وعن طارق المحاربي - رضي الله تعالى عنه - قال : قدمنا المدينة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، يخطب الناس . ويقول : ( يد المعطي العليا ، وابدأ بمن تعول : أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ثم أدناك فأدناك ) . رواه النسائي ، وصححه ابن حبان والدارقطني . حفظ
الشيخ : ثم ننتقل إلى الحديث الثاني وهو مبتدأ درس الليلة -السؤال بعدين- : قال : " وعن طارق المحاربي رضي الله عنه قال : ( قدمنا المدينة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، يخطب الناس . ويقول : يد المعطي العليا ، وابدأ بمن تعول : أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ثم أدناك فأدناك ) رواه النسائي ، وصححه ابن حبان والدارقطني " :
قوله : ( قدمنا المدينة ) : أل في المدينة للعهد الذهني ، إذ لا ينصرف الذهن إلا إلى مدينة معهودة ، وهي مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، واسمها طيبة ، وكان اسمها بالجاهلية يثرب لكن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى عدم رغبته بتسميتها بهذا الاسم فقال : ( يقولون يثرب ، وهي طيبة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد ) ، فلا ينبغي أن تسمى يثرب .
وأما قوله تعالى : (( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم )) : فهو حكاية قول المنافقين ، وحكاية قول الغير قد يكون إقرارا وقد لا يكون إقرارا ، وتسمى المدينة بدون أن يُلحق إليها وصف آخر ، وكفى بها فخرا ألا يفهم من المدينة عند الإطلاق إلا مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وأما زيادة المنورة فهي حادثة ما علمتها في عبارات السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، ولهذا نرى أن حذفها أولى ، وإذا كان لا بد من وصفها بشيء فلتوصف بالنبوية ، المدينة النبوية نسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وقوله : ( قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : إذا تسمى عند النحويين فجائية لدلالتها على المفاجأة ، يعني ففاجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( قائم على المنبر بخطب الناس ) : والذي يظهر أن هذا كان في يوم الجمعة ، لأن الغالب أن خطبته على المنبر تكون في يوم الجمعة ، والمنبر : مِفعل من النبر وهو الارتفاع .
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام أول ما قدم المدينة يخطب إلى جذع نخلة ، ثم صُنع له منبر من خشب من الأثل ، ( فلما قام عليه أول جمعة بدأ الجدع يصيح ويسمع له خوار كخوار البعير لفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المنبر فجعل يسكته حتى سكت كما تسكت الأم صبيها ) : وهذا من آيات الله ، فإذا كان جذع جماد يبكي لفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أفلا يجدر بالمسلمين أن يبكوا لفقد سنة الرسول عليه الصلاة والسلام في كثير من البلاد الإسلامية اليوم ، والله إنه لجدير بنا ولكن القلوب قاسية .
ويقول : ( يد المعطي العليا ) ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) : واليد العليا هي يد المعطي ، والسفلى يد الآخذ ، لأن منزلة المعطي فوق منزلة الآخذ ومنزلة الآخذ دون منزلة المعطي ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يذل لأحد بسؤال أو استشراف نفس إلا عند الضرورة ، فللضرورة أحكام ، وأما ما دمت في غنى عن سؤال الناس فلا تسأل الناس ، لا تسأل ، فإن الناس وإن جادوا وإن كانوا كرماء فإن طبيعة النفوس تشعر بالمنة من المعطي على الآخذ ، وإن كان الرجل المؤمن لا يمُن على الناس ولا يظهر أن له مِنة عليهم لكن النفوس تأبى إلا أن تشعر بذلك ، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم يد المعطي هي اليد العليا .
ولكن بمن نبدأ ، هل نعطي الأجانب أو نعطي من نعول ؟
قال : ( وابدأ بمن تعول ) ، وأول مَن يجب عليك عوله نفسك ، ولهذا جاء في حديث آخر : ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) ، فالإنسان يبدأ بنفسه ، ولكن لا حرج من الإيثار كما هو معروف .
( ابدأ بمن تعول أمك وأباك ) : وكان مقتضى السياق أن يقول : أمِك وأبيك بدلا مِن : مَن ، بدل بعض من كل ، كذا ؟! بدل بعض من كل ، إي نعم ، لأن مَن اسم موصول للعموم ، وما بعده تفصيل له ، لكنه عدل عن ذلك وقال : ( أمك وأباك ) لأن العدول بالأسلوب عما يتوقع يوجب الانتباه انتبهوا لهذا ، العدول بالأسلوب عما يتوقع يوجب إيش ؟
الانتباه ، (( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلوة والمؤتون الزكوة )) هنا : (( والمقيمين )) جاءت منصوبة بين مرفوعين ، إذا قرأها الإنسان سيقول : ما الذي أوجب خروج هذه الكلمة من طريق جاراتها ؟ أليس كذلك ؟ وكذلك الالتفات : (( ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم )) : ولم يقل : وبعث ، هذا أيضا مما يشد الانتباه .
فالرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث -إذا كان هذا لفظه- عدل عما يتوقع من البدلية إلى النصب ، حتى ينتبه السامع ويقول ما الذي أوجب نصب هذا ؟
نقول : هذا منصوب بفعل محذوف ، التقدير : أعط أباك ، أعط أمك وأباك وأختك وأخاك ، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بجانب الأنوثة ، لأن الإناث في الغالب أحوج من الرجال ، أما بين الأم والأب فهناك أمر ثان غير حاجة النساء في الغالب : وهي أن الأم أحق بالبر من الأب ، لأن المشقة التي حصلت للأم أعظم بكثير مما يحصل للأب ، لأن مشقة الأم اضطرارية ، ومشقة الأب اختيارية .
أما بالنسبة عند خروج الولد من هذا ومن هذا فالأمر واضح الفرق كبير جدًا ، الولد خرج من أبيه شهوة ، لكن خرج من أمه كُرها ووهنا على وهن ، أما بالنسبة للمشقات الأخرى كالإنفاق وما أشبه ذلك فالإنفاق إنما يسعى الأب باختياره ، يسعى لولده باختياره ، لكن مشقة الأم عند الحمل وعند الوضع والحِضانة أمر اضطراري ، فلهذا كانت الأم أحق بالبر ، أما الأخت والأخ فقدم الأخت لأنها في الغالب إيش ؟ أحوج من الأخ : ( وأختك وأخاك ، ثم أدناك فأدناك ) : أدنى هنا بمعنى أقرب ، فهي مِن دون القرب وليست من دون المنزلة ، لأن كلمة دون تكون في المنازل ، وتكون في الولاية والقرب ، فهنا أدنى يعني إيش ؟ أقربك ، الأقرب فالأقرب ، فإن تساووا في القرب فإن اتسع المال للنفقة فعم الجميع ، وإن لم يتسع فأعط البعض لهذا ، والبعض لهذا حسب الحاجة .
قوله : ( قدمنا المدينة ) : أل في المدينة للعهد الذهني ، إذ لا ينصرف الذهن إلا إلى مدينة معهودة ، وهي مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، واسمها طيبة ، وكان اسمها بالجاهلية يثرب لكن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى عدم رغبته بتسميتها بهذا الاسم فقال : ( يقولون يثرب ، وهي طيبة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد ) ، فلا ينبغي أن تسمى يثرب .
وأما قوله تعالى : (( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم )) : فهو حكاية قول المنافقين ، وحكاية قول الغير قد يكون إقرارا وقد لا يكون إقرارا ، وتسمى المدينة بدون أن يُلحق إليها وصف آخر ، وكفى بها فخرا ألا يفهم من المدينة عند الإطلاق إلا مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وأما زيادة المنورة فهي حادثة ما علمتها في عبارات السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، ولهذا نرى أن حذفها أولى ، وإذا كان لا بد من وصفها بشيء فلتوصف بالنبوية ، المدينة النبوية نسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وقوله : ( قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : إذا تسمى عند النحويين فجائية لدلالتها على المفاجأة ، يعني ففاجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( قائم على المنبر بخطب الناس ) : والذي يظهر أن هذا كان في يوم الجمعة ، لأن الغالب أن خطبته على المنبر تكون في يوم الجمعة ، والمنبر : مِفعل من النبر وهو الارتفاع .
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام أول ما قدم المدينة يخطب إلى جذع نخلة ، ثم صُنع له منبر من خشب من الأثل ، ( فلما قام عليه أول جمعة بدأ الجدع يصيح ويسمع له خوار كخوار البعير لفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المنبر فجعل يسكته حتى سكت كما تسكت الأم صبيها ) : وهذا من آيات الله ، فإذا كان جذع جماد يبكي لفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أفلا يجدر بالمسلمين أن يبكوا لفقد سنة الرسول عليه الصلاة والسلام في كثير من البلاد الإسلامية اليوم ، والله إنه لجدير بنا ولكن القلوب قاسية .
ويقول : ( يد المعطي العليا ) ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) : واليد العليا هي يد المعطي ، والسفلى يد الآخذ ، لأن منزلة المعطي فوق منزلة الآخذ ومنزلة الآخذ دون منزلة المعطي ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يذل لأحد بسؤال أو استشراف نفس إلا عند الضرورة ، فللضرورة أحكام ، وأما ما دمت في غنى عن سؤال الناس فلا تسأل الناس ، لا تسأل ، فإن الناس وإن جادوا وإن كانوا كرماء فإن طبيعة النفوس تشعر بالمنة من المعطي على الآخذ ، وإن كان الرجل المؤمن لا يمُن على الناس ولا يظهر أن له مِنة عليهم لكن النفوس تأبى إلا أن تشعر بذلك ، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم يد المعطي هي اليد العليا .
ولكن بمن نبدأ ، هل نعطي الأجانب أو نعطي من نعول ؟
قال : ( وابدأ بمن تعول ) ، وأول مَن يجب عليك عوله نفسك ، ولهذا جاء في حديث آخر : ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) ، فالإنسان يبدأ بنفسه ، ولكن لا حرج من الإيثار كما هو معروف .
( ابدأ بمن تعول أمك وأباك ) : وكان مقتضى السياق أن يقول : أمِك وأبيك بدلا مِن : مَن ، بدل بعض من كل ، كذا ؟! بدل بعض من كل ، إي نعم ، لأن مَن اسم موصول للعموم ، وما بعده تفصيل له ، لكنه عدل عن ذلك وقال : ( أمك وأباك ) لأن العدول بالأسلوب عما يتوقع يوجب الانتباه انتبهوا لهذا ، العدول بالأسلوب عما يتوقع يوجب إيش ؟
الانتباه ، (( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلوة والمؤتون الزكوة )) هنا : (( والمقيمين )) جاءت منصوبة بين مرفوعين ، إذا قرأها الإنسان سيقول : ما الذي أوجب خروج هذه الكلمة من طريق جاراتها ؟ أليس كذلك ؟ وكذلك الالتفات : (( ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم )) : ولم يقل : وبعث ، هذا أيضا مما يشد الانتباه .
فالرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث -إذا كان هذا لفظه- عدل عما يتوقع من البدلية إلى النصب ، حتى ينتبه السامع ويقول ما الذي أوجب نصب هذا ؟
نقول : هذا منصوب بفعل محذوف ، التقدير : أعط أباك ، أعط أمك وأباك وأختك وأخاك ، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بجانب الأنوثة ، لأن الإناث في الغالب أحوج من الرجال ، أما بين الأم والأب فهناك أمر ثان غير حاجة النساء في الغالب : وهي أن الأم أحق بالبر من الأب ، لأن المشقة التي حصلت للأم أعظم بكثير مما يحصل للأب ، لأن مشقة الأم اضطرارية ، ومشقة الأب اختيارية .
أما بالنسبة عند خروج الولد من هذا ومن هذا فالأمر واضح الفرق كبير جدًا ، الولد خرج من أبيه شهوة ، لكن خرج من أمه كُرها ووهنا على وهن ، أما بالنسبة للمشقات الأخرى كالإنفاق وما أشبه ذلك فالإنفاق إنما يسعى الأب باختياره ، يسعى لولده باختياره ، لكن مشقة الأم عند الحمل وعند الوضع والحِضانة أمر اضطراري ، فلهذا كانت الأم أحق بالبر ، أما الأخت والأخ فقدم الأخت لأنها في الغالب إيش ؟ أحوج من الأخ : ( وأختك وأخاك ، ثم أدناك فأدناك ) : أدنى هنا بمعنى أقرب ، فهي مِن دون القرب وليست من دون المنزلة ، لأن كلمة دون تكون في المنازل ، وتكون في الولاية والقرب ، فهنا أدنى يعني إيش ؟ أقربك ، الأقرب فالأقرب ، فإن تساووا في القرب فإن اتسع المال للنفقة فعم الجميع ، وإن لم يتسع فأعط البعض لهذا ، والبعض لهذا حسب الحاجة .