فوائد حديث : ( خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وما يكفي بينك ) . حفظ
الشيخ : في هذا الحديث فوائد كثيرة :
منها : جواز الدخول على المفتي في بيته لقول عائشة : ( دخلت امرأة أبي سفيان ) ، ولكن يشترط لذلك يشترط ألا يخلو بها ، وأن يأمن الفتنة ، فإن خلا بها حرم عليها الدخول ، وإن لم تؤمن الفتنة حرم الدخول أيضا وهذان الشرطان متوفران في هذه القضية ، لأن هندًا دخلت في حضور عائشة والفتنة قطعا مأمونة .
ومن فوائد هذا الحديث : أنه يجوز بيان أو تعيين الشخص باسمه منسوباً إلى أبيه وإلى من له علاقة به ، كقولهم : بنت عتبة : نسبة للأب ، امرأة أبي سفيان نسبة من لها به علاقة ، كما لو قلت : أبو بكرٍ بن أبي قحافة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيعَين الشخص بأمرين ، وفائدة التعيين هنا متعينة أو ذكر ما فيه التعيين متعين .
ومن فوائد هذا الحديث : جواز ذكر الغير بما يكره للحاجة ، لقولها : ( إن أبا سفيان رجل شحيح ) : وهذه حاجة أن تبين حالة ، لأن حاله تنبني عليها الفتوى ، ولو لم تذكر هذه الحال لم تمكن الفتوى ، فإذا دعت الحاجة إلى ذكر الغير بما يكره كان ذلك جائزاً .
ويؤخذ من هذه المسألة الفردية : " أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد ، وكانت المصالح أكبر جاز ارتكاب المفاسد " ، هنا لا يمكن أن تتحقق المصلحة إلا بارتكاب هذه المفسدة ، وهي ذكر أبي سفيان بما يكره ، لأنا نعلم علم اليقين أن أبا سفيان يكره أن يذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف ، ولكن الحاجة داعية إلى هذا .
وقد مرَّ علينا أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد فإن ترجحت المصالح انغمرت المفاسد فيها ، وإن ترجحت المفاسد انغمرت المصالح فيها ، وإن تساوى الأمران فماذا نصنع ؟
الطالب : يقدم دفع المفسدة .
الشيخ : يقدم دفع المفسدة ، وعلى هذا يتنزل قول الفقهاء أو الأصوليين : " درء المفاسد أولى من جلب المصالح " .
ومن فوائد الحديث : أنه يجوز للمرأة أن تصف زوجها بالعيب عند الحاجة ، مثل أن تصفه بأنه شحيح ، بأنه سريع الغضب ، بأنه يهجرها ، وما أشبه ذلك ، لأن هذا أمر لا بد منه ، ولكن لا شك أن الصبر خير إلا أن هند رضي الله عنها لها من يتعلق بها وهم الأبناء .
ومن فوائد الحديث : ذكر التفصيل بعد الإجمال ، وأن الإجمال لا يفيد إذا لم يبيَّن لقولها : ( لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني ) ، لأن مطلق أنه رجل شحيح ما يكفي في الواقع ، لا بد أن نعرف ، لأن الشح قد يكون شحًا في نظر رجل وليس شحًا في نظر آخر ، ربما تقول المرأة : إن هذا الزوج شحيح لأنه لم يأت لها بكنب ، ولم يأت لها بحلي كثير ، ولم يأت بغرفة نوم تساوي عشرة آلاف وما أشبه ذلك ، لكن عندما نرجع للواقع نجد أن مثل هذا الرجل الذي أعطاها ما يناسب حالها نجد أنه إيش ؟ غير شحيح ، فلا بد أن يذكر أن يبين المجمل حتى ينبني الحكم عليه .
ومن فوائد هذا الحديث : أن للمرأة ولاية على أبنائها ، يؤخذ مِن قوله : ( ما يكفيني ويكفي بني ) ، ووجه الدلالة من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل لها : أنت غير مكلفة ببنيك بل الأمر إلى أبيهم، لم يقل هكذا بل شرع لها ما يحصل به ما تحصل به الكفاية لها ولبنيها.
ومن فوائد هذا الحديث : صدق الصحابة رضي الله عنهم وصراحتهم وبيانهم للواقع وإن كان على رؤوسهم يؤخذ من قولها : ( إلا ما أخذت من ماله ) فهي لم تكتم هذا الفعل حتى تسأل عنه بل أخبرت به وستعمل ما يوجهها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني بإمكانها أن تقول : هل يجوز أن آخذ ما يكفيني ويكفي بني دون أن تقول : ( إلا ما أخذت بغير علم ) ، ممكن أن تقول هكذا ، لكن الصحابة رجالا ونساء هم أطهر الناس قلوبًا وأصرحهم وأبينهم للواقع .
ومن فوائد هذا الحديث : حرص الصحابة رضي الله عنهم على معرفة الحق ، لمجرد العلم به أو للعمل به ؟
الطالب : للعمل به .
الشيخ : الثاني ولا الأول ؟
الطالب : الثاني .
الشيخ : الثاني بلا شك ، الثاني يحرصون على معرفة الحق للعمل به لا لمجرد أن يعلموا أن هذا هو الحق وأن ذاك هو الباطل بل للعمل ، والشواهد في هذا كثيرة جدا ، حتى إنهم يستسلمون أحيانا لأمر الله ورسوله وإن لم يعرفوا وجهه ، لأن ذلك هو تمام العبودية ، من أين يؤخذ هذا ؟ مِن سؤالها عن هذا الحكم الذي قامت به وفعلته .
ومن فوائد هذا الحديث : أنه يجوز للمرأة أن تأخذ مِن مال زوجها بغير علمه ما تحتاج إليه من النفقة ، وجه الدلالة من قوله : ( خذي من ماله بالمعروف ) ولكن هل تأخذ من جيبه أو تأخذ من حقيبة دراهمه أو تأخذ من صندوقه أو تأخذ من الرف الذي يضع فيه النفقة أو من أين ؟
الطالب : الأسهل .
الشيخ : نعم من الأسهل والأخفى أيضا ، الأسهل والأخفى ، لأنه مثلا إذا وضع على الرف عشرة دراهم معينة عشرة ثم أخذ منها شيئا انتبه ، لكن إذا كان عنده في الصندوق مليون وأخذت عشرة ريالات مثلا تبين ولا ما تبين ؟ الطالب : ما تبين .
الشيخ : ما تبين ، إذًا الأسهل والأخفى ، تأخذ الأسهل والأخفى .
طيب ومن فوائد هذا الحديث : أنه لا يجوز للمرأة إذا أذن لها في الأخذ من مال زوجها للنفقة أن تأخذ ما خرج عن العادة والعرف ، لقوله : ( خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك ) .
ومن فوائد هذا الحديث أيضا : جواز القضاء على الغائب ، جواز القضاء على الغائب ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى على أبي سفيان وهو غائب ، هكذا قال بعض العلماء ، واستدل بهذا الحديث ، ولكنه عند التأمل لا يدل على ما ذهب إليه ، لأن الحديث ليس من باب المحاكمة ولكنه من باب الاستفتاء ، ولو كان من باب المحاكمة لقال الرسول عليه الصلاة والسلام : هل عندك بينة ؟ لأن القاعدة الشرعية : ( أن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ) : وعلى هذا فلا يكون في الحديث دليل على القضاء على الغائب ، ولكن هذه المسألة -وهي القضاء على الغائب- هل هي جائزة أو لا ؟ نقول : هي جائزة إذا دعت الحاجة إليها ، ويكون الغائب على حجته إذا حضر ، وفي هذه الحال أي : في حال ما إذا جاز القضاء على الغائب ، لا يمكن المقضي له من السيطرة على المال إلا برهن يُحرِز أو ضامنٍ مَلِي خوفا من إيش؟ خوفا من أن تكون دعواه باطلة ، فيضيع حق الغائب .
ومن فوائد هذا الحديث : جواز مخاطبة الرجل الأجنبي عند الحاجة ، وجهه أن هندَ خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم وكلمته .
فلو قال قائل : هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن المحذور من المخاطبة في حقه بعيد أو ممتنع ، فالجواب على هذا أن نقول : الأصل عدم الخصوصية ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهذه الأمور له خصائص لم تكن لغيره ، فيجوز له أن يخلو بالمرأة الأجنبية ، ويجوز أن تكشف المرأة له وجهها ، ويجوز أن يتزوج بلا ولي ، ويجوز أن يتزوج أكثر من أربع ، ولكن نقول : هذه الأشياء التي ذكرتها الآن قام الدليل على اختصاصه بها ، أما المخاطبة فلم يقم دليل على اختصاصه بها ، بل إن الدليل قام على أنها ليست خاصة به ، بدليل أن النساء كن يتكلمن بحضرة الرجال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم ينههن عن ذلك ، بل إن القرآن يدل على جواز مخاطبة المرأة للرجل الأجنبي ، لقوله تعالى : (( فلا تخضعن بالقول فيطمع الَّذي في قلبه مرضٌ )) فإن قوله : (( فلا تخضعن بالقول )) نهي عن الأخص ، والنهي عن الأخص يدل على جواز الأعم وهو مطلق القول .
ولكن يجب ألا نغفل قاعدة معروفة : " وهي أنه إذا ترتب على المأذون محذور مُنع " ، فلو كان في مخاطبة المرأة للرجل الأجنبي محذور فإنه يمنع وإن كان في الأصل جائزا ، لأن المباح من خصائصه أنه تتعلق به الأحكام الخمسة ، كل مباح فإنه تتعلق به الأحكام الخمسة ، ومعنى ذلك أنه يمكن أن يكون هذا المباح حراما ويمكن أن يكون واجبا ، ويمكن أن يكون مستحبا ، ويمكن أن يكون مكروها ، نعم ، ونضرب مثلا بالبيع :
البيع حلال بنص القرآن : (( وأحل الله البيع )) ، قد يكون حراماً : (( يأيها الَّذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع )) وقد يكون واجباً : (( يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم )) : فإذا كان لا يمكنني غسل وجهي إلا بشراء الماء كان الشراء واجباً ، وإذا اشترى الإنسان بصلا ليأكله عند قرب الصلاة ماذا يكون ؟ يكون مكروها ، فإن قصد ألا يصلي مع الجماعة صار حراما .
وبقي بعض الفوائد منها :
ما يسمى عند العلماء بمسألة الظفر ، يعني من له حق على شخص ، فكتمه ذلك الشخص إما عدوانا وإما نسيانا ، فهل لصاحب الحق أن يأخذ من ماله بقدر حقه أو لا ؟
من العلماء من قال : له ذلك لأنه في هذه الحال مقتص لنفسه وليس بمعتدي وقد قال الله تعالى : (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) .
وقال بعض أهل العلم : لا يأخذ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) : فالذين قالوا : إنه يأخذ استدلوا بما سمعتم من العلة ، واستدلوا أيضا بحديث هند ، حيث أذن لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تأخذ من مال أبي سفيان بغير علمه ما يكفيها ويكفي بنيها ، والذين منعوا ذلك استدلوا بالحديث : ( أدِ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) : وحقك لن يضيع إن ضاع في الدنيا فإنه لا يضيع في الآخرة ، وربما يكون انتفاعك به في الآخرة خيرا لك من انتفاعك به في الدنيا ، والصحيح في هذه المسألة أن يقال : إذا كان سبب الحق ظاهرًا فلصاحب الحق أن يأخذ حقه بغير علم المحقوق ، مثل النفقة ، فإنَّ سبب النفقة ظاهر كلٌّ يعرف أن هذه زوجة فلان وأن على الزوج أن ينفق على زوجته ، نفقة القريب سببها ظاهر ولا غير ظاهر ؟
الطالب : ظاهر .
الشيخ : ما هو ؟
الطالب : القرابة .
الشيخ : القرابة ، كل يعرف أن هذا قريب فلان وأن فلانا فقير وفلانا غني فللفقير الذي تجب نفقته على الغني أن يأخذ من مال الغني بغير علمه ما يكفيه ، الضيف إذا نزل بقوم ولم يضيفوه فله أن يأخذ من مالهم بغير علمهم ما يكفي لضيافته ، لأن سببها الضيافة ، لأن سبب الضيافة معلوم ، وهو نزول هذا الضيف ، وهذا القول هو الذي يدل عليه حديث عائشة في قصة هند وبه تجتمع الأدلة ، كما أننا لو أجزنا لمن له حق على شخص وكتمه المحقوق ، لو أجزنا أن يأخذ من ماله بغير علمه حصل بذلك فوضى واضطراب ، لأنه يقتضي أن يعطى المدعي بدعواه بغير بينة ، إذ لو كان لهذا المدعي بينة لكانت البينة تثبت حقه ثم يأخذه منه في في المستقبل ، ولو فتح الباب للناس لحصل في هذا فوضى ومفاسد كبيرة ، وهذا القول هو القول الراجح : أنه إذا كان سبب الحق ظاهرا فلصاحبه أن يأخذ من مال المحقوق بغير علمه بقدر ما يكفيه .
طيب ، ومن فوائد هذا الحديث : الرجوع إلى العرف واعتباره لقوله : ( بالمعروف ) ، ( خذي من ماله بالمعروف ) ، وما هو المعروف ؟
المعروف : هو العرف المضطرد الذي اعتاده الناس ، فإن اختلف الناس في العرف فالمرجع إلى الأكثر والأغلب ، لأن الرجوع إلى الأكثر والأغلب في مسائل كثيرة في الدين فكذلك في العرف .
وهل يقدم العرف على اللغة وعلى الشرع أو لا ؟
الجواب : الشرع مقدم على العرف ، والعرف مقدم على اللغة ، الشرع مقدم على العرف والعرف مقدم على اللغة ، ويظهر ذلك في باب الأيمان ، فمن حلف ألا يتوضأ فاستنجى ، فإننا إذا رجعنا إلى العرف قلنا : إن هذا الرجل حنث ، لأن العرف الشائع بين العامة أن الوضوء هو إيش ؟ الاستنجاء غسل الفرج ، ولو رجعنا إلى اللغة قلنا : أيضًا يمكن أن يكون هذا من باب الوضوء وأنه حنث ، لأن الوضوء في اللغة النظافة ، وإن رجعنا إلى الشرع قلنا : إنه لا يحنث ، لأن الاستنجاء لا يسمى وضوءا في الشرع ، إذًا نغلب إيش ؟ نغلب جانب الشرع .
كذلك لو حلف رجلٌ ألا يشتري شاة فاشترى ماعزًا ، فإن رجعنا إلى العرف قلنا : إنه لا حنث عليه ، لأن العرف عندنا أن الشاة هي الأنثى من الضأن ، وأما الأنثى من الماعز فتسمى عنزة ، وإن رجعنا إلى اللغة قلنا : إنه يحنث ، لأن اللغة أعم وأشمل من العرف ، وهلم جرا .
فإذًا ما كان له حقيقة شرعية وعرفية ولغوية يرجع في ذلك أولا إلى الشرع ، ثم يقدم العرف على اللغة ، لأن اللغة عرف قوم بادوا وذهبوا ، وجاءت لغة جديدة حلت محل اللغة الأولى وتعارف الناس عليها ، فيُعمل بها ، فالولد مثلا في اللغة يشمل الذكر والأنثى ، وفي العرف خاص بالذكر ، فإذا حلف شخص قال : والله لأعطين ولد فلان كذا ، فأعطى بنت فلان ، فإنه ، هذا ما فيه شرع هذا لغة ، لغة ولا عرف ، قال : والله لا أكلم ولد فلان ، فكلم بنته إن اعتبرنا اللغة يحنث ، لأن البنت تسمى ولدا ، وإن اعتبرنا العرف لم يحنث ، لأن العرف أن الولد خاص بالابن ، فنقدم الحقيقة العرفية ونقول : هذا الرجل لم يحنث لأنه لم يكلم ولد فلان وإنما كلم بنت فلان .
على كل حال العرف معتبر شرعا في مواطن كثيرة ، ولكن إذا تعارضت الحقائق الشرعية والحقائق العرفية قدمت الحقائق الشرعية ، ثم العرفية ، ثم اللغوية .
ومن فوائد هذا الحديث : أن المعتبر في النفقات الكفاية ، وأن ما زاد عليها فليس بواجب ، لقوله : ( ما يكفيك وما يكفي بنيك ) ، وما زاد على الكفاية فليس بواجب ، ووجه ذلك : يعني الحكمة من ذلك : أننا لو اعتبرنا ما زاد على الكفاية واتبعنا الهوى في ذلك لم يكن لهذا حد ، ولاسيما فيما يتعلق بالنساء وحاجتهن ، فإننا لو أطلقنا العنان للنساء لكانت المرأة كلما جاء ثوب جديد قالت : اشتره لي ، حتى لو تتغير الموضة بين عشية وضحاها طالبت بما حدث في العشاء وألغت ما حدث في الصباح ، فيقال : الواجب هو الكفاية .