شرح قول المؤلف : والسكران . حفظ
الشيخ : طيب ، السكران ، من هو السكران ؟ لا أستطيع أن أقول : السكران كل من غاب عقله ، لأن غيبوبة العقل تكون بسكر وبغيره ، تكون بالبنج وبالإغماء ، وبالسقوط من شاهق ، وباستنشاق أشياء تغيب العقل وما أشبه ذلك ، السكران هو الذي شرب الخمر ، فغطى عقله ، تلذذا وطربا ، هذا هو السكران ، ولهذا تجد السكران ، نسأل الله العافية ، يحس بنفسه حين سكره أنه ذو هيمنة وسلطان وملك وعلو ، كما قال حمزة بن عبد المطلب للرسول عليه الصلاة والسلام ، قال له : هل أنتم إلا عبيد أبي ؟ يعني وش أنت اللي تيجي تعاتبني على شرب الخمر ، ما أنتم إلا عبيد أبي ، وقال الشاعر الجاهلي : ونشربها فتتركنا ملوكا ، هذا هو شارب الخمر ، نسأل الله العافية ، هذا السكران لا شك أنه لا يعقل ، ولا يدري ما يقول ، ولذلك ربما يقتل نفسه ، ربما يزني بأمه ، ربما يقتل ولده ، إلى غير ذلك من الأفعال المنكرة ، فهل إذا طلق زوجته يقع الطلاق ؟ نقول : هذا على قسمين :
القسم الأول : أن لا يكون آثما .
والقسم الثاني : أن يكون آثما ، فإن كان غير آثم فإنه طلاقه لا يقع ، لأنه لا عقل له وهو معذور ، مثال غير الآثم : وجد كأسا فيه شرابا ، فيه شراب ، فشرب ، وهو لا يدري أنه خمر فسكر وطلق زوجته ، ففي هذه الحال لا يقع الطلاق لأنه غير آثم ، أو دعاه شخص إلى مأدبة ، وقدم له خمرا فشرب وسكر وهو لا يعلم ، فهذا لا يقع طلاقه ، وأظنه محل إجماع بين العلماء ، لكن إن قدر فيه خلاف ، فهو خلاف ضعيف ، وهذا واضح .
الحال الثانية : أن يكون آثما ، أي أنه شرب المسكر مختارا ، ويعرف أنه مسكر ، فهذا لا شك أنه زال عقله ، ولكن اختلف العلماء هل يعامل معاملة الصاحي ، لأنه آثم ، والإثم يقتضي عدم الرخصة ؟ أو أن نعامله معاملة المجنون ، ونلغي جميع أقوله لأنه لا عقل له ؟ القول الثاني أسهل له ، أسهل له بلا شك ، وفيه يعني نوع من الرأفة والرحمة .
ولهذا قال العلماء السابقون الذين يقولون بوقوع طلاقه قالوا : " ان هذا الرجل سكر بمحرم غير معذور فيه ، فليس أهلا للرخصة والتسليم ، بل هو أهل لزيادة العقوبة عليه " ، وحينئذ فنؤاخذه بأقواله كما نؤاخذه بأفعاله ، انتبهوا ، نؤاخذه بالأقوال كما نؤاخذه بالأفعال ، كما أن هذا الرجل السكران لو جنى على شخص فأحرق ماله أو أفسده ضمناه ، فكذلك أقواله ، نأخذ بها ، يؤاخذ بها ، لأنه ليس محلا للرخصة ، ولا شك أن تعليلهم قوي ، لكن حال السكران لا تسعفه في الواقع ، لأن حال السكران ينظر فيها إلى العقل الذي هو أصل التكليف ، والسكران بلا شك فاقد للعقل فكيف نكلفه ؟ ولهذا الصحيح أن طلاق السكران لا يقع :
أولا : للآثار المروية كما سيأتي .
وثانيا : لقول النبي صلّى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) ، وهذا السكران لم ينو الطلاق ، وليس له نية إطلاقا ، لأنه سكران ، وأنا قدمت ذكر الآثار على ذكر الحديث ، وإن كان الواجب أن نقدم ذكر الحديث ، لكن الآثار نص في الموضوع والحديث عام ، وقد سبق لنا في باب الاستدلال أن ذكر الدليل العام قد يناقش فيه الخصم ، وش معنى يناقش فيه ؟ بحيث يدعي أن المسألة المتنازع فيها لا تدخل في العموم ، بخلاف الشيء الخاص فلا يستطيع أن يناقش ، على كل حال نقول : عندنا الآثار والحديث ، عموم الحديث ، الشيء الثالث : أن العقوبة لا ينبغي أن تتعدى إلى الغير ، ونحن حينئذ ، أي حينئذ نقول بوقوع طلاق السكران ، فإننا قد عاقبنا في الواقع غيره ، عاقبنا زوجته وأولاده وأهله ، فلم تقتصر العقوبة على هذا السكران ، وما وزر هؤلاء الذين تصل إليهم العقوبة ؟ وهم لم يفعلوا شيئا ، فهذه العقوبة متعدية للغير ، وإذا كانت متعدية للغير فلا ينبغي أن نأخذ بما فيها من الضرر على الغير. رابعا : أن العقوبات لا بد أن يكون لها جنس في الشرع ، وليس في الشرع عقوبة بالتفريق بين الزوجين ، إلا لسبب يقتضي التفريق ، وعقوبة شارب الخمر إما أنها حد معين لا يُتجاوز كما هو رأي الجمهور ، وهو أربعون جلدة، أو ثمانون جلدة ، أو أحدهما على حسب نظر الإمام ، وإما أنها عقوبة غير مقدرة ، لكن لا تنقص عن الأربعين كما هو القول الراجح ، وأن عقوبة شارب الخمر ليست حداً بل هو راجع إلى الإمام ، فإذا رأى الناس تزايدوا فيها فليوصلها إلى المئة أو مئة وعشرين ، أو مئتين ، أو ثلاثمئة ، حسب ما يكون فيه ردع للناس ، ولهذا لما كثر الشرب في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع الناس فشاورهم فقال له عبد الرحمن بن عوف : أخف الحدود ثمانون ، فجعلها عمر ثمانين جلدة ، وهذا يدل على أنها ليست حداً محددا من قبل الشرع ، إذ لو كانت حداً محددا من قبل الشرع ما أقدم عمر بن الخطاب ولا غير عمر بن الخطاب على الزيادة على ما حد الله ورسوله ، ولهذا لو زاد الناس في الزنا هل يجوز لعمر أو غير عمر ممن هو دونه أن يقول والله زاد زنا الناس، فلنجعل بدل مئة جلدة ، نجعلها مئتين ؟ لا ، ما يجوز ، فالصحيح أن عقوبة شارب الخمر ليست حدا بل هي تعزير ، لكن لا يجوز أن ينقص عن أربعين ، لأنه الحد الأدنى الذي ورد فيه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ، على كل حال الصحيح أن طلاق السكران لا يقع ، هذا بالنسبة له من حيث النظر ، انتبه ، من حيث النظر والدليل والعلم ، لا شك أنه لا يقع ، لانتفاء الأدلة الموجبة لوقوعه ، لكن قولوا لي : من حيث التربية ، هل الأولى أن نجعله واقعا لنضيق الخناق على الشاربين حتى إذا تذكر الواحد منهم أنه لو طلق لهُدم بيته ، وفرق بينه وبين زوجته وأهله ، فهل نقول : إن هذا الأمر مسوغ لأن نقول بوقوعه ؟ لا سيما وأنه رأي جمهور أهل العلم ؟ أو نقول : نأخذ بما يقتضيه الدليل والله يصلح العباد ؟
الطلبة : الأول في مصلحة وبعضهم يقول : الثاني .
الشيخ : الثاني ، يعني نأخذ بما تقتضيه الأدلة ، والله مصلح عباده ، أو نقول : نعم الله مصلح عباده لكن جعل للإصلاح طرقا تُسلك ، فإذا رأى القاضي أنه يُلزم بالطلاق ، يلزم ويوقع عليه الطلاق ، فلا حرج في ذلك ، لأن عمر بن الخطاب ألزم الناس بوقوع الطلاق للثلاث ، ألزمهم بأن يكون طلاقا بائنا ، مع أنه في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر كان الطلاق الثلاث واحدة ، فمنع رجوع الزوج إلى زوجته ، لأن الناس تكاثروا فيه وتتابعوا عليه ، هذه مسألة يعني من حيث التربية ، وتقويم الناس ، قد نقول : إن الأولى أن نلزم بالطلاق ، ولكن إذا قلنا بهذا القول فلا بد أن نرى ونشاهد الأثر النافع لهذا التنفيذ . أما إذا كان هؤلاء لا يبالون ، يبغون يسكرون ولا همهم ، ورأينا أن هذا لا ينفع فيهم ، ولا يفيد ، فحينئذ نأخذ بما تقتضيه الأدلة ، بما تقتضيه الأدلة ، وليس خروجنا عما تقتضيه الأدلة من أجل تربية الناس ، ليس خروجا عن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين ، فإن الرسول قد يدرأ المصالح خوفا من المفاسد ، كذلك هنا ، نردأ هذه المصلحة التي هي بقاء زوجته في عصمته ، خوفا من انتشار إيش ؟ السكر بين الناس .
السائل : باسم تشريع ؟
الشيخ : نعم .
السائل : مو باسم تشريع ؟
الشيخ : لا لا ، ما هو تشريع ، هذا مؤقت .
السائل : فعل عمر ... كيف يؤخذ منه ...؟
الشيخ : ما تعين .
السائل : ... لو فتح الباب ؟
الشيخ : حكم عمر ما تعين ، ولهذا القول الراجح أن طلاق الثلاث واحدة ، ما هو تشريع .
السائل : ... يا شيخ من شرب ... ليضلل ؟
الشيخ : طيب ، في الفعل ، مع أنه مو مو من مبحث الباب ، لأنه مو ذكره البخاري ، فعل السكران ذكرنا أنه يؤاخذ به ، ولكن الصحيح أن فعل السكران ينقسم إلى قسمين : فعل يتعلق بحق الله ، فهذا لا يؤاخذ به ، كما لو سجد لصنم ، سكران ، سكر ودخل على كنيسة ووجدهم يسجدون لصورة عيسى بن مريم ، وسجد معهم ، هذا السكران لو يجد فلو حماره يشرب لبنها ، لمسك الضرع الثاني وقام يشرب ، ولا يهم ، يعني ما عنده عقل ، فهذا أيضا لا يؤاخذ به ، لا يؤاخذ به ، يعني ما يتعلق بحق الله ، أما ما يتعلق بحق الآدمي فإنه يؤاخذ به ، لأن حق الآدمي لا يسقط حتى عن المجنون ، لكن فعله ، على القول الراجح ، يُلحق بفصل المخطئ لا بفعل الخاطئ ، يلحق بفعل المخطئ لا بفعل الخاطئ ، فلو قتل نفسا ، لو قتل نفسا محرمة فإنه لا يقتص منه على القول الراجح كمان أن المخطئ لا يقتص منه .
ولكن الأصحاب رحمهم الله ، المشهور من المذهب أن فعله وقوله ، كفعل الصاحي وقوله مطلقا ، إلا أن ابن القيم رحمه الله ذكر في كتابه إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان : " أنه لو سكر ليقتل ، فإن هذا حيلة لإسقاط القصاص عنه ، والحيلة لإسقاط الواجب لا تسقطه ، باطلة " ، مثل : رجل يريد أن يقتل شخصا لكن يعرف أنه لو قتله وهو صاحيا لقُتل به ، فذهب يسكر لأجل يمُسك في جريمة وهو سكران ، فهذا لا يسقط عنه القتل ، واضح ، لأنه اتخذ السكر حيلة لاسقاط واجب القصاص ، والتحيل على الواجب لا يسقطه .