أرجو أن تبينوا لنا حقيقة الأمر في مسألة عصمة الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم حيث يلتبس الأمر على كثير من الناس في هذا الشأن و كثيرا ما نسمع ما يمكن أن يفهم منه أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان معصوما من الخطأ كما يفهم من عموم قوله تعالى ( و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) و لكن نرى في بعض ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصيب و يخطأ في بعض الأمور كالسهو في الصلاة مثلا و ماهي الجوانب التي عصم منها من الخطأ و الجوانب التي لم يعصم من الخطأ ؟ حفظ
السائل : أرجو أن تبينوا لنا مشكورين حقيقة الأمر في مسألة عصمة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، حيث يلتبس الأمر على كثير من الناس في هذا الشأن ، كثيراً ما نسمع ما يمكن أن يفهم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان معصوماً من الخطأ كما يفهم من عموم قوله تعالى : (( وما ينطق عن الهوى إن هو الا وحي يوحى )) ولكن نرى في بعض ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصيب ويخطئ في بعض الأمور ، كالسهو في الصلاة مثلاً ، فما حقيقة أمر العصمة للرسول صلى الله عليه وسلم ؟. وما هي الجوانب التي عصم منها من الخطأ تحديداً ، والجوانب التي لم يعصم من الخطأ مشكورين ؟.
الشيخ : الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فإني أسأل هذا السائل هل يؤمن بأن محمداً رسول الله ؟. على كل حال هو يؤمن بهذا لا شك إن شاء الله ، إذا كان يؤمن بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله فكفى ، وما وقع منه فإنه لا ينافي الرسالة فالسهو وقع منه في الصلاة ، ولكنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ) .
وعدم العلم وقع منه عليه الصلاة والسلام ، فقد صلى ذات يوم بأصحابه وعليه نعلاه ، وفي أثناء الصلاة خلع النعلين ، فخلع المسلمون نعالهم ، فلما سلم سألهم : ( لماذا ) ؟ قالوا : يا رسول الله رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا . فقال : ( إن جبريل أتاني وأخبرني أن فيهما قذراً فخلعتهما ) ، فهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى في نعليه ولم يعلم أن فيهما قذراً .
وهذا أيضاً من طبيعة البشر أن الإنسان جاهل ، هذا الأصل في الإنسان كما قال الله عز وجل : (( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون )) .
نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد يجتهد في أفعاله ولا يكون اجتهاده مصيباً ، لكنه حين فعله للشيء الذي صدر منه عن اجتهاد هو مصيب ، كما في قول الله تعالى : (( عبس وتولى ، أن جاءه الأعمى ، وما يدريك لعله يزكى ، أو يذكر فتنفعه الذكرى ، أما من استغنى ، فأنت له تصدى ، وما عليك ألا يزكى ، وأما من جاءك يسعى ، وهو يخشى، فأنت عنه تلهى ، كلا إنها تذكرة )) . فهذا وقع اجتهاداً من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينصرف إلى هؤلاء الكبراء الذين جاءوا إليه من قريش ، يرجو إسلامهم وينتفع بإسلامهم قومهم والمسلمون جميعاً .
ومثل قول الله تعالى : (( عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين )) . فاجتهد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعفا عنهم ، لمحبته صلى الله عليه وسلم للعفو ، وأخذ الناس بظواهرهم ، وهو حين عفوه عنهم مصيب ، لكن بين الله عز وجل له أن الحكمة هي الانتظار ، وهذا لا يخدش في الرسالة ، النسيان من طبيعة الإنسان ، وعدم العلم هو أصل الإنسان أنه لا يعلم ، حين وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم مثل هذا فإنه والله لا يخدش بالرسالة .
وأما قوله تعالى : (( وما ينطق عن الهوى )) فالمعنى : أنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق نطقاً صادراً عن هوى ، وإنما نطقه إما عن وحي من الله وإما عن اجتهاد ، فليس كغيره ممن ينطق عن الهوى ويتكلم بما يهوى سواء كان الحق أو غير الحق .
وإني أنصح هذا السائل وغيره ألا يتعمقوا في مثل هذه الأمور فيلقي الشيطان في قلوبهم شرّاً ، فالإنسان غير آمن من الشيطان ، أليس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات ليلة وهو معتكف قام يقلب صفية رضي الله عنها حين جلست عنده ساعة من الليل في معتكفه ، فقام يقلبها عليه الصلاة والسلام -أي يمشي معها- فأبصر به رجلان من الأنصار فأسرعا ، أسرعا خوفاً وخجلاً من النبي صلى الله عليه وسلم وحياء ، فقال : ( على رسلكما إنها صفية) . فقالا : سبحان الله ! قال : ( نعم ، إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئاً أو قال: شراً ) .
فانظر إلى هذا ، خاف أن يلقي الشيطان في قلوبهما ما لا يليق بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهما من الصحابة ، فالبحث في هذه الأمور والتعمق فيها قد يكون خطراً على الإنسان وهو لا يشعر ، وأنا أشكر السائل حيث سأل ليتبين له الأمر .
لكني أقول : إن الأولى بالإنسان أن يدع البحث في هذه الأمور ، وأن يقول محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو أبعد الناس أن يقول عن هوى أو أن يحكم بالهوى ، بل هو الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام .
ثم إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من كل ما يخل بالإخلاص لله عز وجل فلم يقع منهم الشرك ، معصومون عن كل ما يخل بالمروءة والخلق فلم يقع منهم ما ينافي ذلك ، وأما بعض الذنوب فيقع منهم ، لكنهم من خصائصهم أنهم معصومون من الاستمرار فيها وعدم التوبة ، وإذا تاب الإنسان من الذنب فكمن لا ذنب له ، بل قد تكون حاله بعد التوبة من الذنب أكمل من حاله قبل أن يفعل الذنب .
وبهذه المناسبة أود أن أبين أن ما ذكر في الإسرائيليات عن داود عليه الصلاة والسلام في قصة الخصمين اللذين اختصما عنده وقال أحدهما : (( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ، قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه )). في بعض الإسرائيليات أن داود عليه الصلاة والسلام كان له أحد الجنود ، وكان عند هذا الجندي امرأة أعجبت داود وأرادها ، فطلب من هذا الجندي أن يذهب للجهاد لعله يقتل فيأخذ زوجته ، هذه قصة كذب كذب كذب ، ولا يجوز لأحد أن ينقلها إلا إذا بين أنها كذب ، ولا يجوز اعتقادها في نبي من أنبياء الله ، هذه لا تليق ولا من عامي من الناس فكيف بنبي ؟ .
ولا أستبعد أن هذه من دسائس اليهود التي دسوها على المسلمين ليفسدوا بذلك دينهم ، والقضية هي أن هذا الرجل مع خصمه عنده نعجة واحدة ، -أي: أنثى من الضأن- ، وكان أخوه- أي خصمه- عنده تسع وتسعون ، فقال له : أنت ليس عندك إلا واحدة لا تغني شيئاً ، وأنا عندي تسع وتسعون ، باقٍ واحدة وتكتمل المائة ، والإنسان ينظر إلى تكميل العدد ، فطلب منه هذه الواحدة ، وجعل يورد عليه الحجج حتى غلبه في الحجج فاختصما إلى داود .
فإذا قال قائل ما تقول في قوله تعالى : (( وظن داوود أنما فتناه فستغفر ربه )) ؟.
فالجواب سهل : داود عليه السلام جعله الله خليفة في الأرض يحكم بين الناس ، وكونه يدخل محرابه- أي متعبده - ثم يغلق الباب خلاف لما كلف به ، وهو مجتهد في ذلك لا شك ، ثم إنه حكم على الخصم قبل أن يسمع حجة الآخر المحكوم عليه ، فلما قال الخصم : (( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ، قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ... )) الخ . فحكم قبل أن يسمع حجة الخصم ، ولعله أراد من أجل أن يسرع التفرغ للعبادة ، فلما جاءت هذه القصة وأخذ بقول الخصم وكان قد أغلق الباب ، ظن داود عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى أرسل هذين الخصمين اختباراً له (( فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب )) .
فإن قال قائل : ما تقولون في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لهند حين شكت زوجها أبا سفيان أنه رجل شحيح لا يعطيها وولدها ما يكفيهم ، فقال : ( خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف ) فحكم لها ؟ .
فالجواب أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم فتيا وليست قضاء بين خصمين ، لأن خصمها لم يحضر ، فهو أفتاها على صورة القضية بدون محاكمة ومخاصمة .