ما معنى الآية : ( سنريهم آياتنا في الآفاق ) وقوله : ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ) من هم الثلاثة الذين خلفوا وما سبب نزول الآية ؟ حفظ
السائل : ما معنى الآية الكريمة: (( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ )) والآية الثانية يقول: (( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ))، من هم الثلاثة الذين خلفوا، وما سبب نزول هذه الآية؟
الشيخ : أما الآية الأولى وهي قوله تعالى: (( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )) فإن هذه الآية يعد الله سبحانه وتعالى فيها أنه سيري هؤلاء المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سيريهم آياته أي العلامات الدالة على صدق نبيه صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته، والسين هنا للتنفيس، والتحقيق وهو وقوع الشيء عن قرب.
وقوله: (( فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ )) و(( في الآفاق )) جمع أفق وهي النواحي، سيريهم الله عز وجل الآيات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في الآفاق في فتحه للبلاد وإسلام أهلها، وربما تكون الآفاق هنا أوسع من الفتوحات، فيكون كل ما يظهر من الأمور الأفقية شاهدا لما جاء في القرآن فإنه يكون دليلا على صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته.
وقوله: (( وَفِي أَنْفُسِهِمْ )) أي: في أنفس هؤلاء المكذبين حيث تكون الدولة عليهم فيغلبون، وتكون الغلبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )) أي: حتى يظهر ويبين أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق.
ثم قال تعالى: (( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )) يعني: أو لم تكف شهادة الله تعالى على كل شيء عن كل آية، فإن شهادة الله على الشي أعظم من شهادة غيره (( وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا )).
وشهادة الله تعالى لرسوله بالحق نوعان: شهادة قولية وشهادة فعلية، أما الشهادة القولية فإن الله تعالى قال في القرآن الكريم: (( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا )) فهذه شهادة قولية بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما الشهادة الفعلية فهي تمكين الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في الأرض ونصره إياه وإدالته على أعدائه، فإنه لو كان صلى الله عليه وسلم غير صادق فيما جاء به من الرسالة والنبوة ما مكن الله له، لأن الله تعالى لا يمكن لظالم في أرضه كما قال الله تعالى: (( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ )) وقال تعالى: (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ))، ولهذا كل من ادعى النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى لا يمكن له ولا ينصره، بل يخذله ويبين كذبه حتى يظهر للناس أمره، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلم.
وأما الآية الثانية وهي قول السائل : من هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا؟
فالثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، هؤلاء الثلاثة تخلفوا عن غزوة تبوك التي قادها النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت في وقت حار، والثمار قد طابت، والظل محبوب إلى النفوس، ولهذا بين النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة أنه سيذهب إلى كذا وكذا، فبين للناس جهة قصده مع أنه كان من عادته إذا أراد غزوة ورى بغيرها عليه الصلاة والسلام، لكن لما كانت هذه الغزوة بعيدة المسافة وكان الذين يقابلون المسلمين بها جمع كثير من الروم بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم وجهة قصده حتى يكون الناس على بينة من أمرهم.
تخلف هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم عن هذه الغزوة بدون عذر، فأنزل الله تعالى فيهم: (( وعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ))، وكان من قصتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة راجعا من تبوك جاء إليه المنافقون يعتذرون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ظواهرهم ويكل سرائرهم إلى الله عز وجل فيستغفر لهم حين يقولون: إن لنا عذرا بكذا وبكذا وبكذا فيستغفر لهم، أما كعب بن مالك وصاحباه رضي الله عنهم فقد صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالخبر الصحيح بأنهم تخلفوا بلا عذر فأرجأ النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم حتى يحكم الله فيهم، وأمر الناس بهجرهم وعدم إيوائهم وعدم الكلام معهم، حتى إن كعب بن مالك رضي الله عنه جاء إلى أبي قتادة وكان ابن عمه فتسور عليه حائطه وسلم عليه، ولكنه لم يرد عليه السلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهجرهم، وكان هو أي كعب يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه يقول: فلا أدري أحرك شفتيه برد السلام أم لا، مع كمال حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بقوا أربعين ليلة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتزلوا نساءهم، كل هذا مبالغة في هجرهم وتعزيرا عن تخلفهم حتى يقضي الله تعالى في أمرهم ما يريد، وكان في هذه القصة التي بلغت منهم هذا المبلغ العظيم: ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أي أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه حتى إن كعب بن مالك يقول: تنكرت لي الأرض فلم تكن الأرض التي أنا أعرفها، وتنكر له الناس لا يؤوونه ولا يسلمون عليه، ولكن بعد أن مضى خمسون ليلة أنزل الله تعالى الفرج بتوبته عليهم، فلما صلى النبي عليه الصلاة والسلام أخبر الناس أن الله قد أنزل توبتهم، فزال هذا الغم الشديد والكرب العظيم الذي أصابهم في هذه المحنة، وكانت هذه المحنة منحة عظيمة في عاقبتها حيث صبروا على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم من هجرهم، وصبروا على هذه النكبة العظيمة مع أن كعب بن مالك رضي الله عنه أتاه كتاب من ملك غسان يقول فيه: إنه قد بلغنا أن صاحبك قد هجرك أو قد قلاك يعني النبي صلى الله عليه وسلم فالحق بنا نواسك، يعني: ائت إلينا نواسك ونجعلك مثلنا، ولكنه رضي الله عنه لقوة إيمانه لما أتاه هذا الكتاب عمد إلى التنور فسجره به وأحرقه وصبر، وإلا فإن الفرصة مواتية له لو كان يريد الدنيا لكنه يريد الله ورسول الله فكانت هذه النتيجة العظيمة التي تعتبر من أعظم المفاخر، أنزل الله فيهم كتاباً يتلى إلى يوم القيامة: (( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )) ومعنى قوله: ((الَّذِينَ خُلِّفُوا )) يعني خلفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأرجأ أمرهم فلم يقض فيهم بشيء سوى أن أمر بهجرهم، وليس معنى (( الَّذِينَ خُلِّفُوا )) يعني تخلفوا عن الغزوة، ولو كان هذا هو المراد لقال الله عز وجل: (( وعلى الثلاثة الذين تخلفوا )) لكنه قال: (( الَّذِينَ خُلِّفُوا )) أي خلف النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم وأرجأه حتى يقضي الله فيه ما أراد.
وفي قوله سبحانه وتعالى: (( إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )) دليل على كثرة توبة الله عز وجل، لأن التواب صيغة مبالغة تقتضي الكثرة، وعلى أنه عز وجل يحب التوبة على عباده، وهذا ظاهر في النصوص من الكتاب والسنة كما قال الله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم براحلته )، وذكر صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل أضاع راحلته في أرض فلاة وعليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها، فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت، لأنه أيس من الحياة فاستيقظ وإذا بخطام ناقته متعلقا بالشجرة فأخذ بخطامها وقال: ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح ) فإذا كان الله عز وجل يحب التوبة من عبده فهو كذلك يحب التوبة على عبده، فالعبد يتوب إلى الله والله عز وجل يتوب على العبد، نسأل الله تعالى أن يتوب علينا وعلى إخواننا المسلمين.
السائل : شكر الله لكم، وعظم الله مثوبتكم.
الشيخ : أما الآية الأولى وهي قوله تعالى: (( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )) فإن هذه الآية يعد الله سبحانه وتعالى فيها أنه سيري هؤلاء المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سيريهم آياته أي العلامات الدالة على صدق نبيه صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته، والسين هنا للتنفيس، والتحقيق وهو وقوع الشيء عن قرب.
وقوله: (( فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ )) و(( في الآفاق )) جمع أفق وهي النواحي، سيريهم الله عز وجل الآيات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في الآفاق في فتحه للبلاد وإسلام أهلها، وربما تكون الآفاق هنا أوسع من الفتوحات، فيكون كل ما يظهر من الأمور الأفقية شاهدا لما جاء في القرآن فإنه يكون دليلا على صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته.
وقوله: (( وَفِي أَنْفُسِهِمْ )) أي: في أنفس هؤلاء المكذبين حيث تكون الدولة عليهم فيغلبون، وتكون الغلبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )) أي: حتى يظهر ويبين أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق.
ثم قال تعالى: (( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )) يعني: أو لم تكف شهادة الله تعالى على كل شيء عن كل آية، فإن شهادة الله على الشي أعظم من شهادة غيره (( وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا )).
وشهادة الله تعالى لرسوله بالحق نوعان: شهادة قولية وشهادة فعلية، أما الشهادة القولية فإن الله تعالى قال في القرآن الكريم: (( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا )) فهذه شهادة قولية بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما الشهادة الفعلية فهي تمكين الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في الأرض ونصره إياه وإدالته على أعدائه، فإنه لو كان صلى الله عليه وسلم غير صادق فيما جاء به من الرسالة والنبوة ما مكن الله له، لأن الله تعالى لا يمكن لظالم في أرضه كما قال الله تعالى: (( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ )) وقال تعالى: (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ))، ولهذا كل من ادعى النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى لا يمكن له ولا ينصره، بل يخذله ويبين كذبه حتى يظهر للناس أمره، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلم.
وأما الآية الثانية وهي قول السائل : من هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا؟
فالثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، هؤلاء الثلاثة تخلفوا عن غزوة تبوك التي قادها النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت في وقت حار، والثمار قد طابت، والظل محبوب إلى النفوس، ولهذا بين النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة أنه سيذهب إلى كذا وكذا، فبين للناس جهة قصده مع أنه كان من عادته إذا أراد غزوة ورى بغيرها عليه الصلاة والسلام، لكن لما كانت هذه الغزوة بعيدة المسافة وكان الذين يقابلون المسلمين بها جمع كثير من الروم بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم وجهة قصده حتى يكون الناس على بينة من أمرهم.
تخلف هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم عن هذه الغزوة بدون عذر، فأنزل الله تعالى فيهم: (( وعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ))، وكان من قصتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة راجعا من تبوك جاء إليه المنافقون يعتذرون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ظواهرهم ويكل سرائرهم إلى الله عز وجل فيستغفر لهم حين يقولون: إن لنا عذرا بكذا وبكذا وبكذا فيستغفر لهم، أما كعب بن مالك وصاحباه رضي الله عنهم فقد صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالخبر الصحيح بأنهم تخلفوا بلا عذر فأرجأ النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم حتى يحكم الله فيهم، وأمر الناس بهجرهم وعدم إيوائهم وعدم الكلام معهم، حتى إن كعب بن مالك رضي الله عنه جاء إلى أبي قتادة وكان ابن عمه فتسور عليه حائطه وسلم عليه، ولكنه لم يرد عليه السلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهجرهم، وكان هو أي كعب يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه يقول: فلا أدري أحرك شفتيه برد السلام أم لا، مع كمال حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بقوا أربعين ليلة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتزلوا نساءهم، كل هذا مبالغة في هجرهم وتعزيرا عن تخلفهم حتى يقضي الله تعالى في أمرهم ما يريد، وكان في هذه القصة التي بلغت منهم هذا المبلغ العظيم: ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أي أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه حتى إن كعب بن مالك يقول: تنكرت لي الأرض فلم تكن الأرض التي أنا أعرفها، وتنكر له الناس لا يؤوونه ولا يسلمون عليه، ولكن بعد أن مضى خمسون ليلة أنزل الله تعالى الفرج بتوبته عليهم، فلما صلى النبي عليه الصلاة والسلام أخبر الناس أن الله قد أنزل توبتهم، فزال هذا الغم الشديد والكرب العظيم الذي أصابهم في هذه المحنة، وكانت هذه المحنة منحة عظيمة في عاقبتها حيث صبروا على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم من هجرهم، وصبروا على هذه النكبة العظيمة مع أن كعب بن مالك رضي الله عنه أتاه كتاب من ملك غسان يقول فيه: إنه قد بلغنا أن صاحبك قد هجرك أو قد قلاك يعني النبي صلى الله عليه وسلم فالحق بنا نواسك، يعني: ائت إلينا نواسك ونجعلك مثلنا، ولكنه رضي الله عنه لقوة إيمانه لما أتاه هذا الكتاب عمد إلى التنور فسجره به وأحرقه وصبر، وإلا فإن الفرصة مواتية له لو كان يريد الدنيا لكنه يريد الله ورسول الله فكانت هذه النتيجة العظيمة التي تعتبر من أعظم المفاخر، أنزل الله فيهم كتاباً يتلى إلى يوم القيامة: (( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )) ومعنى قوله: ((الَّذِينَ خُلِّفُوا )) يعني خلفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأرجأ أمرهم فلم يقض فيهم بشيء سوى أن أمر بهجرهم، وليس معنى (( الَّذِينَ خُلِّفُوا )) يعني تخلفوا عن الغزوة، ولو كان هذا هو المراد لقال الله عز وجل: (( وعلى الثلاثة الذين تخلفوا )) لكنه قال: (( الَّذِينَ خُلِّفُوا )) أي خلف النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم وأرجأه حتى يقضي الله فيه ما أراد.
وفي قوله سبحانه وتعالى: (( إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )) دليل على كثرة توبة الله عز وجل، لأن التواب صيغة مبالغة تقتضي الكثرة، وعلى أنه عز وجل يحب التوبة على عباده، وهذا ظاهر في النصوص من الكتاب والسنة كما قال الله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم براحلته )، وذكر صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل أضاع راحلته في أرض فلاة وعليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها، فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت، لأنه أيس من الحياة فاستيقظ وإذا بخطام ناقته متعلقا بالشجرة فأخذ بخطامها وقال: ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح ) فإذا كان الله عز وجل يحب التوبة من عبده فهو كذلك يحب التوبة على عبده، فالعبد يتوب إلى الله والله عز وجل يتوب على العبد، نسأل الله تعالى أن يتوب علينا وعلى إخواننا المسلمين.
السائل : شكر الله لكم، وعظم الله مثوبتكم.