تتمة شرح الآية : (( يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ... )) حفظ
الشيخ : يقول (( قد جعلها ربي حقا )) جعلها بمعنى صيّرها ولهذا نصبت مفعولين.
(( وقد أحسن بي إذ أخرجني )) إذ بمعنى حين أخرجني من السجن، والسجن الذي سجن عليه كان سببه أنه أبى أن يجيب امرأة العزيز إلى ما دعته إليه وقال : (( رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم، ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين )) أخرجه الله من السجن طاهرا عفيفا معززا مكرما حتى إن الملك قال : (( ائتوني به أستخلصه لنفسي )) أي أجعله من خواصي وأقرب الناس إلي، لأنه رأى منه سره وما أعجبه.
يقول : (( إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو )) يعني إلى المدن، ولا شك أن تحضر البادية من الخير، لأنهم يتفقهون في دين الله، وهم في باديتهم أبعد عن معرفة حدود الله، قال الله تعالى : (( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا ما أنزل الله على رسوله )) فإذا صاروا في الحاضرة وتعلموا وتفقهوا فهذا من إحسان الله إليهم.
وفيه دليل على أن الإحسان إلى الوالدين أو الأولاد أو الأقارب إحسان للإنسان نفسه، لأنه قال : (( وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو )).
وفيه أن أفعال العبد مخلوقة لله ، لقوله : (( وجاء بكم من البدو )) ومعلوم أن الله لم يأت بهم يحملهم ولكنه قدر مجيأهم فجاؤوا هم بأنفسهم، ولكن لما كان فعلهم مخلوقا لله ومرادا له قال : (( وجاء بكم من البدو )).
(( من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي )) أي أوقع بيني وبينهم تلك الوقيعة وتلك القطيعة، منهم أو منه ؟ منهم، إذ ألقوه في غيابت الجبّ وتركوه نسأل الله العافية.
(( إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم )) اللطيف مأخوذ من اللطف واللطافة، وهو له معان: فاللطيف بمعنى العليم بخفايا الأمور، واللطيف بمعنى اللطف والرحمة، ويقال لطف به ولطف له، فاللام تبين الحكمة من هذا اللطف، والباء للتعدية تبين محل اللطف، والقرآن جاء بهذا وهذا.
(( إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم )).
(( رب قد آتيتني من الملك )) رب منادى، لكن قد يشكل، فهذه الكلمة ليست منصوبة وليست مبنية على الضم، والمنادى إما منصوب أو مبني على الضم، فلماذا جاءت هكذا رب ؟
والجواب على هذا الإشكال أن نقول: أصلها ربي بالياء فحذفت الياء تخفيفا وبقيت الكسرة دليلا عليها، وعلى هذا فنقول هو مبني على ضم مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة المناسبة.
(( رب قد آتيتني من الملك )) ولم يقل الملك لأن الملك كاملا لا يكون إلا لله عزّ وجل، (( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ))، أما ما يملكه الإنسان فهو محدود، هذا ملك في أرض معينة، ثم ملكه قاصر لا يستطيع أن يتصرف كما يشاء، وإنما يتصرف في الحدود الشرعية.
(( وعلمتني من تأويل الأحاديث )) أي من تفسيرها ، والأحاديث جمع حديث ومنه الرؤيا التي يراها الإنسان.
(( فاطر السموات والأرض )) يعني يا فاطر السموات والأرض، والفاطر والبديع والمبتدع والبارئ والخالق واحد من البدء، والفاطر قولوا إنه هو من خلق الشيء على غير مثال سبق، يعني خلقه لأول مرة ولم يوجد له نظير فيما سبق.
(( فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة )) أي متولي أمري في الدنيا والآخرة ...
قبل أن نبدأ نكمل الآيات.
قوله تعالى عن يوسف (( أنت وليي في الدنيا والآخرة )) أي متولي أمري في الدنيا والآخرة.
وولاية الله سبحانه وتعالى نوعان: ولاية عامة لكل أحد، وهي التصرف في خلقه بما يشاء، وولاية خاصة وهي أن يتولى أمر الإنسان ويعتني به بصفة خاصة.
فمن الأولى قوله تعالى : (( ثم ردوا إلى الله موالاهم الحق ))، قبلها (( حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا وهو لا يفرطون ثم ردوا إلى الله موالاهم الحق )).
ومن الثانية قوله : (( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات )).
(( توفني مسلما وألحقني بالصالحين )) توفني يعني اقبضني إليك، والمراد بذلك وفاة الموت لا وفاة النوم.
ومسلما حال من الياء في قوله (( توفني )) يعني حال كوني مسلما، (( وألحقني بالصالحين )) أي بالصالحين من عبادك، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم الرسل ثم الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون.
والصالحون هنا تشمل كل الطبقات إذا ذكرت وحدها.