تتمة الجواب حول أكل الجبن التي وضع فيها منافح العجول الغير المذبوحة (بيان مسألة هل ينجس الماء إذا وقعت فيه نجاسة) حفظ
الشيخ : قلت إن الجبن الهولندية كما أخبرنا صاحبنا هذا ، أنه ليس فيها إلا المنفحة التي تُستخرج من حيوان قتيل غير ذبيح من البقر الهولندي المشهور بضخامته وبلحمه ، وأنا قلت له : إذا كانت الجبنة الهولندية ليس فيها إلا هذه المنفحة التي تُعتبر نجسة لأنها من ميتة وليست من ذبيحة ، مع ذلك يكون هذا الجبن أكله وبيعه وشراؤه حلال ، أعني : أن هذه المنفحة التي تلقى كمية قليلة جدًا منها في مئات الكليوات من الحليب حتى يتخثر ويتحول إلى جبنة ، هذه النجاسة شأنها شأن النجاسة القليلة التي تقع في الماء الكثير الطاهر المطهر ، فكما أنه وقوع هذه النجاسة في هذا الماء الطاهر المطهر لا يحوله نجسًا لا يجوز استعماله لا شربًا ولا تطهرًا ، كذلك هذه المنفحة التي تُلقى في الكمية الكبيرة جدًا من الحليب ليتخثر وليتجمد كما قلنا : لا يجعل هذه الجبنة محرمةً ، لأن هذه النجاسة القليلة اضمحلت في هذه الكثرة الكاثرة من السائل الذي هو الحليب .
هذه المسألة الفقيهة التي يتبناها بعض المذاهب الإسلامية حول الماء تحل بها مشاكل كثيرة في العصر الحاضر منها : ما يتعلق بالجبنة الهولندية . مذهب الإمام مالك رحمه الله ، وأظنه مذهب الإمام أحمد أو رواية عنه : أن الماء الكثير كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) جاء في رواية إسنادها ضعيف ومعناها صحيح ، متفق على صحة معناها ، وهي : ( ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه ) .
وهذا المعنى المجمع عليه يمكن أن يتنبه له بشيء من الدقة ، إلى صحته نظرًا في قوله عليه الصلاة والسلام : ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) أي : ما بقي ماءً ، فإذا رأيت ماءً قد تغير لونه بسبب نجاسةً أنت لا تسميه ماء مطلقًا ، لا تقول هذا ماء ، هذا على الأقل تقول عنه : ماء آسن ماء متغير طعمه بنجاسة .. إلى آخره ، فمادام أن الماء لا يزال محافظًا على خصائصه الطبيعية كما لو كان أنزل من السماء آنفًا ، فهو الماء الطهور الذي امتن الله عزَّ وجلَّ به على عباده المؤمنين : (( ليطهركم به )) فلما جاءت هذه الزيادة بسند ضعيف ، وأجمع عليها علماء المسلمين ، صحّ يقينًا أن نفهم الحديث بهذا الشرح والبيان : ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) بشرط ألا يتغير طعمه أو لونه أو ريحه ، ولكن هذا الشرط لا بد من تقييده ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه بنجاسة ، أما إذا كان هذا التغير في وصف من هذه الأوصاف الثلاثة بغير نجاسة ، فليس معنى ذلك : أن الماء تنجس ؟ كل ما يمكن أن يطرأ عليه من تحول أن يخرج من كونه مطهرًا ، فيبقى ماءً طاهراً ، أي : لا يمكن أن تتوضأ به لأنه ليس مطهرًا ، لكن يمكنك أن تغسل به ثيابك ، يمكنك أن تترطب به ، يمكنك إلى آخره لأنه طاهر ، ويمكن أن تشربه .
هذا السائل مثلاً ، هذا الشراب ، هذا ماء ، لكن طعمه متغير ، ولونه متغير ، فهل هو نجس ؟ الجواب : لا ، لأن هذا تغير ليس أثر نجاسة وإنما أثر طاهر ، فهو طاهر يجوز شربه ، لكن لا يجوز لك أن تتوضأ به لأنه ليس مطهرًا .فإذا عرفنا هذا الحكم الشرعي المتعلق بالماء ، الذي أنزله الله عزَّ وجلّ من السماء ، يمكن نقله إلى قضايا أخرى مثلاً الزيت والسمن إذا وقعت فيهما نجاسة وكان كل منهما سائلا ، فهل يتنجس ، خذ الميزان إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة بهذه النجاسة التي وقعت في هذا الزيت السائل أو السمن السائل فلا يجوز بيعه ولا شراؤه ، وإنما يجب إراقته . أما إذا لم يتغيّر الزيت أو السمن بمغيرات من هذه الأوصاف الثلاثة ، فيظل طاهرًا جائزًا أكله وبيعه وشراءه ، هذا إذا كان سائلاً ، أما إذا كان جامدًا فالأمر أسهل .