حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشأم فلما جاء بسرغ بلغه أن الوباء وقع بالشأم فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه ) فرجع عمر من سرغ وعن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عمر إنما انصرف من حديث عبد الرحمن حفظ
القارئ : حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: ( أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشأم، فلما جاء بسرغ، بلغه أن الوباء وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ، فرجع عمر من سرغ ).
وعن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أن عمر إنما انصرف من حديث عبد الرحمن.
الشيخ : عبد الرحمن بن عوف، وذلك انه لما سمع عمر رضي الله عنه بخبر الوباء استشار الصحابة كعادته رضي الله عنه، هل يرجع أو يقدم ؟ فأشار بعضهم عليه بالرجوع وأشار بعضهم بعدم الرجوع، ومن جملة من أشار عليه بعدم الرجوع أبو عبيدة عامر بن الجراح الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إنه أمين هذه الأمة )، وقال عمر حين طعن : " لو كان أبو عبيدة حيا لجعلته ... " لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إنه أمين هذه الأمة ).
فكان أبو عبيدة يحاجّ عمر في هذا، ويقول له: " يا أمير المؤمنين، أفرارا من قدر الله ؟ " يعني كيف تفر وترجع فقال عمر رضي الله عنه كلمة فيها قطع الخصومة، وإلا فبإمكانه أن يقول غيرها: " نفر من قدر الله إلى قدر الله " يعني إن ذهبنا فبقدر الله وإن رجعنا فبقدر الله، إذن نفر من قدر إلى قدر، ثم ضرب له مثلا، قال : " أرأيت لو كان لك إبل أو غنم وكانت في وادي له عدوتان، عدوة مخصبة وعدوة مجدبة، فبأيهما ترعى إبلك أو غنمك ؟"، قال : " بالمخصبة "، قال : " إن رعيتها بالمخصبة فبقدر الله أو بالمجدبة فبقدر الله "، ثم عزم على الرحيل بناء على ترجيح أكثر الصحابة رضي الله عنهم، وفي أثناء ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف وكان في حاجة له، فحدّثهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منها ) فانظر كيف كانت بركة المشورة أن وفقوا للصواب والحق.
وفي هذا عبرة وهو أنه إذا كان حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خفي على الصحابة كلهم الذين مع عمر وهم أكابر الصحابة فمن الجائز أن يخفى على واحد من العلماء، وهذا أحد الأعذار التي يعتذر بها عن بعض الأئمة الذين تخالف أقوالهم نصا من السنة، أن نقول : إن ذلك لم يبلغه، وهذا كثير، وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( فرارا منه ) دليل على أنه لو خرج لغير هذه العلة فهو جائز ، لو أن الرجل أراد أن يسافر من بلده التي وقع فيها الطاعون إلى مكة مثلا ليحج ويعتمر أو إلى لبلد آخر ليتجر فإن ذلك جائز لأنه قيّد هذا بقوله : ( فرارا منه ).
وعلى هذا فلا يتوجه قول من قال: إن هذا من باب الحجر الصحي، لأن بعض المتأخرين جعلوا هذا الحديث أساسا للحجر الصحي، ما معنى الحجر الصحي ؟ أن البلد الوبيء أو الأرض الوبيئة يحجر على أهلها، لا يخرجون، ولكن الحديث له مغزى أهم من هذا، وهو صدق التوكل على الله عز وجل لقوله : ( فلا تخرجوا فرارا منه ) بل اعتمدوا على الله عز وجل، واصدقوا التوكل عليه.
ثم إنه قد ورد في بعض الأحاديث أن الطاعون شهادة، يعني من مات به فهو شهيد، وهذا ليس ببعيد وإن كان في الأثر ما فيه لكن ليس ببعيد لأنه يشبه المبطون، إن لم يكن المبطون ممن مات بالطاعون، لأن هذه الأشياء التي تأتي بها هكذا كالحرق والهدم والغرق وما أشبهها كل هذه إذا مات بها الإنسان فإنه يكتب عند الله شهيدا والحمد لله، وهذه من رحمة الله.
فإن تحيل ؟ كيف يتحيل على الفرار من أرض الطاعون ؟ يتحيل، يقول مثلا لصاحب له خارج البلد : اكتب لي كتاب قل أريد أن تتوجه إلينا، هذه حيلة أو لا ؟ حيلة، لأنه ما له غرض، لكنه تحيل لأجل أن يخرج، والحيلة كما مر لا تفيد المحتال، لا تزيده إلا انغماسا فيما فر منه، إن كان لإسقاط واجب زاد إثمه، إن كان لانتهاك محرم زاد إثمه أيضا نعم.