تفسير قول الله تعالى : [ إن للمتقين مفازا ....] إلى نهاية السورة. حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
أما بعد: فإننا في هذا اليوم: الخميس، الثامن عشر من شهر جمادى الأولى، عام ثلاثة عشر وأربعمائة وألف نلتقي بإخواننا اللقاء الثالث من هذا الشهر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله لقاءً مباركاً نافعاً.
نستمر في تفسير سورة النبأ، حيث وقفنا على قول الله تعالى: (( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً )) إلى آخر ما ذكر الله عز وجل.
هذه الآيات جاءت بعد قوله: (( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً ))، وذلك أن القرآن الكريم مثاني تثنى فيه الأمور، إذا ذكر فيه الثواب ذكر العقاب، وإذا ذكر العقاب ذكر الثواب، وإذا ذكرت صفات المؤمنين ذكرت صفات الكافرين وهكذا، لأجل أن يكون الإنسان حين يقرأ القرآن راغباً راهباً، إذا قرأ ما فيه الثواب للمؤمنين رغب ورجا وأمَّل، وإذا قرأ ما فيه عقاب الكافرين خاف، فيكون سائراً إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، لا يأمن مكر الله ولا ييأس من رحمة الله.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: " ينبغي أن يكون الإنسان في عبادته لربه بين الخوف والرجاء، فأيهما غلب هلك صاحبه ".
يقول عز وجل: (( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً )) المتقون: هم الذين اتقوا عقاب الله، وذلك بفعل أوامر الله واجتناب نواهيه، أَحياناً يأمر الله بتقواه، وأحياناً يأمر بتقوى يوم الحساب، وأحياناً يأمر بتقوى النار، قال الله تعالى: (( وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ )) فجمع بين الأمر بتقواه والأمر بتقوى النار، وقال تعالى: (( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ )) فأمر بتقوى يوم الحساب.
وكل هذا يدور على معنى واحد، وهو أن يتقي الإنسان محارم ربه، فيقوم بطاعته وينتهي عن معصيته.
فالمتقون هم الذين قاموا بأوامر الله، واجتنبوا نواهيَ الله، هؤلاء لهم مفازاً، والمفاز هو: مكان الفوز وزمان الفوز أيضاً، فهم فائزون في أمكنتهم وفائزون في أيامهم.
يقول عز وجل: (( حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً )) هذا نوع المفاز.
(( حدائق )) أي: بساتين عظيمة الأشجار، كثيرة الأشجار، منوعة الأشجار.
(( وَأَعْنَاباً )) جمع عنب، وهي من جملة الحدائق لكنه خصها بالذكر.
(( وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً )) الكواعب جمع كاعب، وهي المرأة التي تبين ثديها ولم يتدلى، بل برز وظهر كالكعب، وهذا أكمل ما يكون في جمال الصدر.
(( أَتْرَاباً )) أي: على سن واحدة، لا تختلف إحداهن عن الأخرى كبراً كما في نساء الدنيا، لأنه لو اختلفت إحداهن عن الأخرى كبراً، فربما تختلُّ الموازنة بينهما، وربما تكون إحداهما محزونة إذ لم تساوي الأخرى، لكنهن أتراب.
(( وَكَأْساً دِهَاقاً )) أي: كأساً ممتلئة، والمراد بالكأس هنا كأس الخمر، وربما يكون من الخمر وغيره، لأن الجنة: (( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً )).
الكأس الدهاق يعني: المملوءة من الخمر، وربما يكون من الخمر وغيره.
(( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً )): لا يسمعون في الجنة لغواً، أي: كلاماً باطلاً لا خير فيه، (( ولا كِذاباً ))، أي: ولا كذباً، فلا يكذبون ولا يُكذب بعضهم بعضاً، لأنهم على سرر متقابلين، قد نزع الله ما في صدورهم من غلٍ وجعلهم إخواناً.
(( جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً )) أي: أنهم يجزون بهذا جزاء من الله سبحانه وتعالى على أعمالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا واتقوا بها محارم الله.
وقوله عز وجل: (( حِسَاباً ))، أي: كافياً مأخوذة من الحَسب وهو الكفاية، أي: أن هذا الكأس كأسٌ كافٍ لا يحتاجون معه إلى غيره، لكمال لذته وتمام منفعته.
ثم قال عز وجل: (( رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ )): فالله سبحانه وتعالى هو رب كل شيء، قال الله تعالى: (( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ))، فهو رب السماوات السبع الطباق، ورب الأرض وهي سبع كما ثبت ذلك في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(( وما بَيْنَهُمَا ))، أي: ما بين السموات والأرض من المخلوقات العظيمة كالغيوم والسحب، والأفلاك وغيرها مما نعلمه ومما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً )) يعني: أن الناس لا يملكون خطاباً من الله، ولا يستطيع أحد أن يتكلم إلا بإذن الله، وذلك (( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ )) وهو جبريل: (( وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً )) أي: صفوفاً صفاً بعد صف، لأنه كما جاء في الحديث: ( تنزل ملائكة السماء الدنيا فتحيط بالخلق، ثم ملائكة السماء الثانية من ورائهم )، ثم الثالثة ثم الرابعة والخامسة وهكذا صفوفاً لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم سبحانه وتعالى.
(( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً )) أي: لا يتكلم الملائكة ولا غيرهم، كما قال تعالى: (( وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً )).
(( إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ )) بالكلام فإنه يتكلم كما أُذن له.
(( وَقَالَ صَوَاباً )) أي: قال قولاً صواباً موافقاً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وذلك بالشفاعة إذا أذن الله سبحانه وتعالى لأحد أن يشفع شفع فيما أُذن له أن يشفع فيه، على حسب ما أُذن له.
قال الله تعالى: (( ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ )) أي: ذلك الذي أخبرناكم عنه هو اليوم الحق، والحق ضد الباطل، أي: الثابت الذي يقوم فيه الحق ويقوم فيه العدل، (( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )) أعانني الله وإياكم على ذلك اليوم.
(( فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا )) أي: من شاء عمل عملاً يئوب به إلى الله، ويرجع به إلى الله، وذلك العمل الصالح الموافق لمرضاة الله تعالى.
وقوله: (( فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا )): قيدتها آية أخرى وهي قوله تعالى: (( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )) يعني: أننا لنا الخيار فيما نذهب إليه، لا أحد يكرهنا على شيء، لكن مع ذلك خيارنا وإرادتنا ومشيئتنا راجعة إلى الله: (( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ))، وإنما بين الله تعالى ذلك في كتابه من أجل ألا يعتمد الإنسان على نفسه وعلى مشيئته، بل يعلم أنها مرتبطة بمشيئة الله حتى يلجأ إلى الله في سؤال الهداية لما يحب ويرضى، لا يقول الإنسان: أنا حر أريد ما شئت وأتصرف كما شئت، نقول: الأمر كذلك لكنك مربوط بإرادة الله عز وجل.
ثم قال تعالى: (( إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا )) أي: خوفناكم مِن عذاب قريب، وهو يوم القيامة، يوم القيامة في الحقيقة يا إخواننا قريب، ولو بقي في الدنيا ملايين السنين فإنه قريب: (( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ))، فهذا العذاب الذي أنذرنا الله قريب ليس بين الإنسان وبينه إلا أن يموت، والإنسان لا يدري متى يموت، قد يصبح ولا يمسي، أو يمسي ولا يصبح، ولهذا كان علينا أن نحزم في أعمالنا، وأن نستغل الفرصة قبل فوات الأوان.
(( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ )) المرء، أي: كل امرئ ينظر ما قدمت يداه، ويكون بين يديه، ويعطى كتاه ويقال: (( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )).
ويقول الكافر من شدة ما يرى من الهول وما يشاهد من العذاب، يقول: (( يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )) أي: ليتني لم أخلق، أو ليتني لم أبعث، أو إذا رأى البهائم التي يقضي الله بينها ثم يقول: كوني تراباً فتكون ترابًا، حينئذ يتمنى أن يكون مثل البهائم، فقوله: (( يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )) تحتمل ثلاث معاني:
المعنى الأول: (( يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )) أي: فلم أخلق، لأن الإنسان خلق من تراب.
المعنى الثاني: (( يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )) فلم أبعث، أي: كنت تراباً في أجواف القبور.
أو المعنى الثالث: أنه إذا رأى البهائم التي قضى الله بينها وقال لها: كوني تراباً فكانت تراباً قال: (( يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )) أي: كما كانت هذه البهائم، والله أعلم.
وإلى هنا تنتهي سورة النبأ وفيها من المواعظ والحكم وآيات الله عز وجل ما يكون موجباً للإيقان والإيمان، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بكتابه، وأن يجعله موعظة لقلوبنا وشفاء لما في صدورنا، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما الآن فإلى الأسئلة إذا كان عند أحد سؤال ونبدأ من اليمين.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
أما بعد: فإننا في هذا اليوم: الخميس، الثامن عشر من شهر جمادى الأولى، عام ثلاثة عشر وأربعمائة وألف نلتقي بإخواننا اللقاء الثالث من هذا الشهر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله لقاءً مباركاً نافعاً.
نستمر في تفسير سورة النبأ، حيث وقفنا على قول الله تعالى: (( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً )) إلى آخر ما ذكر الله عز وجل.
هذه الآيات جاءت بعد قوله: (( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً ))، وذلك أن القرآن الكريم مثاني تثنى فيه الأمور، إذا ذكر فيه الثواب ذكر العقاب، وإذا ذكر العقاب ذكر الثواب، وإذا ذكرت صفات المؤمنين ذكرت صفات الكافرين وهكذا، لأجل أن يكون الإنسان حين يقرأ القرآن راغباً راهباً، إذا قرأ ما فيه الثواب للمؤمنين رغب ورجا وأمَّل، وإذا قرأ ما فيه عقاب الكافرين خاف، فيكون سائراً إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، لا يأمن مكر الله ولا ييأس من رحمة الله.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: " ينبغي أن يكون الإنسان في عبادته لربه بين الخوف والرجاء، فأيهما غلب هلك صاحبه ".
يقول عز وجل: (( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً )) المتقون: هم الذين اتقوا عقاب الله، وذلك بفعل أوامر الله واجتناب نواهيه، أَحياناً يأمر الله بتقواه، وأحياناً يأمر بتقوى يوم الحساب، وأحياناً يأمر بتقوى النار، قال الله تعالى: (( وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ )) فجمع بين الأمر بتقواه والأمر بتقوى النار، وقال تعالى: (( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ )) فأمر بتقوى يوم الحساب.
وكل هذا يدور على معنى واحد، وهو أن يتقي الإنسان محارم ربه، فيقوم بطاعته وينتهي عن معصيته.
فالمتقون هم الذين قاموا بأوامر الله، واجتنبوا نواهيَ الله، هؤلاء لهم مفازاً، والمفاز هو: مكان الفوز وزمان الفوز أيضاً، فهم فائزون في أمكنتهم وفائزون في أيامهم.
يقول عز وجل: (( حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً )) هذا نوع المفاز.
(( حدائق )) أي: بساتين عظيمة الأشجار، كثيرة الأشجار، منوعة الأشجار.
(( وَأَعْنَاباً )) جمع عنب، وهي من جملة الحدائق لكنه خصها بالذكر.
(( وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً )) الكواعب جمع كاعب، وهي المرأة التي تبين ثديها ولم يتدلى، بل برز وظهر كالكعب، وهذا أكمل ما يكون في جمال الصدر.
(( أَتْرَاباً )) أي: على سن واحدة، لا تختلف إحداهن عن الأخرى كبراً كما في نساء الدنيا، لأنه لو اختلفت إحداهن عن الأخرى كبراً، فربما تختلُّ الموازنة بينهما، وربما تكون إحداهما محزونة إذ لم تساوي الأخرى، لكنهن أتراب.
(( وَكَأْساً دِهَاقاً )) أي: كأساً ممتلئة، والمراد بالكأس هنا كأس الخمر، وربما يكون من الخمر وغيره، لأن الجنة: (( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً )).
الكأس الدهاق يعني: المملوءة من الخمر، وربما يكون من الخمر وغيره.
(( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً )): لا يسمعون في الجنة لغواً، أي: كلاماً باطلاً لا خير فيه، (( ولا كِذاباً ))، أي: ولا كذباً، فلا يكذبون ولا يُكذب بعضهم بعضاً، لأنهم على سرر متقابلين، قد نزع الله ما في صدورهم من غلٍ وجعلهم إخواناً.
(( جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً )) أي: أنهم يجزون بهذا جزاء من الله سبحانه وتعالى على أعمالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا واتقوا بها محارم الله.
وقوله عز وجل: (( حِسَاباً ))، أي: كافياً مأخوذة من الحَسب وهو الكفاية، أي: أن هذا الكأس كأسٌ كافٍ لا يحتاجون معه إلى غيره، لكمال لذته وتمام منفعته.
ثم قال عز وجل: (( رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ )): فالله سبحانه وتعالى هو رب كل شيء، قال الله تعالى: (( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ))، فهو رب السماوات السبع الطباق، ورب الأرض وهي سبع كما ثبت ذلك في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(( وما بَيْنَهُمَا ))، أي: ما بين السموات والأرض من المخلوقات العظيمة كالغيوم والسحب، والأفلاك وغيرها مما نعلمه ومما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً )) يعني: أن الناس لا يملكون خطاباً من الله، ولا يستطيع أحد أن يتكلم إلا بإذن الله، وذلك (( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ )) وهو جبريل: (( وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً )) أي: صفوفاً صفاً بعد صف، لأنه كما جاء في الحديث: ( تنزل ملائكة السماء الدنيا فتحيط بالخلق، ثم ملائكة السماء الثانية من ورائهم )، ثم الثالثة ثم الرابعة والخامسة وهكذا صفوفاً لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم سبحانه وتعالى.
(( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً )) أي: لا يتكلم الملائكة ولا غيرهم، كما قال تعالى: (( وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً )).
(( إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ )) بالكلام فإنه يتكلم كما أُذن له.
(( وَقَالَ صَوَاباً )) أي: قال قولاً صواباً موافقاً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وذلك بالشفاعة إذا أذن الله سبحانه وتعالى لأحد أن يشفع شفع فيما أُذن له أن يشفع فيه، على حسب ما أُذن له.
قال الله تعالى: (( ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ )) أي: ذلك الذي أخبرناكم عنه هو اليوم الحق، والحق ضد الباطل، أي: الثابت الذي يقوم فيه الحق ويقوم فيه العدل، (( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )) أعانني الله وإياكم على ذلك اليوم.
(( فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا )) أي: من شاء عمل عملاً يئوب به إلى الله، ويرجع به إلى الله، وذلك العمل الصالح الموافق لمرضاة الله تعالى.
وقوله: (( فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا )): قيدتها آية أخرى وهي قوله تعالى: (( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )) يعني: أننا لنا الخيار فيما نذهب إليه، لا أحد يكرهنا على شيء، لكن مع ذلك خيارنا وإرادتنا ومشيئتنا راجعة إلى الله: (( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ))، وإنما بين الله تعالى ذلك في كتابه من أجل ألا يعتمد الإنسان على نفسه وعلى مشيئته، بل يعلم أنها مرتبطة بمشيئة الله حتى يلجأ إلى الله في سؤال الهداية لما يحب ويرضى، لا يقول الإنسان: أنا حر أريد ما شئت وأتصرف كما شئت، نقول: الأمر كذلك لكنك مربوط بإرادة الله عز وجل.
ثم قال تعالى: (( إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا )) أي: خوفناكم مِن عذاب قريب، وهو يوم القيامة، يوم القيامة في الحقيقة يا إخواننا قريب، ولو بقي في الدنيا ملايين السنين فإنه قريب: (( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ))، فهذا العذاب الذي أنذرنا الله قريب ليس بين الإنسان وبينه إلا أن يموت، والإنسان لا يدري متى يموت، قد يصبح ولا يمسي، أو يمسي ولا يصبح، ولهذا كان علينا أن نحزم في أعمالنا، وأن نستغل الفرصة قبل فوات الأوان.
(( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ )) المرء، أي: كل امرئ ينظر ما قدمت يداه، ويكون بين يديه، ويعطى كتاه ويقال: (( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )).
ويقول الكافر من شدة ما يرى من الهول وما يشاهد من العذاب، يقول: (( يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )) أي: ليتني لم أخلق، أو ليتني لم أبعث، أو إذا رأى البهائم التي يقضي الله بينها ثم يقول: كوني تراباً فتكون ترابًا، حينئذ يتمنى أن يكون مثل البهائم، فقوله: (( يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )) تحتمل ثلاث معاني:
المعنى الأول: (( يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )) أي: فلم أخلق، لأن الإنسان خلق من تراب.
المعنى الثاني: (( يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )) فلم أبعث، أي: كنت تراباً في أجواف القبور.
أو المعنى الثالث: أنه إذا رأى البهائم التي قضى الله بينها وقال لها: كوني تراباً فكانت تراباً قال: (( يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )) أي: كما كانت هذه البهائم، والله أعلم.
وإلى هنا تنتهي سورة النبأ وفيها من المواعظ والحكم وآيات الله عز وجل ما يكون موجباً للإيقان والإيمان، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بكتابه، وأن يجعله موعظة لقلوبنا وشفاء لما في صدورنا، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما الآن فإلى الأسئلة إذا كان عند أحد سؤال ونبدأ من اليمين.