تفسير قوله تعالى : [ ءأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها....] إلى نهاية السورة. حفظ
الشيخ : الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
فهذا يوم الخميس الثلاثون من شهر جمادى الآخرة، عام ثلاثة عشر وأربعمائة وألف، وهو الخميس الرابع الذي نلتقي فيه بإخواننا في هذا الشهر، كما هو مقرر في كل يوم خميس، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها لقاءات مباركة، نبتدأُ هذا اللقاء بتفسير آياتٍ من كتاب الله عز وجل، وقد بدأنا من سورة النبأ إلى آخر القرآن، ونحن الآن على قوله تعالى: (( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا )) إلى آخره.
يخاطب الله سبحانه وتعالى عباده يقول: (( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا )): وأراد بهذا الاستفهام تقرير إمكان البعث، لأن المشركين كذبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبعث، وقالوا: (( مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ))، فيقول الله عز وجل: (( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ )) ؟
والجواب: معلوم لكل أحد أنه السماء، كما قال تعالى: (( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )).
(( بناها )) هذه الجملة لا تتعلق بالتي قبلها، ولهذا ينبغي للقارئ إذا قرأ أن يقف على قوله: (( أَمْ السَّمَاءُ ))، ثم يستأنف فيقول: (( بَنَاهَا )) فالجملة استئنافية لبيان عظمة السماء، بناها، أي: بناها الله عز وجل، وقد بين الله سبحانه وتعالى في آية أخرى في سورة الذاريات أنه بناها بقوة، فقال: (( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ )) أي: بقوة (( وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ )).
(( رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا )) رفع، أي: عن الأرض، ورفعها عز وجل بغير عمد، كما قال تعالى: (( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا )).
(( فسواها )) أي: جعلها مستوية، وجعلها تامة كاملة، كما قال تعالى في خلق الإنسان: (( يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ )) أي: جعلك سوياً تام الخلقة، فالسماء كذلك سواها الله عز وجل.
(( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا )): أغطشه، أي: أظلمه، فالليل مظلم، قال تعالى: (( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً )).
(( وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا )) بيَّنه بالشمس تخرج كل يوم من مطلعها وتغيب في مغربها.
(( وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ )):
الأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ أي: بعد خلق السماوات والأرض .
(( دَحَاهَا ))، وبين هذا الدحو بقوله: (( أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا )).
وكانت الأرض مخلوقة قبل السماء كما قال الله تعالى: (( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ))، فالأرض مخلوقة من قبل السماء، لكن دحوها وإخراج الماء منها والمرعى كان بعد خلق السماوات.
(( أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا )) أي: جعلها راسية في الأرض، تمسك الأرض لئلا تضطرب بالخلق.
(( مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ )) أي: جعل الله تعالى ذلك متاعاً لنا نتمتع به فيما نأكل ونشرب، ولأنعامنا، أي: مواشينا من الإبل والبقر والغنم وغيرها.
ولما ذكر الله عز وجل عباده بهذه النعم الدالة على كمال قدرته، ذكرهم بمآلهم الحتمي الذي لا بد منه، فقال عز وجل:
(( فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى )): وذلك قيام الساعة، وسماها طامة، لأنها داهية عظيمة تطم كل شيء سبقها، كبرى يعن: أكبر من كل طامة.
(( فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى )): بيان لهذا اليوم الذي تكون فيه الطامة الكبرى، وهو اليوم الذي يتذكر فيه الإنسان ما سعى، كيف يتذكره؟
يتذكره مكتوباً عنده، يقرؤه هو بنفسه، قال الله تعالى: (( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )): إذا قرأه تذكر ما سعى، أي: ما عمل، أما اليوم فإنا قد نسينا ما عملنا، عملنا أعمالاً كثيرة منها الصالح ومنها اللغو ومنها السيء، لكن كل هذا نننساه، في يوم القيامة يُعرض علينا هذا في كتاب، ويقال: (( اقْرَأْ كِتَابَكَ )) أنت بنفسك: (( كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )) فحينئذٍ يتذكر ما سعى (( وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً )).
ثم قال: (( وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى )) -أعاذنا الله وإياكم منها- وبرزت: أظهرت، تجيء وتقاد بسبعين ألف زمام، كل زمام معه سبعون ألف ملك يقودونها، إذا ألقي منها الظالمون مكانًا ضيقًا مقرنين، (( دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً )) وتأتي جهنم -والعياذ بالله- لمن يرى ويبصر فتنخلع القلوب ويشيب المولود، ولهذا قال:
(( فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى )): هذان الوصفان هما وصفان أهل النار، الطغيان وهو: مجاوزة الحد، وإيثار الدنيا على الآخرة بتقديمها على الآخرة وكونها أكبر هم الإنسان، فإذا قال قائل: ما هو الطغيان؟
قلنا: الطغيان مجاوزة الحد كما ذكرناه آنفاً، مجاوزة الحد بماذا؟ ما هو حد الإنسان؟
حد الإنسان مذكور في قوله تعالى: (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ))، فمن جاوز حده ولم يعبد الله فهذا هو الطاغي، لأنه تجاوز الحد، فأنت مخلوق لا لتأكل وتتمتع وتتنعم كما تتمتع الأنعام أنت مخلوق لعبادة الله، فاعبد الله عز وجل، اعبد الله، فإن لم تفعل فقد طغيت، هذا هو الطغيان، ألّا يقوم الإنسان بعبادة الله.
وقوله: (( آثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )) هما متلازمان، فإن الطاغي عن عبادة الله مؤثر للحياة الدنيا، لأنه يتعلل بها عن طاعة الله، يتلهى بها عن طاعة الله، إذا أذَّن الفجر آثر النوم على الصلاة، إذا قيل له: اذكر الله آثر اللهو على ذكر الله وهكذا.
وقوله: (( فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى )) أي: هي مأواه، والمأوى هو: المرجع والمقر، وبئس المقر مقر جهنم -أعاذنا الله وإياكم منها-.
(( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ )) يعني: خاف القيام بين يديه، لأن الإنسان يوم القيامة سوف يقرره الله عز وجل بذنوبه، ويقول: عملت كذا عملت كذا عملت كذا، كما جاء في الحديث الصحيح، فإذا أقر قال الله له: ( قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم )، هذا الذي خاف هذا المقام.
(( وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى )) أي: عن هواها، والنفس أمارة بالسوء، لا تأمر إلا بالشر، ولكن هناك نفس أخرى تقابلها وهي: النفس المطمئنة، لأن للإنسان ثلاثة نفوس: مطمئنة، وأمَّارة، ولوَّامة، وكلها في القرآن.
أما المطمئنة: ففي قوله تعالى: (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي )).
وأما الأمارة بالسوء: ففي قوله تعالى: (( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي )).
وأما اللوامة: ففي قوله تعالى: (( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ )).
والإنسان يحس بنفسه بهذه الأنفس، يرى في نفسه أحياناً نزعة خير يحب الخير يفعله، هذه هي النفس المطمئنة، ويرى أحياناً في نفسه نزعة شر فيفعله، هذه هي النفس الأمارة بالسوء.
تأتي بعد ذلك النفس اللوامة التي تلومه على ما فعل، فتجده يندم على ما فعل من المعصية، أو لوامة أخرى تلومه على ما فعل من الخير -والعياذ بالله- فإن من الناس من قد يلوم نفسه على فعل الخير، وعلى مصاحبة أهل الخير، ويقول: كيف أصحب هؤلاء الذين يصدوني عن حياتي وشهواتي وعن لهوي وما أشبه ذلك.
فاللوامة نفس تلوم الأمارة بالسوء مرة، وتلوم المطمئنة تارة أخرى، فهي في الحقيقة نفس بين نفسين، تلوم النفس الأمارة بالسوء إذا فعلت السوء وتُنَدِّم الإنسان، قد تلوم النفس المطمئنة إذا فعلت الخير -نسأل الله العافية-.
يقول الله عز وجل: (( وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى )): الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل لأوليائه، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ )) هكذا جاء في القرآن، وجاء في الحديث القدسي: ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ).
هذه الجنة يدركها الإنسان قبل أن يموت كيف ذلك؟
إذا حضر الأجل ودعت الملائكة النفس للخروج قالت: اخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رضوان الله، وتبشر النفس بالجنة، قال الله تعالى: (( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ )) متى يقولون؟ حين التوفي (( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )): فيبشر بالجنة، فتخرج روحه راضية متيسرة سهلة، ولهذا لما حدَّث النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: يا رسول الله! كلنا يكره الموت، قال: ليس الأمر ذلك ): كلنا يكره الموت بمقتضى الطبيعة، ولكن المؤمن إذا بشر بما يبشر به عند الموت أحب لقاء الله، أحب الموت، وسهل عليه، وإن الكافر إذا بُشر بما يسوءه -والعياذ بالله- عند الموت كره لقاء الله وهربت نفسه، وتفرقت في جسده، حتى ينتزعوها منه كما ينتزع السَّفود من الشعر المبلول، والشعر المبلول إذا جُر عليه السفود -وهو معروف عند الغزَّالين- يكاد يمزقه من شدة سحبه عليه.
هكذا روح الكافر -والعياذ بالله- تتفرق في جسده، لأنها تبشر بالعذاب فتخاف، ولهذا يوجد بعض الناس -والعياذ بالله- يسود وجهه، ولونه في الحياة أحمر، وحدثني من أثق به -وأقسمَ لي أكثر من مرة- وهو ممن يباشرون تغسيل الموتى، يقول: والله مرَّت عليّ حالتان لا أنساهما أبداً، يقول: غسَّلت اثنين بينهما زمن، يقول: الوجه أسود مثل الفحم -والعياذ بالله- والبدن طبيعي، لأنه يبشر بما يسوءه والعياذ بالله، والإنسان إذا بشر بما يسوءه تغير.
فالجنة -اللهم إنا نسألك أن نكون من أهلها جميعًا- الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقلت لكم: إن الإنسان قد يدركها قبل أن يموت بما يبشر به، ولا يخفى علينا ما جاء في السيرة النبوية أن أنس بن النضر -أظنه أنس بن النضر- رضي الله عنه قال: ( يا رسول الله والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد )، وهذا ليس معناه الوجدان الذوقي، إنما هو وجدان حقيقي، قال ابن القيم رحمه الله: " إن بعض الناس قد يدرك الآخرة وهو في الدنيا "، ثم انطلق أنس فقاتل وقتل رضي الله عنه.
فالحاصل أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال الله تعالى: (( فإن الجنة هي المأوى * يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا )): يسألونك أي: يسألك الناس، كما قال تعالى في آية أخرى: (( يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ ))، وسؤال الناس عن الساعة ينقسم إلى قسمين:
سؤال استبعاد وإنكار وهذا كفر، كما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة واستعجلوها، وقد قال الله عن هؤلاء: (( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ )).
وسؤال عن الساعة يسأل متى الساعة ليستعدَّ لها، وهذا لا بأس به، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! متى الساعة؟ قال له: ماذا أعددت لها؟ قال: حب اللهِ ورسولِه، قال: المرء مع من أحب )، فالناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ولكن تختلف نياتهم في هذا السؤال، إنما مهما كانت نياتهم ومهما كانت أسئلتهم فعلم الساعة عند الله، ولهذا قال: (( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا )) أي: أنه لا يمكن أن تذكر لهم الساعة، لماذا؟
لأن علمها عند الله، علمها عند الله كما قال الله تعالى في آية أخرى: (( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ )) .
وقد سَأل جبريل -وهو أعلم الرسل- سألَ النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أعلم الخلق من البشر- قال: ( أخبرني عن الساعة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) أي: إذا كانت خافية عليك فأنا خافية عليَّ، وإذا كان أعلم الملائكة وأعلم البشر لا يعلمان متى الساعة فما بالك بمن دونهما؟ !
وبهذا نعرف أن ما يشيعه بعض الناس من أن الساعة تكون في كذا تكون في كذا في زمن معين كله كذب، نعلم أنهم كَذَبَة في ذلك، لأنهم لا يعلمون متى الساعة، ولا يعملها إلا الله عز وجل.
(( إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا )) يعني: ليس عندك علم منها ولكنك منذر، من يخشاها أي: يخافها وهم المؤمنون، أما من أنكرها واستبعدها وكذبها فإن الإنذار لا ينفع فيه: (( وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ )).
ولهذا نقول: أنت لا تسأل متى تموت، ولا أين تموت، لأن هذا أمر لا يحتاج إلى سؤال، هذا أمرٌ مفروغ منه، ولا بد أن يكون، ومهما طالت بك الدنيا فكأنما بقيت يوماً واحداً، بل كما قال تعالى هنا: (( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا )) .
ولكن السؤال الذي يجب أن يَرِدَ على النفس، ويجب أن يكون لديك جواب عليه هو: على أي حال تموت؟! لست أريد: هل أنت غني أو فقير؟ قوي أو ضعيف؟ أو ذو عيال أو عقيم؟
لا، بل: على أي حال تموت في العمل، فإذا كنت تسائل نفسك هذا السؤال فلا بد أن تستعد، لأنك لا تدري متى يفجؤك الموت، كم من إنسان خرج يقود سيارته ورُجِعَ به محمولاً على الأكتاف، وكم من إنسان خرج من أهله يقول: هيئوا لي طعام الغداء أو العشاء ولكن لم يأكله، وكم من إنسان لبس قميصاً وزرَّ أزرته، ولم يفكها إلا الغاسل يغسله، هذا أمر مشاهد بحوادث بغتة على أي حال، فينبغي أن تنظر الآن وتفكر على أي حال تموت؟
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم التوبة والإنابة.
ولهذا ينبغي لك أن تكثر من الاستغفار ما استطعت، فإن الاستغفار فيه من كل هم فرج، ومن كل ضيق مخرج، حتى إن بعض العلماء يقول: " إذا استفتاك شخص فاستغفر الله قبل أن تفتيه، لأن الذنوب تحول بين الإنسان وبين الهدى "، واستنبط ذلك من قول الله تبارك وتعالى: (( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً )).
وهذا استنباط جيد، ويمكن أيضاً أن يستنبط من قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ))، والاستغفار من الهدى.
لذلك أوصي نفسي وإياكم بالمراقبة، وكثرة الاستغفار ومحاسبة النفس، حتى نكون على أُهبة الاستعداد لما نخشى أن يفاجئنا من الموت، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
قال الله تعالى: (( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا )) أي: يرون القيامة.
(( لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا )): العشية: من الزوال إلى غروب الشمس، والضحى: من طلوع الشمس إلى زوال الشمس، أي: كأنهم لم يلبثوا إلا نصف يوم، وهذا هو الواقع، لو سألتكم الآن: كيف ما مضى من السنوات عليكم، هل نشعر الآن بأنها سنوات أو كأنها يوم واحد؟
كأنه يوم واحد لا شك، لا شك كأنه يوم واحد، والإنسان الآن بين ثلاثة أشياء:
يوم مضى فهذا قد فاته، ويوم مستقبل لا يدري أيدركه أم لا يدركه، ووقت حاضر وهو المسئول عنه، أما ما مضى فقد فات، وما فات فقد مات هلك عنك، الذي مضى هلك عنك، والمستقبل لا تدري أتدركه أم لا، والحاضر هو الذي أنت مسئول عنه.
أسأل الله تعالى أن يحسن لي ولكم العاقبة، وأن يجعل عاقبتنا حميدة، وخاتمتنا سعيدة، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما الآن فيجري دور الأسئلة.
أما بعد:
فهذا يوم الخميس الثلاثون من شهر جمادى الآخرة، عام ثلاثة عشر وأربعمائة وألف، وهو الخميس الرابع الذي نلتقي فيه بإخواننا في هذا الشهر، كما هو مقرر في كل يوم خميس، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها لقاءات مباركة، نبتدأُ هذا اللقاء بتفسير آياتٍ من كتاب الله عز وجل، وقد بدأنا من سورة النبأ إلى آخر القرآن، ونحن الآن على قوله تعالى: (( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا )) إلى آخره.
يخاطب الله سبحانه وتعالى عباده يقول: (( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا )): وأراد بهذا الاستفهام تقرير إمكان البعث، لأن المشركين كذبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبعث، وقالوا: (( مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ))، فيقول الله عز وجل: (( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ )) ؟
والجواب: معلوم لكل أحد أنه السماء، كما قال تعالى: (( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )).
(( بناها )) هذه الجملة لا تتعلق بالتي قبلها، ولهذا ينبغي للقارئ إذا قرأ أن يقف على قوله: (( أَمْ السَّمَاءُ ))، ثم يستأنف فيقول: (( بَنَاهَا )) فالجملة استئنافية لبيان عظمة السماء، بناها، أي: بناها الله عز وجل، وقد بين الله سبحانه وتعالى في آية أخرى في سورة الذاريات أنه بناها بقوة، فقال: (( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ )) أي: بقوة (( وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ )).
(( رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا )) رفع، أي: عن الأرض، ورفعها عز وجل بغير عمد، كما قال تعالى: (( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا )).
(( فسواها )) أي: جعلها مستوية، وجعلها تامة كاملة، كما قال تعالى في خلق الإنسان: (( يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ )) أي: جعلك سوياً تام الخلقة، فالسماء كذلك سواها الله عز وجل.
(( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا )): أغطشه، أي: أظلمه، فالليل مظلم، قال تعالى: (( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً )).
(( وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا )) بيَّنه بالشمس تخرج كل يوم من مطلعها وتغيب في مغربها.
(( وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ )):
الأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ أي: بعد خلق السماوات والأرض .
(( دَحَاهَا ))، وبين هذا الدحو بقوله: (( أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا )).
وكانت الأرض مخلوقة قبل السماء كما قال الله تعالى: (( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ))، فالأرض مخلوقة من قبل السماء، لكن دحوها وإخراج الماء منها والمرعى كان بعد خلق السماوات.
(( أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا )) أي: جعلها راسية في الأرض، تمسك الأرض لئلا تضطرب بالخلق.
(( مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ )) أي: جعل الله تعالى ذلك متاعاً لنا نتمتع به فيما نأكل ونشرب، ولأنعامنا، أي: مواشينا من الإبل والبقر والغنم وغيرها.
ولما ذكر الله عز وجل عباده بهذه النعم الدالة على كمال قدرته، ذكرهم بمآلهم الحتمي الذي لا بد منه، فقال عز وجل:
(( فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى )): وذلك قيام الساعة، وسماها طامة، لأنها داهية عظيمة تطم كل شيء سبقها، كبرى يعن: أكبر من كل طامة.
(( فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى )): بيان لهذا اليوم الذي تكون فيه الطامة الكبرى، وهو اليوم الذي يتذكر فيه الإنسان ما سعى، كيف يتذكره؟
يتذكره مكتوباً عنده، يقرؤه هو بنفسه، قال الله تعالى: (( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )): إذا قرأه تذكر ما سعى، أي: ما عمل، أما اليوم فإنا قد نسينا ما عملنا، عملنا أعمالاً كثيرة منها الصالح ومنها اللغو ومنها السيء، لكن كل هذا نننساه، في يوم القيامة يُعرض علينا هذا في كتاب، ويقال: (( اقْرَأْ كِتَابَكَ )) أنت بنفسك: (( كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )) فحينئذٍ يتذكر ما سعى (( وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً )).
ثم قال: (( وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى )) -أعاذنا الله وإياكم منها- وبرزت: أظهرت، تجيء وتقاد بسبعين ألف زمام، كل زمام معه سبعون ألف ملك يقودونها، إذا ألقي منها الظالمون مكانًا ضيقًا مقرنين، (( دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً )) وتأتي جهنم -والعياذ بالله- لمن يرى ويبصر فتنخلع القلوب ويشيب المولود، ولهذا قال:
(( فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى )): هذان الوصفان هما وصفان أهل النار، الطغيان وهو: مجاوزة الحد، وإيثار الدنيا على الآخرة بتقديمها على الآخرة وكونها أكبر هم الإنسان، فإذا قال قائل: ما هو الطغيان؟
قلنا: الطغيان مجاوزة الحد كما ذكرناه آنفاً، مجاوزة الحد بماذا؟ ما هو حد الإنسان؟
حد الإنسان مذكور في قوله تعالى: (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ))، فمن جاوز حده ولم يعبد الله فهذا هو الطاغي، لأنه تجاوز الحد، فأنت مخلوق لا لتأكل وتتمتع وتتنعم كما تتمتع الأنعام أنت مخلوق لعبادة الله، فاعبد الله عز وجل، اعبد الله، فإن لم تفعل فقد طغيت، هذا هو الطغيان، ألّا يقوم الإنسان بعبادة الله.
وقوله: (( آثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )) هما متلازمان، فإن الطاغي عن عبادة الله مؤثر للحياة الدنيا، لأنه يتعلل بها عن طاعة الله، يتلهى بها عن طاعة الله، إذا أذَّن الفجر آثر النوم على الصلاة، إذا قيل له: اذكر الله آثر اللهو على ذكر الله وهكذا.
وقوله: (( فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى )) أي: هي مأواه، والمأوى هو: المرجع والمقر، وبئس المقر مقر جهنم -أعاذنا الله وإياكم منها-.
(( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ )) يعني: خاف القيام بين يديه، لأن الإنسان يوم القيامة سوف يقرره الله عز وجل بذنوبه، ويقول: عملت كذا عملت كذا عملت كذا، كما جاء في الحديث الصحيح، فإذا أقر قال الله له: ( قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم )، هذا الذي خاف هذا المقام.
(( وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى )) أي: عن هواها، والنفس أمارة بالسوء، لا تأمر إلا بالشر، ولكن هناك نفس أخرى تقابلها وهي: النفس المطمئنة، لأن للإنسان ثلاثة نفوس: مطمئنة، وأمَّارة، ولوَّامة، وكلها في القرآن.
أما المطمئنة: ففي قوله تعالى: (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي )).
وأما الأمارة بالسوء: ففي قوله تعالى: (( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي )).
وأما اللوامة: ففي قوله تعالى: (( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ )).
والإنسان يحس بنفسه بهذه الأنفس، يرى في نفسه أحياناً نزعة خير يحب الخير يفعله، هذه هي النفس المطمئنة، ويرى أحياناً في نفسه نزعة شر فيفعله، هذه هي النفس الأمارة بالسوء.
تأتي بعد ذلك النفس اللوامة التي تلومه على ما فعل، فتجده يندم على ما فعل من المعصية، أو لوامة أخرى تلومه على ما فعل من الخير -والعياذ بالله- فإن من الناس من قد يلوم نفسه على فعل الخير، وعلى مصاحبة أهل الخير، ويقول: كيف أصحب هؤلاء الذين يصدوني عن حياتي وشهواتي وعن لهوي وما أشبه ذلك.
فاللوامة نفس تلوم الأمارة بالسوء مرة، وتلوم المطمئنة تارة أخرى، فهي في الحقيقة نفس بين نفسين، تلوم النفس الأمارة بالسوء إذا فعلت السوء وتُنَدِّم الإنسان، قد تلوم النفس المطمئنة إذا فعلت الخير -نسأل الله العافية-.
يقول الله عز وجل: (( وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى )): الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل لأوليائه، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ )) هكذا جاء في القرآن، وجاء في الحديث القدسي: ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ).
هذه الجنة يدركها الإنسان قبل أن يموت كيف ذلك؟
إذا حضر الأجل ودعت الملائكة النفس للخروج قالت: اخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رضوان الله، وتبشر النفس بالجنة، قال الله تعالى: (( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ )) متى يقولون؟ حين التوفي (( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )): فيبشر بالجنة، فتخرج روحه راضية متيسرة سهلة، ولهذا لما حدَّث النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: يا رسول الله! كلنا يكره الموت، قال: ليس الأمر ذلك ): كلنا يكره الموت بمقتضى الطبيعة، ولكن المؤمن إذا بشر بما يبشر به عند الموت أحب لقاء الله، أحب الموت، وسهل عليه، وإن الكافر إذا بُشر بما يسوءه -والعياذ بالله- عند الموت كره لقاء الله وهربت نفسه، وتفرقت في جسده، حتى ينتزعوها منه كما ينتزع السَّفود من الشعر المبلول، والشعر المبلول إذا جُر عليه السفود -وهو معروف عند الغزَّالين- يكاد يمزقه من شدة سحبه عليه.
هكذا روح الكافر -والعياذ بالله- تتفرق في جسده، لأنها تبشر بالعذاب فتخاف، ولهذا يوجد بعض الناس -والعياذ بالله- يسود وجهه، ولونه في الحياة أحمر، وحدثني من أثق به -وأقسمَ لي أكثر من مرة- وهو ممن يباشرون تغسيل الموتى، يقول: والله مرَّت عليّ حالتان لا أنساهما أبداً، يقول: غسَّلت اثنين بينهما زمن، يقول: الوجه أسود مثل الفحم -والعياذ بالله- والبدن طبيعي، لأنه يبشر بما يسوءه والعياذ بالله، والإنسان إذا بشر بما يسوءه تغير.
فالجنة -اللهم إنا نسألك أن نكون من أهلها جميعًا- الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقلت لكم: إن الإنسان قد يدركها قبل أن يموت بما يبشر به، ولا يخفى علينا ما جاء في السيرة النبوية أن أنس بن النضر -أظنه أنس بن النضر- رضي الله عنه قال: ( يا رسول الله والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد )، وهذا ليس معناه الوجدان الذوقي، إنما هو وجدان حقيقي، قال ابن القيم رحمه الله: " إن بعض الناس قد يدرك الآخرة وهو في الدنيا "، ثم انطلق أنس فقاتل وقتل رضي الله عنه.
فالحاصل أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال الله تعالى: (( فإن الجنة هي المأوى * يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا )): يسألونك أي: يسألك الناس، كما قال تعالى في آية أخرى: (( يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ ))، وسؤال الناس عن الساعة ينقسم إلى قسمين:
سؤال استبعاد وإنكار وهذا كفر، كما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة واستعجلوها، وقد قال الله عن هؤلاء: (( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ )).
وسؤال عن الساعة يسأل متى الساعة ليستعدَّ لها، وهذا لا بأس به، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! متى الساعة؟ قال له: ماذا أعددت لها؟ قال: حب اللهِ ورسولِه، قال: المرء مع من أحب )، فالناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ولكن تختلف نياتهم في هذا السؤال، إنما مهما كانت نياتهم ومهما كانت أسئلتهم فعلم الساعة عند الله، ولهذا قال: (( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا )) أي: أنه لا يمكن أن تذكر لهم الساعة، لماذا؟
لأن علمها عند الله، علمها عند الله كما قال الله تعالى في آية أخرى: (( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ )) .
وقد سَأل جبريل -وهو أعلم الرسل- سألَ النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أعلم الخلق من البشر- قال: ( أخبرني عن الساعة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) أي: إذا كانت خافية عليك فأنا خافية عليَّ، وإذا كان أعلم الملائكة وأعلم البشر لا يعلمان متى الساعة فما بالك بمن دونهما؟ !
وبهذا نعرف أن ما يشيعه بعض الناس من أن الساعة تكون في كذا تكون في كذا في زمن معين كله كذب، نعلم أنهم كَذَبَة في ذلك، لأنهم لا يعلمون متى الساعة، ولا يعملها إلا الله عز وجل.
(( إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا )) يعني: ليس عندك علم منها ولكنك منذر، من يخشاها أي: يخافها وهم المؤمنون، أما من أنكرها واستبعدها وكذبها فإن الإنذار لا ينفع فيه: (( وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ )).
ولهذا نقول: أنت لا تسأل متى تموت، ولا أين تموت، لأن هذا أمر لا يحتاج إلى سؤال، هذا أمرٌ مفروغ منه، ولا بد أن يكون، ومهما طالت بك الدنيا فكأنما بقيت يوماً واحداً، بل كما قال تعالى هنا: (( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا )) .
ولكن السؤال الذي يجب أن يَرِدَ على النفس، ويجب أن يكون لديك جواب عليه هو: على أي حال تموت؟! لست أريد: هل أنت غني أو فقير؟ قوي أو ضعيف؟ أو ذو عيال أو عقيم؟
لا، بل: على أي حال تموت في العمل، فإذا كنت تسائل نفسك هذا السؤال فلا بد أن تستعد، لأنك لا تدري متى يفجؤك الموت، كم من إنسان خرج يقود سيارته ورُجِعَ به محمولاً على الأكتاف، وكم من إنسان خرج من أهله يقول: هيئوا لي طعام الغداء أو العشاء ولكن لم يأكله، وكم من إنسان لبس قميصاً وزرَّ أزرته، ولم يفكها إلا الغاسل يغسله، هذا أمر مشاهد بحوادث بغتة على أي حال، فينبغي أن تنظر الآن وتفكر على أي حال تموت؟
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم التوبة والإنابة.
ولهذا ينبغي لك أن تكثر من الاستغفار ما استطعت، فإن الاستغفار فيه من كل هم فرج، ومن كل ضيق مخرج، حتى إن بعض العلماء يقول: " إذا استفتاك شخص فاستغفر الله قبل أن تفتيه، لأن الذنوب تحول بين الإنسان وبين الهدى "، واستنبط ذلك من قول الله تبارك وتعالى: (( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً )).
وهذا استنباط جيد، ويمكن أيضاً أن يستنبط من قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ))، والاستغفار من الهدى.
لذلك أوصي نفسي وإياكم بالمراقبة، وكثرة الاستغفار ومحاسبة النفس، حتى نكون على أُهبة الاستعداد لما نخشى أن يفاجئنا من الموت، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
قال الله تعالى: (( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا )) أي: يرون القيامة.
(( لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا )): العشية: من الزوال إلى غروب الشمس، والضحى: من طلوع الشمس إلى زوال الشمس، أي: كأنهم لم يلبثوا إلا نصف يوم، وهذا هو الواقع، لو سألتكم الآن: كيف ما مضى من السنوات عليكم، هل نشعر الآن بأنها سنوات أو كأنها يوم واحد؟
كأنه يوم واحد لا شك، لا شك كأنه يوم واحد، والإنسان الآن بين ثلاثة أشياء:
يوم مضى فهذا قد فاته، ويوم مستقبل لا يدري أيدركه أم لا يدركه، ووقت حاضر وهو المسئول عنه، أما ما مضى فقد فات، وما فات فقد مات هلك عنك، الذي مضى هلك عنك، والمستقبل لا تدري أتدركه أم لا، والحاضر هو الذي أنت مسئول عنه.
أسأل الله تعالى أن يحسن لي ولكم العاقبة، وأن يجعل عاقبتنا حميدة، وخاتمتنا سعيدة، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما الآن فيجري دور الأسئلة.