خطبة صلاة الكسوف. حفظ
الشيخ : الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورًا، وقسَّم عباده إلى قسمين، فمنهم مؤمن بالله ومنهم كافر كان فجورًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى، واشكروا نعمته عليكم بما سخَّر لكم من مخلوقاته، فقد سخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه، (( وسخَّر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفَّار )).
سخر لكم الشمس والقمر لقيام مصالحكم الدينيةِ والدنيوية، والفرديةِ والجماعية، فكم من مصلحة في تنقل الشمس في بروجها وتعاقب الفصول، وكم من مصلحة في ترددها في شروقها وغروبها في بزوغها والأفول، وكم من مصلحة في تنقل القمر في منازله ومعرفة السنينَ والحسابِ في إبداره وإهلاله.
أيها الناس لقد جعل الله الشمس والقمر آيتين من آياته الدالة على كمال علمه وكمال عزته، وتمام قدرته، وكمال حكمته، تسيران بأمر الله سيرهما المعتاد، الشمسُ ضياء وسراج وهاج، والقمر نورٌ منير يضيء الليل للعباد، فإذا أراد الله تخويف عباده كسفهما بأمره، فانطمس نورُهما كله أو بعضه بما قدره جل وعلا من أسباب تقتضي ذلك، يقدر الله هذا الكسوف تخويفًا للعباد ليتوبوا إلى الله ويستغفروه ويقوموا بطاعته فيعبدونه ويعظموه.
عبادَ الله! إن الكسوف في الشمس أو القمر تخويفٌ من الله لعباده، يخوفهم من عقوبات قد تنزل بهم، عقوبات انعقدت أسبابها، وشرور مهلكة انفتحت أبوابها، وإن الكسوف نفسه ليس عقوبة، ولكنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يخوفُ الله به عباده ) فهو تخويف من عقوبات وشرور تنزل بهم لمخالفة أمر الله وعصيانه.
أيها المسلمون المؤمنون بالله ورسوله: لقد ضلَّ قوم غفلوا عن هذه الحكمة فلم يروا في الكسوف بأسًا، ولم يرفعوا به رأسًا، ولم يرجعوا إلى الله بهذا الإنذار، ولم يقفوا بين يديه بالذل والانكسار، وقالوا: هذا الكسوف أمرٌ طبيعي يعلم بالحساب، فوالله ما مَثَلُ هؤلاء إلا مَثَلُ من قال الله عنهم من الكفار والمعاندين: (( وإن يروا كِسفًا من السماء ساقطًا يقولوا سحاب مركوم ))، فلا أدري عن هؤلاء أهم في شك مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجعوا إلى سنته، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتًا لا شكَّ فيه في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما، وقال صلى الله عليه وسلم حين خطب الناس بعد صلاة الكسوف: ( إن الله يخوف بهما عباده ) فهل قال ذلك من تلقاء نفسه؟ هل قال ذلك جاهلًا بما يقول؟!
لا والله، لم يتقول ذلك، ولا قاله جاهلًا بمعناه، وإننا لنشهدُ الله عز وجل ونشهد كل من يسمعنا من خلقه أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق، وأنه ما كذب ولا كُذب، وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله وأعرفهم بآياته وحكمته، وأنه صلى الله عليه وسلم أنصحُ الخلق لعباد الله، وأنه أصدقهم قولًا، وأنه أفصحهم بيانًا، وأنه أهداهم سنة وطريقًا فصلوات الله وسلامه عليه.
أيها المسلمون، سبحان الله! كيف يليق بمن يؤمن بالله ورسوله وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الكسوف: ( إن الله يخوف به عباده ) ثم يقول: كيف يكون التخويف بالكسوف وهو أمر يعرف بالحساب؟
إن هذا التساؤل لا يرد أبدًا على أمر صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن على المؤمن إن كان مؤمنًا أن يسلم لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا كاملًا، ويعلم علمًا يقينيًّا أن ما صح عنه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يخالف الواقع، وإنما يظن المخالفة من قلَّ نصيبه من العلم والإيمان، أو ضعف فهمه فلم يقدر على التوفيق بين نصوص الشريعة والواقع.
أيها المسلمون إننا نقول تنزلًا مع هذا التساؤل: إن كون الكسوف أمرًا يعرف بالحساب لا ينافي أبدًا أن يكون حدوثه من أجل التخويف.
لله تعالى في تقدير الكسوف حكمتان:
حكمة قدرية يحصل الكسوف بوجودها، وهذه معروفة عند علماء الفلك وأهل الحساب، ولم يبينها النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، لأن الجهل بها لا يضر، بل العلم بها قد يكون ضارًّا.
وحكمة شرعية وهي تخويف العباد، وهذه لا يعلمها إلا الله عز وجل، أو من أطلعه الله عليها من رسله، فهل باستطاعة أحد أن يعلم لماذا قدَّر الله الكسوف إلا أن يكون عنده وحيٌ من الله بأنه قدره لكذا وكذا، وهذا هو ما بينه لنا رسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال عن الكسوف: ( يخوف الله به عباده )، وحتى يبطلُ ظن من ظن من الجهال أن الكسوف أمر طبيعي، إذ لو كان أمرًا طبيعيًّا كما في طلوع الشمس وغروبها وفي منازل القمر، لكان منتظم دوريًّا، كل ثلاثة شهور أو ستة شهور أو سنة أو سنتين مثلًا، ونحن نشاهد أن الكسوفات تتفاوت ما بينها، فتارة يكون الكسوف في السنة مرة، وتارة يكون في السنة مرتين، وتارة يكون في السنتين مرة أو أكثر من ذلك، وتارة تقل جدًّا، وتارة لا تكون إلا في عشر سنين أو أكثر.
كما أنه يكون تارة كليًّا وتارة جزئيًّا وتارة تطول مدته وتارة تقصر مدته، ولو كان أمرًا طبيعيًّا لم يكن مختلفًا هذا الاختلاف، كما لا تختلف في منازلها في البروج، ولا يختلف القمر في منازله عن الإهلال والإبدار.
أيها المسلمون لو كان أمرًا طبيعيًّا محضًا لم يكن فيه تخويف، كما أنه لا تخويف في طلوع الشمس وغروبها، ولا في طلوع القمر وغروبه.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وقفوا عند حدود الله، ولا تتفكروا فيما وراء ذلك مما قد تعلمونه أو لا تعلمونه يكون في علمه ضرر عليكم، إن الله عز وجل قال في كتابه: (( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمرِ ربي وما أُوتيتم من العلم إلا قليلًا )).
أيها المؤمنون بالله ورسوله: إن الكسوف حَدَثٌ خطير، وتنبيه من الله لعباده وتحذير، فلقد كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة مرة واحدة فقط، في يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر شوال سنة عشرٍ من الهجرة بعد أن طلعت الشمس بنحو خمس وأربعين دقيقة، ففزع الناس لذلك فزعًا عظيمًا، وقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فَزِعًا، وبعث مناديًا ينادي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، وصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة غريبة لا نظير لها في الصلوات المعتادة، كما أن الكسوف لا تأثير له في جريان الشمس والقمر المعتاد، فهي آية شرعية لآية كونية صلاها النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، في كل ركعة ركوعان وقراءتان يجهر بهما، صلاها بدون إقامة، فكبر صلى الله عليه وسلم وقرأ الفاتحة، ثم قرأ سورة طويلة، نحو سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلًا جدًّا، ثم رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قرأ قراءة طويلة دون الأولى، ثم ركع ركوعًا طويلًا دون الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وقام قيامًا طويلًا نحو ركوعه، ثم سجد سجودًا طويلًا نحو ركوعه، ثم جلس بين السجدتين جلوسًا طويلًا نحو سجوده، ثم سجد سجودًا طويلًا نحو سجوده الأول، ثم قام للركعة الثانية فصلاها كما صلى الركعة الأولى، إلا أنها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام والقعود، ثم تشهد وسلم، ثم قام في الناس فخطب خطبة عظيمة بليغة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده، فإذا رأيتموهما، -يعني: خاسِفين- فافزعوا إلى الصلاة ) وفي رواية: ( فافزعوا إلى المساجد )، وفي أخرى: ( فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره )، وفي رواية: ( فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا حتى ينجلي ).
وقال صلى الله عليه وسلم: ( يا أمةَ محمد والله ما من أحد أغيرَ من الله أن يزني عبده أو تزنيَ أَمَتُه، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، وما من شيء توعدونه إلا أريته في مقامي هذا ) أو قال: ( في صلاتي هذه، ولقد أوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم قريبًا أو مثل فتنة الدجال، ثم قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، وقال: لقد جيء بالنار يحطم بعضها بعضًا، وذلك حينما رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها حتى رأيت فيها عمرو بن لُحي يجر قُصْبه في النار -يعني: أمعاءه- ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي ألا أفعل ).
أيها المسلمون هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، وهكذا فَزِع، وأمر بالفزع، وهكذا عرض عليه ما عرض من أمور الآخرة، وهكذا خطب أمته تلك الخطبة العظيمة البالغة، فمتى رأيتم كسوف الشمس في أية ساعة من ساعات النهار في أول النهار أو في وسطه أو آخره ولو قبيل الغروب، فافزعوا إلى ما أمرتم بالفَزَعِ إليه من الدعاء والذكر والتكبير والاستغفار والصدقة والصلاة، ثم ذكّروا الناس وانصحوهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صلوا كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين في ركعة ركوعان وقراءتان، وتكون النصيحة بعد الصلاة، ومتى رأيتم كسوف القمر في أي وقت فافعلوا مثل ذلك أيضًا، فإنِ اقضت الصلاة والخسوف باقي فاشتغلوا بالدعاء والاستغفار والقراءة حتى ينجلي.
أيها المسلمون اتعظوا يآيات الله، واتخذوا مِن آياته سلمًا لتكونوا في مرضاة الله، لتقوموا بطاعته وتجتنبوا معصيته، اللهم إنا نسألك يا ربنا يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم في مقامنا هذا أن تجنبنا أسباب سخطك، اللهم جنبنا أسباب سخطك، اللهم ارض عنا، واجعلنا راضين عنك، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بِرٍّ، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى، واشكروا نعمته عليكم بما سخَّر لكم من مخلوقاته، فقد سخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه، (( وسخَّر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفَّار )).
سخر لكم الشمس والقمر لقيام مصالحكم الدينيةِ والدنيوية، والفرديةِ والجماعية، فكم من مصلحة في تنقل الشمس في بروجها وتعاقب الفصول، وكم من مصلحة في ترددها في شروقها وغروبها في بزوغها والأفول، وكم من مصلحة في تنقل القمر في منازله ومعرفة السنينَ والحسابِ في إبداره وإهلاله.
أيها الناس لقد جعل الله الشمس والقمر آيتين من آياته الدالة على كمال علمه وكمال عزته، وتمام قدرته، وكمال حكمته، تسيران بأمر الله سيرهما المعتاد، الشمسُ ضياء وسراج وهاج، والقمر نورٌ منير يضيء الليل للعباد، فإذا أراد الله تخويف عباده كسفهما بأمره، فانطمس نورُهما كله أو بعضه بما قدره جل وعلا من أسباب تقتضي ذلك، يقدر الله هذا الكسوف تخويفًا للعباد ليتوبوا إلى الله ويستغفروه ويقوموا بطاعته فيعبدونه ويعظموه.
عبادَ الله! إن الكسوف في الشمس أو القمر تخويفٌ من الله لعباده، يخوفهم من عقوبات قد تنزل بهم، عقوبات انعقدت أسبابها، وشرور مهلكة انفتحت أبوابها، وإن الكسوف نفسه ليس عقوبة، ولكنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يخوفُ الله به عباده ) فهو تخويف من عقوبات وشرور تنزل بهم لمخالفة أمر الله وعصيانه.
أيها المسلمون المؤمنون بالله ورسوله: لقد ضلَّ قوم غفلوا عن هذه الحكمة فلم يروا في الكسوف بأسًا، ولم يرفعوا به رأسًا، ولم يرجعوا إلى الله بهذا الإنذار، ولم يقفوا بين يديه بالذل والانكسار، وقالوا: هذا الكسوف أمرٌ طبيعي يعلم بالحساب، فوالله ما مَثَلُ هؤلاء إلا مَثَلُ من قال الله عنهم من الكفار والمعاندين: (( وإن يروا كِسفًا من السماء ساقطًا يقولوا سحاب مركوم ))، فلا أدري عن هؤلاء أهم في شك مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجعوا إلى سنته، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتًا لا شكَّ فيه في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما، وقال صلى الله عليه وسلم حين خطب الناس بعد صلاة الكسوف: ( إن الله يخوف بهما عباده ) فهل قال ذلك من تلقاء نفسه؟ هل قال ذلك جاهلًا بما يقول؟!
لا والله، لم يتقول ذلك، ولا قاله جاهلًا بمعناه، وإننا لنشهدُ الله عز وجل ونشهد كل من يسمعنا من خلقه أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق، وأنه ما كذب ولا كُذب، وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله وأعرفهم بآياته وحكمته، وأنه صلى الله عليه وسلم أنصحُ الخلق لعباد الله، وأنه أصدقهم قولًا، وأنه أفصحهم بيانًا، وأنه أهداهم سنة وطريقًا فصلوات الله وسلامه عليه.
أيها المسلمون، سبحان الله! كيف يليق بمن يؤمن بالله ورسوله وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الكسوف: ( إن الله يخوف به عباده ) ثم يقول: كيف يكون التخويف بالكسوف وهو أمر يعرف بالحساب؟
إن هذا التساؤل لا يرد أبدًا على أمر صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن على المؤمن إن كان مؤمنًا أن يسلم لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا كاملًا، ويعلم علمًا يقينيًّا أن ما صح عنه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يخالف الواقع، وإنما يظن المخالفة من قلَّ نصيبه من العلم والإيمان، أو ضعف فهمه فلم يقدر على التوفيق بين نصوص الشريعة والواقع.
أيها المسلمون إننا نقول تنزلًا مع هذا التساؤل: إن كون الكسوف أمرًا يعرف بالحساب لا ينافي أبدًا أن يكون حدوثه من أجل التخويف.
لله تعالى في تقدير الكسوف حكمتان:
حكمة قدرية يحصل الكسوف بوجودها، وهذه معروفة عند علماء الفلك وأهل الحساب، ولم يبينها النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، لأن الجهل بها لا يضر، بل العلم بها قد يكون ضارًّا.
وحكمة شرعية وهي تخويف العباد، وهذه لا يعلمها إلا الله عز وجل، أو من أطلعه الله عليها من رسله، فهل باستطاعة أحد أن يعلم لماذا قدَّر الله الكسوف إلا أن يكون عنده وحيٌ من الله بأنه قدره لكذا وكذا، وهذا هو ما بينه لنا رسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال عن الكسوف: ( يخوف الله به عباده )، وحتى يبطلُ ظن من ظن من الجهال أن الكسوف أمر طبيعي، إذ لو كان أمرًا طبيعيًّا كما في طلوع الشمس وغروبها وفي منازل القمر، لكان منتظم دوريًّا، كل ثلاثة شهور أو ستة شهور أو سنة أو سنتين مثلًا، ونحن نشاهد أن الكسوفات تتفاوت ما بينها، فتارة يكون الكسوف في السنة مرة، وتارة يكون في السنة مرتين، وتارة يكون في السنتين مرة أو أكثر من ذلك، وتارة تقل جدًّا، وتارة لا تكون إلا في عشر سنين أو أكثر.
كما أنه يكون تارة كليًّا وتارة جزئيًّا وتارة تطول مدته وتارة تقصر مدته، ولو كان أمرًا طبيعيًّا لم يكن مختلفًا هذا الاختلاف، كما لا تختلف في منازلها في البروج، ولا يختلف القمر في منازله عن الإهلال والإبدار.
أيها المسلمون لو كان أمرًا طبيعيًّا محضًا لم يكن فيه تخويف، كما أنه لا تخويف في طلوع الشمس وغروبها، ولا في طلوع القمر وغروبه.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وقفوا عند حدود الله، ولا تتفكروا فيما وراء ذلك مما قد تعلمونه أو لا تعلمونه يكون في علمه ضرر عليكم، إن الله عز وجل قال في كتابه: (( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمرِ ربي وما أُوتيتم من العلم إلا قليلًا )).
أيها المؤمنون بالله ورسوله: إن الكسوف حَدَثٌ خطير، وتنبيه من الله لعباده وتحذير، فلقد كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة مرة واحدة فقط، في يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر شوال سنة عشرٍ من الهجرة بعد أن طلعت الشمس بنحو خمس وأربعين دقيقة، ففزع الناس لذلك فزعًا عظيمًا، وقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فَزِعًا، وبعث مناديًا ينادي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، وصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة غريبة لا نظير لها في الصلوات المعتادة، كما أن الكسوف لا تأثير له في جريان الشمس والقمر المعتاد، فهي آية شرعية لآية كونية صلاها النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، في كل ركعة ركوعان وقراءتان يجهر بهما، صلاها بدون إقامة، فكبر صلى الله عليه وسلم وقرأ الفاتحة، ثم قرأ سورة طويلة، نحو سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلًا جدًّا، ثم رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قرأ قراءة طويلة دون الأولى، ثم ركع ركوعًا طويلًا دون الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وقام قيامًا طويلًا نحو ركوعه، ثم سجد سجودًا طويلًا نحو ركوعه، ثم جلس بين السجدتين جلوسًا طويلًا نحو سجوده، ثم سجد سجودًا طويلًا نحو سجوده الأول، ثم قام للركعة الثانية فصلاها كما صلى الركعة الأولى، إلا أنها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام والقعود، ثم تشهد وسلم، ثم قام في الناس فخطب خطبة عظيمة بليغة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده، فإذا رأيتموهما، -يعني: خاسِفين- فافزعوا إلى الصلاة ) وفي رواية: ( فافزعوا إلى المساجد )، وفي أخرى: ( فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره )، وفي رواية: ( فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا حتى ينجلي ).
وقال صلى الله عليه وسلم: ( يا أمةَ محمد والله ما من أحد أغيرَ من الله أن يزني عبده أو تزنيَ أَمَتُه، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، وما من شيء توعدونه إلا أريته في مقامي هذا ) أو قال: ( في صلاتي هذه، ولقد أوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم قريبًا أو مثل فتنة الدجال، ثم قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، وقال: لقد جيء بالنار يحطم بعضها بعضًا، وذلك حينما رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها حتى رأيت فيها عمرو بن لُحي يجر قُصْبه في النار -يعني: أمعاءه- ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي ألا أفعل ).
أيها المسلمون هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، وهكذا فَزِع، وأمر بالفزع، وهكذا عرض عليه ما عرض من أمور الآخرة، وهكذا خطب أمته تلك الخطبة العظيمة البالغة، فمتى رأيتم كسوف الشمس في أية ساعة من ساعات النهار في أول النهار أو في وسطه أو آخره ولو قبيل الغروب، فافزعوا إلى ما أمرتم بالفَزَعِ إليه من الدعاء والذكر والتكبير والاستغفار والصدقة والصلاة، ثم ذكّروا الناس وانصحوهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صلوا كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين في ركعة ركوعان وقراءتان، وتكون النصيحة بعد الصلاة، ومتى رأيتم كسوف القمر في أي وقت فافعلوا مثل ذلك أيضًا، فإنِ اقضت الصلاة والخسوف باقي فاشتغلوا بالدعاء والاستغفار والقراءة حتى ينجلي.
أيها المسلمون اتعظوا يآيات الله، واتخذوا مِن آياته سلمًا لتكونوا في مرضاة الله، لتقوموا بطاعته وتجتنبوا معصيته، اللهم إنا نسألك يا ربنا يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم في مقامنا هذا أن تجنبنا أسباب سخطك، اللهم جنبنا أسباب سخطك، اللهم ارض عنا، واجعلنا راضين عنك، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بِرٍّ، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.