قراءة من الشرح . حفظ
القارئ : " قوله وقال بعض الناس لو قيل له ...، قال ابن بطال: معناه أن ظالما لو أراد قتل رجل فقال لولد الرجل مثلا: إن لم تشرب الخمر أو تأكل الميتة قتلت أباك، وكذا لو قال له: قتلت ابنك أو ذا رحم لك ففعل لم يأثم عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: يأثم لأنه ليس بمضطر، لأن الإكراه إنما يكون فيما يتوجه إلى الإنسان في خاصة نفسه لا في غيره، وليس له أن يعصي الله حتى يدفع عن غيره، بل الله سائل الظالم، ولا يؤاخذ الابن لأنه لم يقدر على الدفع إلا بارتكاب ما لا يحل له ارتكابه.
قال: ونظيره في القياس ما لو قال إن لم تبع عبدك أو تقر بدين أو تهب هبة أن كل ذلك ينعقد، كما لا يجوز له أن يرتكب المعصية في الدفع عن غيره.
ثم ناقض هذا المعنى فقال: ولكنا نستحسن ونقول البيع وغيره من العقود كل ذلك باطل، فخالف قياس قوله بالاستحسان الذي ذكره فلذلك قال البخاري بعده: فرقوا بين كل ذي رحم محرّم وغيره بغير كتاب ولا سنة، يعني أن مذهب الحنفية في ذي رحم بخلاف مذهبهم في الأجنبي، فلو قيل لرجل لتقتلن هذا الرجل الأجنبي أو لتبيعن كذا ففعل لينجيه من القتل لزمه البيع، ولو قيل له ذلك في ذي رحمه لم يلزمه ما عقده.
والحاصل أن أصل أبي حنيفة اللزوم في الجميع قياسا لكن يستثنى من له منه رحم استحسانا، ورأي البخاري أن لا فرق بين القريب والأجنبي في ذلك لحديث: ( المسلم أخو المسلم ) فإن المراد به أخوة الإسلام لا النسب، ولذلك استشهد بقول إبراهيم هذه أختي، والمراد أخوة الإسلام، وإلا فنكاح الأخت كان حراما في ملة إبراهيم، وهذه الأخوة توجب حماية أخيه المسلم والدفع عنه، فلا يلزمه ما عقده ولا إثم عليه فيما يأكل ويشرب للدفع عنه، فهو كما لو قيل له: لتفعلن كذا أو لنقتلنك فإنه يسعه إتيانها، ولا يلزمه الحكم، ولا يقع عليه الإثم.
وقال الكِرماني: يحتمل أن يقرر البحث المذكور بأن يقال إنه ليس بمضطر، لأنه مخير في أمور متعددة، والتخيير ينافي الإكراه، فكما لا إكراه في الصورة الأولى وهي الأكل والشرب والقتل، كذلك لا إكراه في الصورة الثانية وهو البيع والهبة والعتق، فحيث قالوا ببطلان البيع استحسانا فقد ناقضوا، إذ يلزم منه القول بالإكراه، وقد قالوا بعدم الإكراه.
قلت: ولقائل أن يقول بعدم الإكراه أصلا، وإنما أثبتوه بطريق القياس في الجميع لكن استحسنوا في أمر المحرم لمعنى قام به.
وقوله في أول التقرير في أمور متعددة ليس كذلك، بل الذي يظهر أن أو فيه للتنويع لا للتخيير، وأنها أمثلة لا مثال واحد.
ثم قال الكرماني: وقوله أي البخاري إن تفريقهم بين المحرم وغيره شيء قالوه لا يدل عليه كتاب ولا سنة أي ليس فيهما ما يدل على الفرق بينهما في باب الإكراه، وهو أيضا كلام استحساني.
قال: وأمثال هذه المباحث غير مناسبة لوضع هذا الكتاب إذ هو خارج عن فنه.
قلت: وهو عجب منه لأن كتاب البخاري كما تقدم تقريره لم يقصد به إيراد الأحاديث نقلا صرفا بل ظاهر وضعه أنه يجعل كتابا جامعا للأحكام وغيرها، وفقهه في تراجمه، فلذلك يورد فيه كثيرا الاختلاف العالي ويرجح أحيانا ويسكت أحيانا توقفا عن الجزم بالحكم، ويورد كثيرا من التفاسير، ويشير فيه إلى كثير من العلل وترجيح بعض الطرق على بعض، فإذا أورد فيه شيئا من المباحث لم تستغرب، وأما رمزه إلى أن طريقة البحث ليست من فنه، فتلك شكاة ظاهر عنك عارها، فللبخاري أسوة بالأئمة الذين سلك طريقهم كالشافعي وأبي ثور والحميدي وأحمد وإسحاق، فهذه طريقتهم في البحث، وهي محصلة للمقصود وإن لم يعرجوا على اصطلاح المتأخرين "
.