما ما طولب الإنسان به وغلب على ظنه أنه أداه فإن الظن يكفي، ولهذا قلنا : إذا شك هل طاف سبعة أشواط أو ستة وغلب على ظنه أنها سبعة كم تكون ؟
سبعة ، كذلك أيضا في الصلاة : شك هل صلى ثلاثا أو أربعا وغلب على ظنه أنها أربع فهي أربع ، لكن الصلاة فيها سجود سهو ، والطواف ليس فيه سجود سهو ، لأن أصله ليس فيه سجود فكذلك سهوه.
المهم أن هذه من نعمة الله عز وجل: أن الشريعة الإسلامية تحارب القلق محاربة تامة ، والحمد لله هذا من تيسير الله ، لو أن الإنسان كلما أصيب بما يوجب الشك ذهب مع الشك ما قر له قرار، ولا اطمأن له بال، لكن من نعمة الله هو ما ذكرته، كذلك مر علينا من قبل في قصة الرجل الذي يجد في نفسه شيئا ويشكل عليه أخرج منه أم لا فقال : ( لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ) .
ومن فوائد هذا الحديث ولا سيما زيادة مسلم : جواز استكشاف الأمر حتى من الكبراء ، بمعنى : أن الإسلام جعل للإنسان الحرية أن يستكشف عن الأمر الذي يمكن إدراكه ، وذلك في قول أم سلمة : ( هل يكون ذلك ؟ ) وهي تخاطب من ؟
تخاطب الرسول ، وهي تعلم رضي الله عنها أن الرسول أقرَّ أن المرأة تحتلم لأنه من لازم حكمه أن عليها الغسل إذا رأت الماء أن يكون الاحتلام واقعًا، فهي قد عرفت أن الرسول أقرها لكن استكشفت كيف يكون ذلك؟ وهل يكون ؟ فمن فوائده : جواز الاستكشاف عما يمكن إدراكه وبيانه ، أما ما لا يمكن فالاستكشاف عنه غلط ، ولهذا قال الإمام مالك -رحمه الله- في الذي سأل عن كيفية الاستواء قال : " السؤال عنه بدعة " ، لكن ما يمكن إدراكه لا بأس أن تسأل .
ومن فوائد هذا الحديث : تواضع النبي صلى الله عليه وسلم التواضع الجم، حيث إن زوجته تتكلم تقول : هل يكون هذا ؟
وربما يظن السامع أنها تعترض وحاشاها من ذلك ، ولكنها تريد أن تستكشف، بينما لو أن أحدنا كلمته زوجته في مثل هذا، جاءت امرأة تستفتيه وقال : عليك كذا وكذا، فقالت الزوجة : كيف يصير عليها كذا وكذا هل يمكن ؟ ماذا يقول ؟
الطالب : اسكتي.
الشيخ : لا ما يكفي اسكتي لقال شيء أثقل، على كل حال هذا من خلق النبي عليه الصلاة والسلام وحسن سيرته .
ولكن يا إخوان إذا مر عليكم مثل هذا وقيل : هذا من سيرة الرسول هذا من خلقه هل المراد أن تعلموه علما نظريا ؟
أجيبوا ؟
لا أبدا المراد أن تطبقوه وإلا فما الفائدة ، فينبغي للإنسان أن يمارس مثل هذه الأمور وأن يعود نفسه على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتاده في أهله. ومن فوائد هذا الحديث -ويأتي إن شاء الله نؤجله للدرس القادم وإلا ؟ الله أكبر ترى بعد فيه فوائد- نعم ؟
الطالب : بارك الله فيكم ما الذي يعني جعل العلماء رحمهم الله قد يقول : بين الأصل بقاء ما كان على ما كان وبين أن العبادات التي يمكن أن يتيقن فيها الإنسان إذا غلب على ظنه مثل الصلاة ؟
الشيخ : نعم .
الطالب : لو شك غلب على ظنه ... لكن عنده ظن لماذا ؟
الشيخ : أليس الرسول قال فيمن سها في صلاته : ( فليتحر الصواب )؟
الطالب : بلى .
الشيخ : انتهى .
الطالب : هذا لم يتحر يا شيخ ؟
الشيخ : نعم .
الطالب : قابل لأن يتحرى .
الشيخ : إيش ؟
الطالب : ليس أمامه إلا أن يتحرى .
الشيخ : طيب يتحرى إذا قال تحريت وغلب على ظنه أن هذا السابع وكذلك الأمر في السعي ، السعي لطوله أحيانا يأتي للإنسان الشك .
الطالب : شيخ ؟
الشيخ : نعم ؟
الطالب : شيخ بارك الله فيكم من أين أخذنا بعض الفوائد مثل أن الاحتلام بلا إنزال لا يجب الغسل ، وكذلك لو رأت أو رأى هو الماء وتيقن أنه جنابة لكن لم يذكر احتلام .
الشيخ : نعم .
الطالب : فلا يغتسل من نفس الحديث من أين ؟
الشيخ : أي من نفس الحديث .
الطالب : من أين ؟
الشيخ : أما الأول فواضح : إذا احتلم ولم ير ماء واضح ، لأنه قال : ( إذا رأت الماء ) ، ذكرنا لكم أن الشيخ عفا الله عنه حذف هذه الجملة وهي مهمة، ابن حجر حذفها وهي مهمة .
الطالب : بعض النسخ فيها موجودة .
الشيخ : على كل حال أنا ما قلت ، بعض النسخ ما كلها ، الحديث أولا المؤلف رحمه الله اختصره اختصارا مخلا ، يعني لو أتى بكلام أم سليم من أوله إلى آخره كان فيه فوائد مهمة ، لكن هو رحمه الله أحيانا يختصر .
الطالب : إذًا يا شيخ هذه الفوائد من الحديث الذي ؟
الشيخ : أنا قلت لكم : أنا ذكرته لكم هذا الإخوان عندهم بعض النسخ موجودة ، نعم ؟
الطالب : أحسن الله إليكم يا شيخ المرأة إذا كان معها رطوبة ، المعروفة برطوبة فرج المرأة ، وذكرت احتلاما ، ثم لما أفاقت ترددت هل هذا الماء الذي رأت مرده الرطوبة التي معها أو هو احتلام الذي ذكرته ؟
الشيخ : ومن عادته أن تكون الرطوبة على هذا الوجه ؟
الطالب : ما أدري .
الشيخ : تُسأل، إن كان من عادته تحمل على العادة، يعني ما يجب عليها الغسل، وإن كان عادته أن رطوبتها في الفرج لا تتعدى الفرج إلا إذا قامت ومشت فيحمل على أنه جنابة ، لأن هنا عندنا قرينتان :
ظاهر وعادة ، الظاهر الاحتلام الذي رأته ، والعادة إذا كان من عادتها دائما تكون الرطوبة هذه تخرج وهنا نحكم بالعادة كما حكم النبي عليه الصلاة والسلام على المستحاضة بإيش ؟
بالعادة نعم، أذنا لهذا ، نعم ؟
الطالب : شيخ أحسن الله إليك هل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى ، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا هي رأت الماء ) .
الشيخ : يقول المصنف الرسول ما هو بنفسه يا رجل وإلا .
الطالب : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأت الماء ) هل يؤخذ من هذا أن الإنسان كلما أحس بشيء أو يتحرك هل يوجد شيء ؟
الشيخ : لا ، نعم إن رأى في المنام احتلاما فلا بأس أن يبحث لأنه أحيانا يرى احتلام ثم لا يغلب على ظنه أنه حصل شيء وإذا قام في النهار وجد فهذا لا بأس لأجل القرينة قلنا دور .
من أين يكون شبهها إلا من أهلها ، فقد ينزع إلى أخواله وهذا هو الواقع المحسوس ، ويدل له حديث الأعرابي الذي قال : ( يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود ) يعني : فكيف كان هذا الأسود من بين أبوين أبيضين فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : ( هل لك من إبل ؟ قال : نعم . قال : ما ألوانها ؟ قال : حمر ، قال : هل فيها من أورق ؟ قال : نعم . قال : من أين أتاها ؟ قال : لعله نزعه عرق . قال : فابنك لعله نزعه عرق ) .
فالشبه يكون في اللون وفي تقاسيم الوجه وفي الأطراف كالأصابع والكفين والقدمين وما أشبه ذلك من قبل الأب ومن قبل الأم .
ولهذا لما رأى مجزز المدلجي لما أرى أقدام زيد بن حارث وابنه أسامة وقد تغطيا بلحاف قال : ( إن هذه الأقدام بعضها من بعض ) .
وفي هذا الحديث من الفوائد :
: أنه ينبغي تعداد الأدلة وتنويعها ، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( نعم ) وهذا دليل شرعي يكتفى به عند كل مؤمن ، وأضاف إلى هذا الدليل دليلا حسيا وهو قوله : ( فمن أين يكون الشبه ؟ ) .
ومن فوائد هذا الحديث : أنه ينبغي للمستدل أن يذكر الدليل الذي يقتنع به المخاطب من الناحيتين الشرعية والحسية ، وكذلك العقلية إذا أمكن ، لأنه كلما ازدادت الأدلة ازداد الإنسان طمأنينة ، ويدل لهذا الأصل العظيم أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة السلام : (( قال رب أرني كيف تحي الموتى )) فقال الله له : (( أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي )) فليس الخبر كالمعاينة فأراه الله عز وجل ذلك فيما أمره به أن يفعل ففعل فرأى كيف يحيي الله الموتى عز وجل.
ومن فوائد هذا الحديث : أنه ربما يُستدل بالشبه على ثبوت النسب ، لقوله : ( فمن أين يكون الشبه ؟ ) ، ويؤيد هذا ما ورد في قصة عتبة بن أبي وقاص حينما زنى فولد له ولد من الزنا ، فلما مات عُتبة تنازع أخوه سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في هذا الولد الذي ولد ، عبد بن زمعة قال : ( يا رسول الله هذا أخي ولد على فراش أبي ، وقال سعد : هذا ابن أخي عتبة عَهِد به إليَّ ، وقال سعد للرسول عليه الصلاة والسلام : يا رسول الله انظر شبهه ، فنظر إليه النبي عليه الصلاة والسلام فرأى شبها بينًا بعتبة ) : فأعمل هذا الشبه عليه الصلاة والسلام لم يلغه ، ولكنه أحال الحكم على سبب أقوى وهو الفراش ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( الغلام لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش وللعاهر الحجر ) :
فثبت الآن أن هذا الغلام أخ لسودة بنت زمعة زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولكنه لما رأى الشبه البين بعتبة قال لها : ( احتجبي منه يا سودة ) ، فهنا أعمل الشبه مع أن الولد شرعاً الذي حصل فيه التنازع لمن ؟
لزمعة ، شرعًا يرثه إخوانه ويرثونه وبينهما محرمية ، لكن أعمل النبي صلى الله عليه وسلم الشبه وجعل سودة تحتجب منه من باب الاحتياط نظرًا لهذا الشبه، فدل ذلك على اعتبار الشبه في الحكم في الأمور الاحتياطية ، على أن الاحتلام في النساء قليل .
منها : الأدب العالي في الصحابة رضي الله عنهم ، وذلك يتمثل في قول أم سليم : ( إن الله لا يستحي من الحق ) .
ومنها : وصف الله تعالى بالحياء ، لقولها : ( لا يستحي من الحق ) ، ولو كان الحياء ممتنعا على الله لامتنع عليه الحياء مطلقا من حق وغير حق ، فلما نفى أن يستحي من الحق دلَّ على أنه تعالى يستحي من غيره ، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة : أن الله يوصف بالحياء ، وهو صفة حقيقية ثابتة لله على الوجه اللائق به ، وليس كحيائنا نحن ، بل بينه وبين حيائنا كما بين الإنسان وذات الله عز وجل ، فهو لا يشبه حياء المخلوقين ، وبهذه الطريق وعلى هذا الأساس نسلم من كل شبهة ، ونريح قلوبنا أيضًا ، لأن مذهب أهل السنة والحمد لله هين سهل فيه براءة للذمة وفيه إعمال للنصوص كلها ، فنحن نثبت الحياء لله على وجه يليق به ولا يشبه حياء المخلوقين .
وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام وصف الحياء إثباتاً لا نفياً حيث قال : ( إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا ) :
فقال : ( إن الله حيي كريم ) .
فإن قال قائل : إن الله لا يوصف إلا بالكمال فهل الحياء كمال ؟
فالجواب : نعم هو كمال ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحياء شعبة من الإيمان ) والإيمان كمال ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن مما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى ) أكمل ؟
( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) : وهذا الحديث له معنيان :
المعنى الأول : أن الذي ليس عنده حياء يصنع ما يشاء ولا يبالي.
والمعنى الثاني : أنك إذا أردت أن تفعل شيئا وهو لا يستحيا منه فافعله : ( اصنع ما شئت ) وكلا المعنيين صحيح.
فإن قال قائل : هل من الحياء أن يسكت الإنسان عن الشيء من دين الله يشكل عليه ؟
فالجواب : لا ، ليس هذا من الحياء ، بل هذا من الخَوَر والجبن وضعف الشخصية ، والواجب أن يسأل الإنسان عن كل شيء يتعلق بدينه لاسيما بعد أن انقطع الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإننا الآن قد أمنا أن ينزل الوحي بتحريم شيء حلال أو إيجاب شيء غير واجب فليسأل ولا يستحي ، نعم إذا كان الشيء مما يستحيا من التصريح به فليكني عنه وباب الكناية واسع ، وإذا كان مما لا بد أن يصرح به لكن أراد الإنسان أن يكون السؤال بينه وبين المسؤول فليؤخر لا بأس ، أما إذا كان خاليا من هذا فإن الحياء يعني الجبن وضعف الشخصية وهو حرام بهذه المثابة ، الواجب على الإنسان أن يسأل كما أمر الله تعالى : (( فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) .
ومن فوائد هذا الحديث : أن النساء يحتلمن كما يحتلم الرجال ، لقولها رضي الله عنها : ( هل على المرأة غسل إذا هي احتلمت ) وإذا في الغالب تقال للشرط المحقق لكنها شرط للزمان ، لا للوقوع ، بخلاف إن فإنها شرط للوقوع. ومن فوائد هذا الحديث : أن الاحتلام بلا إنزال لا يجب فيه الغسل ، حتى لو أحس الإنسان باللذة ولكن لم يخرج شيء فلا غسل عليه ، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قيد هذا بما إذا رأت الماء .
ومن فوائد هذا الحديث : أنها أي : المرأة ومثلها الرجل لو رأى بعد استيقاظه أثر الجنابة وتيقن أنه مني وجب عليه الغسل ، وإن لم يذكر احتلامًا، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مدار الحكم على رؤية الماء، وهذا يقتضي أنه متى رؤي الماء فإنه يجب الغُسل، ولهذا قيد بعض الفقهاء هذه فقال : من موجبات الغسل : خروج المني دفقًا بلذة من غير نائم، وقصده بذلك: أن النائم قد ينزل ولا يحس بنفسه، لا يدري بنفسه لكنه إذا استيقظ رأى أثر الجنابة فهنا يجب الغسل .
ومن فوائد هذا الحديث : أنه لا يجب الغسل بانتقال المني إذا لم يخرج ، لقوله : ( إذا هي رأت الماء ) .
وهذا القول هو الراجح ، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المني إذا انتقل ولكن لم يخرج لفتور الشهوة أو لغير ذلك من الأسباب فإنه يجب عليه الغسل، لكن هذا قول ضعيف، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قيد وجوب الغسل بماذا ؟
برؤية الماء، ولأن الشيء في باطنه لا يعتبر شيئاً، ولهذا أجسامنا ممتلئة بالماء ممتلئة بالعذرة ممتلئة بالبول ولا يكون هذا نجساً، حتى إن العلماء ضربوا مثلا قالوا : لو أن رجلا حمل وهو يصلي قارورة فيها نجاسة وظاهرها طاهر مفصول والغطاء محكم فالصلاة غير صحيحة ، ولو حمل طفلا فالصلاة صحيحة ، مع أن بطنه مملوء من القاذورات، لكن لأن الشيء في معدنه ليس له حكم.
طيب إذًا نقول: هذا الحديث يدل على أن الإنسان لو أحس بانتقال المني لقوة شهوته ولكن لم يخرج فلا غسل عليه .
وهل مثله انتقال الحيض؟ يعني لو أن المرأة أحست بانتقال الحيض لكن لم يخرج الدم فهل نقول انتقاله كخروجه ؟
الجواب: إن قلنا إن انتقال المني كخروجه صار انتقال الحيض كخروجه، وإن قلنا : لا، صار انتقال الحيض ليس كخروجه، وتظهر الفائدة في امرأة صائمة أحست قبل غروب الشمس بقليل بأن الحيض انتقل، ولكن لم يخرج إلا بعد غروب الشمس، فعلى القول بأن الانتقال كالخروج يكون صومها باطلا، وعلى القول الراجح صومها صحيح، لأنه لم يخرج إلا بعد غروب الشمس .
ومن فوائد هذا الحديث : أنه لا يجب الغُسل مع الشك، وجه ذلك الأخ نعم؟ .
الطالب : لا يجب الغسل ؟
الشيخ : مع الشك، إذا وجد النائم بللا بعد استيقاظه ولا يدري أهو جنابة أم بول أم مذي ما يدري هل يجب عليه الغسل أو لا ؟
الطالب : لا ، لا يجب .
الشيخ : لا يجب من أين تأخذ هذا ؟
من قوله : ( إذا رأت الماء ) ، إذا رأت ، لم يقل : إذا ظنت الماء أو إذا غلب على ظنها ، قال : ( إذا رأت الماء ).
طيب فإذا استيقظ النائم ورأى بللا ولا يدري أهو عرق أو بول أو مذي أو سائل آخر أو مني فليس عليه غسل .
ولكن هل يجب عليه أن يغسل ما أصابه ؟
نقول : نعم ، يغسله احتياطا ، أما الغسل فلا يجب ، ولا فرق في ذلك بين أن يتقدم نومه ما يثير الشهوة أو لا ، ما دام على شك فالأصل براءة الذمة، وهذا الحديث يدل على ما ذكرنا .
ومن فوائد الحديث : الفائدة العظيمة وهي : أن الشريعة الإسلامية مبنية على الحقائق لا على الأوهام ، ولا على الظنون ، إلا فيما طُلب من الإنسان فعله فلا حرج عليه أن يبني على ظنه ، على ظنه أنه أتى بالفعل المطلوب.
لكن الأوهام الطارئة على أصل ثابت هذه لا عبرة بها في الشريعة ، وهذه قاعدة من أحسن قواعد الإسلام، حتى يبقى الإنسان غير متحير ولا قلق وإلا لبقي الإنسان في أوهام لا نهاية لها .
أما ما طولب الإنسان به وغلب على ظنه أنه أداه فإن الظن يكفي، ولهذا قلنا : إذا شك هل طاف سبعة أشواط أو ستة وغلب على ظنه أنها سبعة كم تكون ؟
سبعة ، كذلك أيضا في الصلاة : شك هل صلى ثلاثا أو أربعا وغلب على ظنه أنها أربع فهي أربع ، لكن الصلاة فيها سجود سهو ، والطواف ليس فيه سجود سهو ، لأن أصله ليس فيه سجود فكذلك سهوه.
المهم أن هذه من نعمة الله عز وجل: أن الشريعة الإسلامية تحارب القلق محاربة تامة ، والحمد لله هذا من تيسير الله ، لو أن الإنسان كلما أصيب بما يوجب الشك ذهب مع الشك ما قر له قرار، ولا اطمأن له بال، لكن من نعمة الله هو ما ذكرته، كذلك مر علينا من قبل في قصة الرجل الذي يجد في نفسه شيئا ويشكل عليه أخرج منه أم لا فقال : ( لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ) .
ومن فوائد هذا الحديث ولا سيما زيادة مسلم : جواز استكشاف الأمر حتى من الكبراء ، بمعنى : أن الإسلام جعل للإنسان الحرية أن يستكشف عن الأمر الذي يمكن إدراكه ، وذلك في قول أم سلمة : ( هل يكون ذلك ؟ ) وهي تخاطب من ؟
تخاطب الرسول ، وهي تعلم رضي الله عنها أن الرسول أقرَّ أن المرأة تحتلم لأنه من لازم حكمه أن عليها الغسل إذا رأت الماء أن يكون الاحتلام واقعًا، فهي قد عرفت أن الرسول أقرها لكن استكشفت كيف يكون ذلك؟ وهل يكون ؟ فمن فوائده : جواز الاستكشاف عما يمكن إدراكه وبيانه ، أما ما لا يمكن فالاستكشاف عنه غلط ، ولهذا قال الإمام مالك -رحمه الله- في الذي سأل عن كيفية الاستواء قال : " السؤال عنه بدعة " ، لكن ما يمكن إدراكه لا بأس أن تسأل .
ومن فوائد هذا الحديث : تواضع النبي صلى الله عليه وسلم التواضع الجم، حيث إن زوجته تتكلم تقول : هل يكون هذا ؟
وربما يظن السامع أنها تعترض وحاشاها من ذلك ، ولكنها تريد أن تستكشف، بينما لو أن أحدنا كلمته زوجته في مثل هذا، جاءت امرأة تستفتيه وقال : عليك كذا وكذا، فقالت الزوجة : كيف يصير عليها كذا وكذا هل يمكن ؟ ماذا يقول ؟
الطالب : اسكتي.
الشيخ : لا ما يكفي اسكتي لقال شيء أثقل، على كل حال هذا من خلق النبي عليه الصلاة والسلام وحسن سيرته .
ولكن يا إخوان إذا مر عليكم مثل هذا وقيل : هذا من سيرة الرسول هذا من خلقه هل المراد أن تعلموه علما نظريا ؟
أجيبوا ؟
لا أبدا المراد أن تطبقوه وإلا فما الفائدة ، فينبغي للإنسان أن يمارس مثل هذه الأمور وأن يعود نفسه على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتاده في أهله. ومن فوائد هذا الحديث -ويأتي إن شاء الله نؤجله للدرس القادم وإلا ؟ الله أكبر ترى بعد فيه فوائد- نعم ؟
الطالب : بارك الله فيكم ما الذي يعني جعل العلماء رحمهم الله قد يقول : بين الأصل بقاء ما كان على ما كان وبين أن العبادات التي يمكن أن يتيقن فيها الإنسان إذا غلب على ظنه مثل الصلاة ؟
الشيخ : نعم .
الطالب : لو شك غلب على ظنه ... لكن عنده ظن لماذا ؟
الشيخ : أليس الرسول قال فيمن سها في صلاته : ( فليتحر الصواب )؟
الطالب : بلى .
الشيخ : انتهى .
الطالب : هذا لم يتحر يا شيخ ؟
الشيخ : نعم .
الطالب : قابل لأن يتحرى .
الشيخ : إيش ؟
الطالب : ليس أمامه إلا أن يتحرى .
الشيخ : طيب يتحرى إذا قال تحريت وغلب على ظنه أن هذا السابع وكذلك الأمر في السعي ، السعي لطوله أحيانا يأتي للإنسان الشك .
الطالب : شيخ ؟
الشيخ : نعم ؟
الطالب : شيخ بارك الله فيكم من أين أخذنا بعض الفوائد مثل أن الاحتلام بلا إنزال لا يجب الغسل ، وكذلك لو رأت أو رأى هو الماء وتيقن أنه جنابة لكن لم يذكر احتلام .
الشيخ : نعم .
الطالب : فلا يغتسل من نفس الحديث من أين ؟
الشيخ : أي من نفس الحديث .
الطالب : من أين ؟
الشيخ : أما الأول فواضح : إذا احتلم ولم ير ماء واضح ، لأنه قال : ( إذا رأت الماء ) ، ذكرنا لكم أن الشيخ عفا الله عنه حذف هذه الجملة وهي مهمة، ابن حجر حذفها وهي مهمة .
الطالب : بعض النسخ فيها موجودة .
الشيخ : على كل حال أنا ما قلت ، بعض النسخ ما كلها ، الحديث أولا المؤلف رحمه الله اختصره اختصارا مخلا ، يعني لو أتى بكلام أم سليم من أوله إلى آخره كان فيه فوائد مهمة ، لكن هو رحمه الله أحيانا يختصر .
الطالب : إذًا يا شيخ هذه الفوائد من الحديث الذي ؟
الشيخ : أنا قلت لكم : أنا ذكرته لكم هذا الإخوان عندهم بعض النسخ موجودة ، نعم ؟
الطالب : أحسن الله إليكم يا شيخ المرأة إذا كان معها رطوبة ، المعروفة برطوبة فرج المرأة ، وذكرت احتلاما ، ثم لما أفاقت ترددت هل هذا الماء الذي رأت مرده الرطوبة التي معها أو هو احتلام الذي ذكرته ؟
الشيخ : ومن عادته أن تكون الرطوبة على هذا الوجه ؟
الطالب : ما أدري .
الشيخ : تُسأل، إن كان من عادته تحمل على العادة، يعني ما يجب عليها الغسل، وإن كان عادته أن رطوبتها في الفرج لا تتعدى الفرج إلا إذا قامت ومشت فيحمل على أنه جنابة ، لأن هنا عندنا قرينتان :
ظاهر وعادة ، الظاهر الاحتلام الذي رأته ، والعادة إذا كان من عادتها دائما تكون الرطوبة هذه تخرج وهنا نحكم بالعادة كما حكم النبي عليه الصلاة والسلام على المستحاضة بإيش ؟
بالعادة نعم، أذنا لهذا ، نعم ؟
الطالب : شيخ أحسن الله إليك هل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى ، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا هي رأت الماء ) .
الشيخ : يقول المصنف الرسول ما هو بنفسه يا رجل وإلا .
الطالب : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأت الماء ) هل يؤخذ من هذا أن الإنسان كلما أحس بشيء أو يتحرك هل يوجد شيء ؟
الشيخ : لا ، نعم إن رأى في المنام احتلاما فلا بأس أن يبحث لأنه أحيانا يرى احتلام ثم لا يغلب على ظنه أنه حصل شيء وإذا قام في النهار وجد فهذا لا بأس لأجل القرينة قلنا دور .
من أين يكون شبهها إلا من أهلها ، فقد ينزع إلى أخواله وهذا هو الواقع المحسوس ، ويدل له حديث الأعرابي الذي قال : ( يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود ) يعني : فكيف كان هذا الأسود من بين أبوين أبيضين فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : ( هل لك من إبل ؟ قال : نعم . قال : ما ألوانها ؟ قال : حمر ، قال : هل فيها من أورق ؟ قال : نعم . قال : من أين أتاها ؟ قال : لعله نزعه عرق . قال : فابنك لعله نزعه عرق ) .
فالشبه يكون في اللون وفي تقاسيم الوجه وفي الأطراف كالأصابع والكفين والقدمين وما أشبه ذلك من قبل الأب ومن قبل الأم .
ولهذا لما رأى مجزز المدلجي لما أرى أقدام زيد بن حارث وابنه أسامة وقد تغطيا بلحاف قال : ( إن هذه الأقدام بعضها من بعض ) .
وفي هذا الحديث من الفوائد :
: أنه ينبغي تعداد الأدلة وتنويعها ، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( نعم ) وهذا دليل شرعي يكتفى به عند كل مؤمن ، وأضاف إلى هذا الدليل دليلا حسيا وهو قوله : ( فمن أين يكون الشبه ؟ ) .
ومن فوائد هذا الحديث : أنه ينبغي للمستدل أن يذكر الدليل الذي يقتنع به المخاطب من الناحيتين الشرعية والحسية ، وكذلك العقلية إذا أمكن ، لأنه كلما ازدادت الأدلة ازداد الإنسان طمأنينة ، ويدل لهذا الأصل العظيم أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة السلام : (( قال رب أرني كيف تحي الموتى )) فقال الله له : (( أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي )) فليس الخبر كالمعاينة فأراه الله عز وجل ذلك فيما أمره به أن يفعل ففعل فرأى كيف يحيي الله الموتى عز وجل.
ومن فوائد هذا الحديث : أنه ربما يُستدل بالشبه على ثبوت النسب ، لقوله : ( فمن أين يكون الشبه ؟ ) ، ويؤيد هذا ما ورد في قصة عتبة بن أبي وقاص حينما زنى فولد له ولد من الزنا ، فلما مات عُتبة تنازع أخوه سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في هذا الولد الذي ولد ، عبد بن زمعة قال : ( يا رسول الله هذا أخي ولد على فراش أبي ، وقال سعد : هذا ابن أخي عتبة عَهِد به إليَّ ، وقال سعد للرسول عليه الصلاة والسلام : يا رسول الله انظر شبهه ، فنظر إليه النبي عليه الصلاة والسلام فرأى شبها بينًا بعتبة ) : فأعمل هذا الشبه عليه الصلاة والسلام لم يلغه ، ولكنه أحال الحكم على سبب أقوى وهو الفراش ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( الغلام لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش وللعاهر الحجر ) :
فثبت الآن أن هذا الغلام أخ لسودة بنت زمعة زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولكنه لما رأى الشبه البين بعتبة قال لها : ( احتجبي منه يا سودة ) ، فهنا أعمل الشبه مع أن الولد شرعاً الذي حصل فيه التنازع لمن ؟
لزمعة ، شرعًا يرثه إخوانه ويرثونه وبينهما محرمية ، لكن أعمل النبي صلى الله عليه وسلم الشبه وجعل سودة تحتجب منه من باب الاحتياط نظرًا لهذا الشبه، فدل ذلك على اعتبار الشبه في الحكم في الأمور الاحتياطية ، على أن الاحتلام في النساء قليل .