شرح حديث ابن عباس في دعاء الليل حفظ
الشيخ : ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله عنهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو من الليل ) وذلك إذا قام لصلاة الليل يقول : ( اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ) فبدأ بحمده ثم قال : ( أنت رب السماوات والأرض ) إذا ربوبيته سبحانه وتعالى مبنية على الحمد والحمد هو وصف المحمود بالكمال مع الحب والتعظيم هذا الحمد وصف المحمود بالكمال مع الحب والتعظيم فإن كرر وصف الكمال سمي ثناء والدليل على هذا قوله تعالى في الحديث القدسي : ( إذ قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي ) وقوله : ( رب السماوات والأرض ) سبق أن معنى الربوبية يدور على ثلاثة أشياء : على الخلق والملك والتدبير فهو خالقهما ومالكهما والمدبر لهما وجمع السماوات باعتبار العدد وأفرد الأرض باعتبار الجنس طيب السماوات سبع بنص القرآن (( قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم )) الأرض ليس في القرآن تصريح بأنها سبع لكن فيها ما يدل على ذلك مثل قوله تعالى : (( والله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن )) والمماثلة هنا لم يكن أن تتأتى إلا بالعدد لأن الكيفية والحجم والعظمة لا تماثل بين السماء والأرض فتعين أن يكون المراد مثلهن في العدد والنص صريحة يثبت ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من اقتطع من الأرض شبرا طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين ) ( لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ) أي بك تقوم السماوات والأرض وأنت القيوم عليهن فبه سبحانه وتعالى تقوم السماء والأرض ولا غنى للسماوات والأرض ولا من فيهما عن الله طرفة عين وهو القيم عليها أيضا القيومية هنا إذن تتضمن الايجاد والإعداد والقيامة على الشيء كقوله تعالى : (( الرجال قوامون على النساء )) أي يقومون على النساء ويتولون أمورهن فالله قيم السماوات أي به قامت السماوات والأرض وهو الذي يقوم على السماوات والأرض ويتولى أمر السماوات والأرض قال الله تعالى : (( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره )) هذا أحد المعنيين المعنى الثاني أنه يقوم عليهن ويتولى أمرهن ( قيم السماوات والأرض ومن فيهن لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ) أي بك استنارت السماوات والأرض فلولا أن الله سبحانه وتعالى جعل في السماوات والأرض نورا لم يكن فيهما نورا أو أنه هو نفسه النور وقال إنه نور السماوات والأرض وإن لم يكن في جوف السماوات أو في جوف الأرض كقوله تعالى : (( وجعل القمر فيهن نورا )) ومن المعلوم أن القمر ليس ينير السماوات وإنما ينير الأرض قال : ( ولك الحمد قولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والساعة حق ) كم هذه سبعة ؟ يمكن أن يقول القائل قولك ووعدك ولقاؤك والجنة والنار والساعة هي سبعة ولا ستة ؟ قولك ووعدك ولقاؤك والجنة والنار والساعة ستة يمكن أن يقول الإنسان هذه الأشياء الستة ويخبر عنها بكلمة واحدة يقول : ( حق ) ولكن مقام الثناء مقام بسط ولكل مقام مقال قولك : الحق الحق من أي وجه ؟ من وجهين لأن قول الله عز وجل : إما أمر وإما خبر فإن كان أمرا وإن شئت فقل إما طلب وإما خبر فإن كان طلبا فهو عدل مشتمل على المصالح وإن كان خبرا فهو صدق وعليه قوله تعالى : (( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا )) وعدك الحق وعد سواء كان وعدا بالمثوبة أو وعدا بالعقوبة فإنه حق ليس فيه كذب ولا بد أن يقع لأن الله لا يخلف الميعاد إلا أن الوعد بالعقوبة إذا لم يكن الإثم شركا تحت المشيئة كقوله تعالى : (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) ( ولقاؤك حق ) لقاء الله حق قال تعالى : (( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )) فلا بد أن تلاقي ربك لابد أن يخلو ربك بك ليس بينك وبينه ترجمان لا بد أن يسألك ويقررك بذنوبك ويقول فعلت كذا في يوم كذا لكن بينك وبينه ثم إذا أقررت واعترفت قال الله تعالى : ( إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها لك اليوم )هكذا يحاسب الله العبد المؤمن يوم القيامة أما الكافر فإنهم لا يقررون هذا التقرير ولكن يخزون يوم القيامة وينادى عليهم على رؤوس الأشهاد (( هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين )) ( والجنة حق ) أي صدق وثابت وكذلك النار كلاهما حق وهما الآن موجودتان وهما موجودتان وهما مخلوقتان للأبد مؤبدتان بإجماع أهل السنة إلا أن هناك خلافا يسيرا في أبدية النار ولكن القول بعدم أبديتها ضعيف للغاية لأن الله ذكر أبديتها في ثلاث آيات في القرآن قال الله تعالى : (( إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا )) وقال الله تعالى : (( إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا )) وقال تعالى : (( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا )) وهذا خبر من الله عز وجل خبر صدق وإذا كانوا خالدين فيها أبدا لزم أن يؤبد المكان الذي خلدوا فيه طيب يقول : ( والساعة حق ) الساعة يعني ساعة القيامة حق لا بد أن يقع لأن الله أخبر وما أخبر الله به فهو حق . ( اللهم لك أسلمت ) الجار والمجرور في قوله : ( لك أسلمت ) معمول مقدم لإفادة الحصر لك أسلمت أي انقدت انقيادا تاما لشرعك ( وبك آمنت ) والإيمان محله القلب فذكر النبي عليه الصلاة والسلام الدين الظاهر والدين الباطن الدين الظاهر بالإسلام والباطن بالإيمان ( وبك آمنت ) معنى الإيمان بالله الإقرار به المتضمن للقبول والإذعان هذا هو الإيمان بالله الإقرار المتضمن للقبول والإذعان أما الإقرار الذي لا يتضمن ذلك فليس فيه إيمان فلا بد من قبول للخبر وإذعان للطلب ولهذا قال أهل السنة إن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان ( وعليك توكلت ) أي اعتمدت اعتمادا تاما معترفا بتقصيري وأفوض أمري إليك وهذا هو الفرق بين التوكل على الإنسان والتوكل على الله التوكل على الإنسان ليس توكل افتقار وتفويض وتوكلي على الله توكل افتقار وتفويض ولو وكلت شخصا يشتري لك حاجة فقد توكلت عليه اعتمدت عليه في شراء الحاجة لكن هل هذا اعتماد افتقار وتفويض مطلق ؟ لا لو شئت لعزلته ولو خالف ما وكلته فيه لضمنته لكن توكلك على الله توكل افتقار وتفويض تفوض الأمر إليه وتسند الأمر إليه وهذا هو الفرق الذي لا يصح إلا لله والتوكل الذي يصح للمخلوق ( وإليك أنبت ) الإنابة بمعنى الرجوع أي إليك رجعت في أموري كلها رجعت من المعصية إلى الطاعة رجعت إليك في تسهيل أموري في رزقي في كل شيء أنبت إليك في كل شيء ( وبك خاصمت ) خاصمت من ؟ كل من يخاصمني فيك فإني أخاصم بك والباء هنا ليست للظرفية ولكنها للاستعانة أي أنك تعينني على خصومتي مع من أخاصمهم ويمكن أن تكون الباء للظرفية ويكون المعنى فيك خاصمت لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يخاصم في الله كما خوصم إبراهيم (( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه )) فعلى هذا نقول الباء يحتمل أن يكون للظرفية بمعنى في ويحتمل أن تكون للاستعانة والفرق بين المعنيين واضح إذا كانت الباء للظرفية صار المعنى أنني أخاصم فيك إذا خاصمني المخاصم وجادلني المجادل في أسمائك وصفاتك خاصمته وإذا كان معنى الاستعانة أنني أستعين بك في خصومتي لغيري وكلا المعنيين صحيح فإذا قال قائل : هل تأتي الباء للظرفية ؟ قلنا نعم ففي القرآن الكريم (( إنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون )) أي وفي الليل ( وبك خاصمت وإليك حاكمت ) يعني حكومتي تنتهي إليك لا أحاكم إلى غيرك فشرعك هو الحكم فأنا أحاكم إليك ولا أتعدى حكمك وهذا تفويض تام لله كونا وقدرا وكل هذه الكلمات والجمل التي تتضمن الثناء على الله كلها وسيلة لما سيأتي قال : ( فاغفر لي ) فالفاء هنا تسمى الفاء الفصيحة ويجوز أن تكون للسببية أي فبسبب ذلك اغفر لي والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه وليس الستر فقط ودليل ذلك أنها مشتقة من المغفر وهو ما يلبس على الرأس أثناء القتال لحماية الرأس من السهام والمغفر يحصل به ستر ووقاية فإذا سألت ربك مغفرة الذنوب فأنت تسأله الأمرين الستر والتجاوز عن عقوبة هذا الذنب ( فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وأسررت وأعلنت ) ما في قوله : ( ما قدمت موصولة ) وكذلك في قوله ما أخرت وأسررت وأعلنت معطوفة على الصلة والمعطوف على الصلة يقتضي أن يكون معطوفا على الموصول أيضا والمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يغفر له ما قدم وأخر وأسر وأعلن وفي هذه الجمل بسط ظاهر فيها بسط لأنه يغني عنها أن يقول اغفر لي ذنبي لكفى لأن ذنبي مفرد مضاف يشمل كل الذنوب ما أسر وأعلن وقدم وأخر لكن مقام الدعاء يقتضي البسط لماذا لأمور : الأول : وهو أهمها لمن فتح الله على قلبه التلذذ بمناجاة الله عز وجل لأن كل واحد منا لو كان له صديق محبوب إليه أفلا يحب أن يبسط مع القول ويكثر معه القول بلى لا شك تجده إذا جلس إلى صديقه الذي يحبه وقام يتحدثان تمضي الساعات الطويلة وكأنها دقائق حتى أن بعض الناس بعض الأصدقاء يشيع صديقه إلى بيته تعرفون التشييع يعني يمشي معه إلى البيت يتحدثان ويمشيان رويدا رويدا فإذا وصل إلى بيته انقلب فشيعه الآخر وهكذا دواليك ربما يطلع الفجر إن كانا في الليل وهما على هذا الحال وهذا أمر مشاهد ومعروف أن الإنسان يحب أن يبسط القول مع من يحب هذه واحدة والشيء الثاني الدعاء عبادة وكلما كررت ازددت لله تعبدا فيزداد أجرك بازدياد جمل الدعاء الشيء الثالث أن البسط والتفصيل يوجب يوجب تذكر الإنسان كل هذه الأنواع الذي بسطها وبينها وفسرها واستحضار الإنسان لذنوبه تفصيلا أكمل في التوبة لأن التوبة المجملة ما تستوعب جميع الذنوب استحضارا وإن كانت تستوعب جميع الذنوب لفظا ومدلولا لكن استحضارا لا فلو قلت اللهم اغفر ذنبي كله وأنت فعلت ذنوبا قد تكون أكبر مما تتصوره الآن لكن غابت عن بالك فإذا ذكرت وفصلت كان هذا أبلغ في التوبة لأن الدلالة على تعيين الأفراد أقوى من الدلالة على العموم طيب هذه ثلاث فوائد في البسط.