تفسير قوله تعالى : [ فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ] . حفظ
الشيخ : ونكمل فيه ما تكلمنا فيه فيما سبق من سورة التكوير حيث قال الله عز وجل (( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس )) قوله تعالى (( فلا أقسم )) قد يظن بعض الناس أنها نافية أن لا نافية وليس كذلك بل هي مثبتة للقسم ويؤتى بها في مثل هذا التركيب للتأكيد فالمعنى أقسم بالخنس والخنس جمع خانسة وهي النجوم التي تخنس أي ترجع فبينما تراها في أعلى الأفق إذا بها راجعة إلى آخر الأفق وذلك والله أعلم لارتفاعها وبعدها فيكون ما تحتها من النجوم أسرع منها في الجري بحسب رؤية العين .
وقوله (( الجوار )): أصلها الجواري بالياء لكن حذفت الياء للتخفيف والكنّس هي التي تكنس أي تدخل في مغيبها فأقسم الله بهذه النجوم ثم أقسم بالليل والنهار فقال (( والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس )) معنى قوله عسعس يعني أقبل .
وقيل معناه أدبر وذلك أن الكلمة عسعس في اللغة العربية تصلح لهذا وهذا ، لكن الذي يظهر أن معناها أقبل ليوافق أو ليطابق ما بعده من القسم وهو قوله (( والصبح إذا تنفس )) فيكون الله أقسم بالليل حال إقباله وبالنهار حال إقباله . وإنما أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات لعظمها وكونها من آياته الكبرى ، فمن يستطيع أن يأتي بالنهار إذا كان الليل ؟ ومن يستطيع أن يأتي بالليل إذا كان النهار ؟ قال الله عز وجل (( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن آياته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون )) .
فهذه المخلوقات العظيمة يُقسم الله بها لعظم المقسم عليه وهو قوله (( إنه لقول رسول كريم )) إنه أي القرآن لقول رسول كريم هو جبريل عليه الصلاة والسلام فإنه رسول الله إلى الرسل بالوحي الذي ينزله عليهم ووصفه الله بالكرم لحسن منظره كما قال تعالى في آية أخرى (( ذو مِرَّةٍ فاستوى )) ذو مرّة قال العلماء المرة الخلق الحسن والهيئة الجميلة ، فكان جبريل عليه الصلاة والسلام موصوفا بهذا الوصف كريم .
(( ذي قوة عند ذي العرش مكين )) ذي قوة وصفه الله تعالى بالقوة العظيمة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رآه على صورته التي خلقه الله عليها له ستمئة جناح قد سد الأفق ، الأفق كله من عظمته عليه الصلاة والسلام .
وقوله (( عند ذي العرش )) : أي عند صاحب العرش وهو الله جل وعلا ، والعرش فوق كل شيء وفوق العرش رب العالمين عز وجل قال الله تعالى (( رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده )) .
فذو العرش هو الله وقوله (( مكين )) أي ذو مكانة أي أن جبريل عند الله ذو مكانة وشَرَف ولهذا خصه الله بأكبر النعم التي أنزلها الله على عباده ، وهو الوحي .
فإن النعم يا إخواني لو نظرنا إليها لوجدنا أنها قسمان :
نعم يستوي فيها البهائم والإنسان وهي متعة البدن الأكل والشرب والنكاح والسكن -يرحمك الله- هذه النعم يستوي بها الإنسان والحيوان أليس كذلك الإنسان يتمتع بما يأكل وبما يشرب وبما ينكح وبما يسكن والبهائم .
كذلك نعم أخرى يختص بها الإنسان وهي الشرائع الشرائع التي أنزلها الله على الرسل لتستقيم حياة الخلق لأنه لا يمكن أن تستقيم حياة الخلق أو تطيب حياة الخلق إلا بالشرائع (( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )) المؤمن العامل بالصالحات هو الذي له الحياة الطيبة في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة والله لو فتشت الملوك وأبناء الملوك والوزراء وأبناء الوزراء والأمراء وأبناء الأمراء والأغنياء وأبناء الأغنياء لو فتشتهم وفتشت من آمن وعمل صالحا لوجدت الثاني أطيب عيشة وأنعم بالا وأشرح صدرا لأن الله عز وجل الذي بيده مقاليد السماوات والأرض تكفّل قال (( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة )) .
تجد المؤمن العامل للصالحات مستور القلب منشرح الصدر راضيا بقضاء الله وقدره إن أصابه خير شكر الله على ذلك وإن أصابه ضده صبر على ذلك واعتذر إلى الله مما صنع وعلم أنه إنما أصابه بذنوبه فرجع إلى الله عز وجل ، قال النبي عليه الصلاة والسلام ( عجبًا للمؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك إلا للمؤمن إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ) ، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام .
إذن أكبر نعمة أنزل الله على الخلق هي نعمة الدين الذي به قوام حياة الإنسان في الدنيا والآخرة .
وأنا أسألكم الآن ما هي الحياة ؟ هل هي حياة الدنيا أو حياة الآخرة ؟ حياة الآخرة الدليل قوله تعالى في سورة الفجر (( يقول يا ليتني )) أتموا الآية
الطالب : (( قدمت لحياتي ))
الشيخ : (( قدمت لحياتي )) الدنيا ماهي شيء الحياة حقيقة حياة الآخرة ، والذي يعمل للآخرة يحيى حياة طيبة في الدنيا كما تلوت عليكم الآية فصار الآن المؤمن العامل للصالحات هو الذي كسب الحياتين حياة الدنيا وحياة الآخرة .
والكافر هو الذي خسر الدنيا والآخرة : (( قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين )) .
يقول عز وجل (( ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين )) مطاع، مطاع ثم أي هناك أمين على ما كلّف به من يطيعه جبريل هو المطاع فمن الذي يطيعه قال العلماء تطيعه الملائكة لأنه ينزل بالأمر من الله فيأمر الملائكة فتطيع فله إمرة وله طاعة على الملائكة ثم الرسل عليهم الصلاة والسلام الذين ينزل جبريل عليهم بالوحي لهم إمرة وطاعة على المكلفين : (( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين )) .
(( مطاع ثَمَّ أمين )) ولما أقسم الله عز وجل على أن هذا القرآن قول هذا الرسول الكريم الملكي.
في آية أخرى بيّن الله سبحانه وتعالى وأقسم أن هذا القرآن قول رسول كريم في قوله تعالى : (( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وماهو بقول شاعر )) فهل الرسول هناك هو الرسول هنا ؟ الجواب لا الرسول هنا في سورة التكوير رسول ملكي أي من الملائكة وهو جبريل والرسول هناك رسول بشري وهو محمد عليه الصلاة والسلام والدليل على هذا واضح هنا قال (( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين )) وهذا الوصف لمن لجبريل هو اللي عند الله أما محمد عليه الصلاة والسلام فهو في الأرض هناك قال (( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وماهو بقول شاعر )) ردًا لقول الكفار الذين قالوا إن محمد شاعر ولا بقول كاهن .
أيهما أعظم قسما (( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة )) أو (( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم )) أيهن أعظم ؟ الثاني ، الثاني أعظم ما فيه شيء أعم منه بما تبصرون وما لا تبصرون ، كل الأشياء إما نبصرها أو لا نبصرها .
إذن أقسم الله بكل شيء وهنا أقسم بالآيات العلوية :(( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس )) والليل والنهار هذه آيات علوية أفقية ، شف سبحان الله تناسب الرسول الذي أقسم على أنه قوله وهو جبريل لأن جبريل عند الله .
إذا قال قائل كيف الله يصف القرآن بأنه قول الرسول البشري والرسول الملكي ؟ نقول نعم الرسول الملكي بلغه إلى الرسول البشري والرسول البشري بلغه إلى الأمة فصار قول هذا بالنيابة ، قول الرسول قول جبريل بالنيابة وقول محمد بالنيابة من القائل الأصلي الأول هو الله عز وجل هو الله ، فالقرآن قول الله حقيقة وقول جبريل باعتبار أنه بلغه لمحمد وقول محمد باعتبار أنه بلغه إلى الأمة واضح يا إخوان ؟
طيب قال الله تعالى (( وما صاحبكم بمجنون )) من المراد بصاحبكم ؟ محمد رسول الله عز وجل وتأمل أنه قال (( ما صاحبكم )) ولم يقل وما محمد ، كأنه قال ما صاحبكم الذي تعرفونه وأنتم وإياه دائمًا صاحب بقي فيهم أربعين سنة في مكة قبل النبوة يعرفونه ويعرفون صدقه وأمانته حتى كانوا يطلقون عليه اسم الأمين اسم الأمين.
(( ما صاحبكم بمجنون )) يعني ليس مجنونا بل هو أعقل العقلاء عليه الصلاة والسلام ، أكمل الناس عقلا بلا شك وأسدهم رأيا .
طيب (( وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه )) أي رأى جبريل بالأفق المبين أي البيّن الظاهر العالي فإن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى جبريل على صورته التي خلق عليها مرتين :
مرة في غار حراء ومرة في السماء السابعة لما عرج به عليه الصلاة والسلام .
(( ولقد رآه بالأفق المبين )) أي الرؤيتين هذه (( رآه بالأفق المبين )) هل هي الرؤيا التي في غار حراء أو الرؤيا التي فوق السماء في غار حراء لأنه يقول (( رآه بالأفق )) إذن محمد في الأرض (( وما هو على الغيب بضنين )) : يعني ما محمد صلى الله عليه وسلم على الغيب يعني على الوحي الذي جاءه من عند الله بمتهم ضنين بالضاء المشالة أي بمتهم من الظن وهو التهمة وفيها قراءة بظنين بالظاد أي ببخيل فهو عليه الصلاة والسلام ليس بمتهم في الوحي ولا باخل به بل هو أشد الناس بذلا لما أوحي إليه يعلم الناس في كل مناسبة وهو أبعد الناس عن التهمة لكمال صدقه عليه الصلاة والسلام .
(( وماهو بقول شيطان رجيم )) أي ليس بقول أحد من الشياطين وهم الكهنة الذين توحي إليهم الشياطين الوحي ويكذبون معه ويخبرون الناس فيظنونهم صادقين .
ثم قال (( إن هو إلا ذكر للعالمين )) وندع الكلام على بقية السورة إلى جلسة أخرى لئلا ينتهبنا الوقت عن الأسئلة ونبدأ الآن بالأسئلة ولكل واحد سؤال واحد واحد يالله