تفسير قوله تعالى :" عبس وتولى " إلي قوله " كرام بررة ". حفظ
الشيخ : ثم نعود إلى ما اعتدناه من افتتاح هذه الجلسة، بل هذا اللقاء بآيات من كتاب الله، اخترنا أن تكون آيات الجزء الأخير من القرآن لكثرة تردده على المسلمين في صلاتهم، وقد أنهينا بحمد الله وتوفيقه سورتين، سورة عم وسورة النازعات، والآن نبدأ بالسورة الثالثة: (( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى )):
(( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى )): هذا العابس والمتولي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى: عبس أي: كلح في وجهه، يعني: استنكر الشيء في وجهه، ومعنى تولى: أعرض.
والمراد بالأعمى في قوله: (( أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى )): عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم رضي الله عنه، فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وهو في مكة وكان عنده قوم من عظماء قريش يطمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إسلامهم، ومن المعلوم أن العظماء والأشراف إذا أسلموا كان ذلك سبباً لإسلام من تحتهم، وكان طمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم شديداً، فجاء هذا الأعمى يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكروا أنه كان يقول: علمني مما علمك الله، ويستقرئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرض عنه، وعبس في وجهه رجاءً وطمعاً في إسلام هؤلاء العظماء، وكأنه خاف أن هؤلاء العظماء الشياطين يزدرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وجه وجهه لهذا الرجل الأعمى.
كأنه خاف أن يزدروا النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل على مثل هذا الرجل الأعمى وأعرض عن هؤلاء العظماء.
فكان النبي عليه الصلاة والسلام في عبوسه وتوليه يلاحظ هذين الأمرين:
الأمر الأول: الرجاء في إسلام هؤلاء العظماء.
والأمر الثاني: ألا يزدروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كونه يلتفت إلى هذا الرجل الأعمى الذي هو محتقرٌ عندهم.
ولا شك أن هذا اجتهاد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس احتقاراً لابن أم مكتوم، لأننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يهمه إلا أن تنتشر دعوته الحق بين عباد الله وأن الناس عنده سواء، بل من كان أشد إقبالاً على الإسلام فهو أحب إليه، هذا ما نعتقده في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الله تعالى: (( وَمَا يُدْرِيكَ )) أي: أي شيء يعلمك أن يتزكى هذا الرجل ويقوى إيمانه: (( لَعَلَّهُ )) أي: لعل ابن أم مكتوم، (( يَزَّكَّى )) أي: يتطهر من الذنوب والأخلاق التي لا تليق بأمثاله، فإذا كان هذا هو المرجوَّ منه فإنه أحق أن يلتفت إليه.
(( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى )) يعني: وما يدريك لعله يذكر أي: يتعظ فتنفعه الموعظة، فإنه رضي الله عنه أرجى من هؤلاء أن يتعظ ويتذكر.
ثم قال: (( أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى )).
(( أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى )) أي: استغنى بماله لكثرته واستغنى بجاهه لقوته، (( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى )) أي: تتعرض وتطلب إقباله عليك وتقبل عليه.
(( وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى )) يعني: ليس عليك شيء إذا لم يتزك هذا المستغني، لأنه ليس عليك إلا البلاغ.
فتجدون أيها الإخوة أن الله سبحانه وتعالى بين أن ابن أم مكتوم رضي الله عنه أقرب إلى التزكي من هؤلاء العظماء، قال تعالى: (( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى )) وأن هؤلاء إذا لم يتزكوا مع إقبال الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم فإنه ليس عليه منهم شيء.
(( وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى )) يعني: ليس عليك شيء إذا لم يتزك، لأن إثمه عليه وليس عليك إلا البلاغ.
ثم قال تعالى: (( وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى )) وهذا مقابل قوله: (( أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى )).
(( وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى )) أي: يستعجل من أجل انتهاز الفرصة إلى حضور مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( وَهُوَ يَخْشَى )) أي: خاف الله بقلبه: (( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى )) أي: تتلهى عنه وتتغافل، لماذا؟
لأنه انشغل برؤساء القوم لعلهم يهتدون.
(( كَلاَّ )) يعني : لا تفعل مثل هذا، ولهذا نقول: إن كلا هنا حرف ردع وزجر، أي: لا تفعل مثلما فعلت.
(( إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ )) إنها أي: إن الآيات القرآنية التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تذكرة، أي: تذكر الإنسان بما ينفعه وتحثه عليه، وتذكر له ما يضره وتحذره منه ويتعظ بها القلب.
(( فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ )) أي: فمن شاء ذكر ما نزل من الموعظة فاتعظ، ومن شاء لم يتعظ، لقول الله تعالى: (( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )): فالله سبحانه وتعالى جعل للإنسان الخيار قدراً، وأما شرعاً فلا، جعل له الخيار بين أن يؤمن أو يكفر، أما شرعاً، فإنه (( َلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر ))، وليس الإنسان مخيراً شرعاً بين الكفر والإيمان، بل هو مأمور بالإيمان، ومفروض عليه الإيمان، لكن من حيث القَدَر هو مخير، وليس كما يزعم بعض الناس أنه مسير مجبر على عمله، بل هذا قول مبتدع، ابتدعه الجبرية من الجهمية وغيرهم، فالإنسان في الحقيقة مخير، ولذلك إذا وقع الأمر بغير اختياره مثل أن يكون مكرهاً فإنه لا عبرة بفعله.
المهم أن الله يقول: (( فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ )) أي: ذكر ما نزل من الوحي فاتعظ به، يعني: ومن شاء لم يذكره، والموفق من وفقه الله عز وجل.
(( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ )) أي: أن هذا الذكر الذي تضمنته هذه الآيات في صحف مكرمة: معظمة عند الله، والصحف جمع صحائف، والصحائف جمع صحيفة، وهي ما يكتب فيه القول.
هذه الصحف بأيدي سفرة، والسفرة: الملائكة، وسموا سفرة لأنهم كتبة، مأخوذة من السَّفَر أو من السَّفْر وهو الكتاب، لقوله تعالى: (( كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً )).
وقيل السَّفَرة: الوسطاء بين الله وبين خلقه، من السفير وهو الواسطة بين الناس، ومنه حديثُ أبي رافع رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة قبل أن يحرم، قال: وكنت السفير بينهما ) أي: الواسطة.
المهم أن السفرة هم الملائكة، وسموا سفرة لأنهم كتبة يكتبون، وسموا سفرة، لأنهم سفراء بين الله وبين الخلق، فجبريل عليه الصلاة والسلام واسطة بين الله وبين الخلق في النزول بالوحي.
والكتبة: الذين يكتبون ما يعمل الإنسان أيضًا، يكتبونه ويبلغونه إلى الله عز وجل، والله تعالى عالم به حين كتابته وقبل كتابته.
(( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ )): كرام في أخلاقهم، كرام في خِلقتهم أيضًا، لأنهم على أحسن خِلقة، وعلى أحسن خُلق، ولهذا وصف الله الملائكة بأنهم: (( كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ))، وأنهم عليهم الصلاة والسلام: (( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ )).
هذه الآيات كما سمعتم فيها تأديب من الله عز وجل للخلق، ألا يكون همهم هماً شخصياً، بل يكون همهم هماً معنوياً، وألا يفضلوا في الدعوة إلى الله شريفاً لشرفه ولا عظيماً لعظمته ولا قريباً لقربه، بل يكون الناس عندهم سواء في الدعوة إلى الله، الفقير والغني، الكبير والصغير، القريب والبعيد.
وفيها أيضاً تلطف الله عز وجل بمخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال في أولها: (( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى )) ثلاث آيات لم يخاطب الله فيها النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، لأنها توبيخ شديد، فلو وُجهت للرسول بالخطاب لكان فيه ما فيه، ولكن جاءت بالغيبة (( عَبَسَ )) وإلَّا لكان مقتضى الحال أن يقول: عبست وتوليت، أن جاءك الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، ولكنه قال: (( عَبَسَ وَتَوَلَّى )): فجعل الحكم للغائب كراهية أن يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمات الغليظة الشديدة، ولأجل ألا يقع في مثل ذلك من يقع من هذه الأمة، والله سبحانه وتعالى وصف كتابه العزيز بأنه بلسانٍ عَربي مبين، وهذا من بيانه.
وفي الآيات أيضاً دليل على جواز لقب الإنسان بوصفه، مثل: الأعمى والأعرج والأعمش، وقد كان العلماء يفعلون هذا، فما أكثر ما يرد عليكم: الأعرج عن أبي هريرة، والأعمش عن ابن مسعود، وهكذا، قال أهل العلم: " واللقب بالعيب إذا كان المقصود به تعيين الشخص فلا بأس به، وأما إذا كان المقصود به تعيير الشخص فإنه حرام "، لأن الأول إذا كان المقصود به تبيين الشخص تدعو الحاجة إليه، والثاني: إذا كان المقصود به التعيير فإنه لا يقصد به التبيين وإنما يقصد به الشماتة، وقد جاء في الأثر: " لا تظهر الشماتة في أخيك فيعافيه الله ويبتليك " ، نسأل الله لنا ولكم الاستقامة والسلامة في الدنيا والآخرة.
وإلى هنا ينتهي بنا القول على ما يسر الله من آيات هذه السورة الكريمة، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك نافعاً لنا ولكم.
والآن إلى الأسئلة، وتكون بالترتيب، وقد جرت العادة ألا يزيد الإنسان على سؤال واحد، لئلا نحرم البقية، وإن كان في الحقيقة أن السؤال الواحد هو للجميع، لأن كل واحد ينتفع به.
(( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى )): هذا العابس والمتولي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى: عبس أي: كلح في وجهه، يعني: استنكر الشيء في وجهه، ومعنى تولى: أعرض.
والمراد بالأعمى في قوله: (( أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى )): عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم رضي الله عنه، فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وهو في مكة وكان عنده قوم من عظماء قريش يطمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إسلامهم، ومن المعلوم أن العظماء والأشراف إذا أسلموا كان ذلك سبباً لإسلام من تحتهم، وكان طمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم شديداً، فجاء هذا الأعمى يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكروا أنه كان يقول: علمني مما علمك الله، ويستقرئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرض عنه، وعبس في وجهه رجاءً وطمعاً في إسلام هؤلاء العظماء، وكأنه خاف أن هؤلاء العظماء الشياطين يزدرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وجه وجهه لهذا الرجل الأعمى.
كأنه خاف أن يزدروا النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل على مثل هذا الرجل الأعمى وأعرض عن هؤلاء العظماء.
فكان النبي عليه الصلاة والسلام في عبوسه وتوليه يلاحظ هذين الأمرين:
الأمر الأول: الرجاء في إسلام هؤلاء العظماء.
والأمر الثاني: ألا يزدروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كونه يلتفت إلى هذا الرجل الأعمى الذي هو محتقرٌ عندهم.
ولا شك أن هذا اجتهاد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس احتقاراً لابن أم مكتوم، لأننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يهمه إلا أن تنتشر دعوته الحق بين عباد الله وأن الناس عنده سواء، بل من كان أشد إقبالاً على الإسلام فهو أحب إليه، هذا ما نعتقده في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الله تعالى: (( وَمَا يُدْرِيكَ )) أي: أي شيء يعلمك أن يتزكى هذا الرجل ويقوى إيمانه: (( لَعَلَّهُ )) أي: لعل ابن أم مكتوم، (( يَزَّكَّى )) أي: يتطهر من الذنوب والأخلاق التي لا تليق بأمثاله، فإذا كان هذا هو المرجوَّ منه فإنه أحق أن يلتفت إليه.
(( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى )) يعني: وما يدريك لعله يذكر أي: يتعظ فتنفعه الموعظة، فإنه رضي الله عنه أرجى من هؤلاء أن يتعظ ويتذكر.
ثم قال: (( أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى )).
(( أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى )) أي: استغنى بماله لكثرته واستغنى بجاهه لقوته، (( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى )) أي: تتعرض وتطلب إقباله عليك وتقبل عليه.
(( وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى )) يعني: ليس عليك شيء إذا لم يتزك هذا المستغني، لأنه ليس عليك إلا البلاغ.
فتجدون أيها الإخوة أن الله سبحانه وتعالى بين أن ابن أم مكتوم رضي الله عنه أقرب إلى التزكي من هؤلاء العظماء، قال تعالى: (( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى )) وأن هؤلاء إذا لم يتزكوا مع إقبال الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم فإنه ليس عليه منهم شيء.
(( وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى )) يعني: ليس عليك شيء إذا لم يتزك، لأن إثمه عليه وليس عليك إلا البلاغ.
ثم قال تعالى: (( وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى )) وهذا مقابل قوله: (( أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى )).
(( وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى )) أي: يستعجل من أجل انتهاز الفرصة إلى حضور مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( وَهُوَ يَخْشَى )) أي: خاف الله بقلبه: (( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى )) أي: تتلهى عنه وتتغافل، لماذا؟
لأنه انشغل برؤساء القوم لعلهم يهتدون.
(( كَلاَّ )) يعني : لا تفعل مثل هذا، ولهذا نقول: إن كلا هنا حرف ردع وزجر، أي: لا تفعل مثلما فعلت.
(( إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ )) إنها أي: إن الآيات القرآنية التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تذكرة، أي: تذكر الإنسان بما ينفعه وتحثه عليه، وتذكر له ما يضره وتحذره منه ويتعظ بها القلب.
(( فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ )) أي: فمن شاء ذكر ما نزل من الموعظة فاتعظ، ومن شاء لم يتعظ، لقول الله تعالى: (( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )): فالله سبحانه وتعالى جعل للإنسان الخيار قدراً، وأما شرعاً فلا، جعل له الخيار بين أن يؤمن أو يكفر، أما شرعاً، فإنه (( َلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر ))، وليس الإنسان مخيراً شرعاً بين الكفر والإيمان، بل هو مأمور بالإيمان، ومفروض عليه الإيمان، لكن من حيث القَدَر هو مخير، وليس كما يزعم بعض الناس أنه مسير مجبر على عمله، بل هذا قول مبتدع، ابتدعه الجبرية من الجهمية وغيرهم، فالإنسان في الحقيقة مخير، ولذلك إذا وقع الأمر بغير اختياره مثل أن يكون مكرهاً فإنه لا عبرة بفعله.
المهم أن الله يقول: (( فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ )) أي: ذكر ما نزل من الوحي فاتعظ به، يعني: ومن شاء لم يذكره، والموفق من وفقه الله عز وجل.
(( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ )) أي: أن هذا الذكر الذي تضمنته هذه الآيات في صحف مكرمة: معظمة عند الله، والصحف جمع صحائف، والصحائف جمع صحيفة، وهي ما يكتب فيه القول.
هذه الصحف بأيدي سفرة، والسفرة: الملائكة، وسموا سفرة لأنهم كتبة، مأخوذة من السَّفَر أو من السَّفْر وهو الكتاب، لقوله تعالى: (( كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً )).
وقيل السَّفَرة: الوسطاء بين الله وبين خلقه، من السفير وهو الواسطة بين الناس، ومنه حديثُ أبي رافع رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة قبل أن يحرم، قال: وكنت السفير بينهما ) أي: الواسطة.
المهم أن السفرة هم الملائكة، وسموا سفرة لأنهم كتبة يكتبون، وسموا سفرة، لأنهم سفراء بين الله وبين الخلق، فجبريل عليه الصلاة والسلام واسطة بين الله وبين الخلق في النزول بالوحي.
والكتبة: الذين يكتبون ما يعمل الإنسان أيضًا، يكتبونه ويبلغونه إلى الله عز وجل، والله تعالى عالم به حين كتابته وقبل كتابته.
(( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ )): كرام في أخلاقهم، كرام في خِلقتهم أيضًا، لأنهم على أحسن خِلقة، وعلى أحسن خُلق، ولهذا وصف الله الملائكة بأنهم: (( كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ))، وأنهم عليهم الصلاة والسلام: (( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ )).
هذه الآيات كما سمعتم فيها تأديب من الله عز وجل للخلق، ألا يكون همهم هماً شخصياً، بل يكون همهم هماً معنوياً، وألا يفضلوا في الدعوة إلى الله شريفاً لشرفه ولا عظيماً لعظمته ولا قريباً لقربه، بل يكون الناس عندهم سواء في الدعوة إلى الله، الفقير والغني، الكبير والصغير، القريب والبعيد.
وفيها أيضاً تلطف الله عز وجل بمخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال في أولها: (( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى )) ثلاث آيات لم يخاطب الله فيها النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، لأنها توبيخ شديد، فلو وُجهت للرسول بالخطاب لكان فيه ما فيه، ولكن جاءت بالغيبة (( عَبَسَ )) وإلَّا لكان مقتضى الحال أن يقول: عبست وتوليت، أن جاءك الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، ولكنه قال: (( عَبَسَ وَتَوَلَّى )): فجعل الحكم للغائب كراهية أن يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمات الغليظة الشديدة، ولأجل ألا يقع في مثل ذلك من يقع من هذه الأمة، والله سبحانه وتعالى وصف كتابه العزيز بأنه بلسانٍ عَربي مبين، وهذا من بيانه.
وفي الآيات أيضاً دليل على جواز لقب الإنسان بوصفه، مثل: الأعمى والأعرج والأعمش، وقد كان العلماء يفعلون هذا، فما أكثر ما يرد عليكم: الأعرج عن أبي هريرة، والأعمش عن ابن مسعود، وهكذا، قال أهل العلم: " واللقب بالعيب إذا كان المقصود به تعيين الشخص فلا بأس به، وأما إذا كان المقصود به تعيير الشخص فإنه حرام "، لأن الأول إذا كان المقصود به تبيين الشخص تدعو الحاجة إليه، والثاني: إذا كان المقصود به التعيير فإنه لا يقصد به التبيين وإنما يقصد به الشماتة، وقد جاء في الأثر: " لا تظهر الشماتة في أخيك فيعافيه الله ويبتليك " ، نسأل الله لنا ولكم الاستقامة والسلامة في الدنيا والآخرة.
وإلى هنا ينتهي بنا القول على ما يسر الله من آيات هذه السورة الكريمة، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك نافعاً لنا ولكم.
والآن إلى الأسئلة، وتكون بالترتيب، وقد جرت العادة ألا يزيد الإنسان على سؤال واحد، لئلا نحرم البقية، وإن كان في الحقيقة أن السؤال الواحد هو للجميع، لأن كل واحد ينتفع به.