تفسير قوله تعالى : [ يسقون من رحيق مختوم ] إلى نهاية سور المطففين . حفظ
الشيخ : ونكمل سورة المطففين حيث وقفنا على قول الله تبارك وتعالى (( يُسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )) . الضمير في قوله (( يسقون )) يعني الأبرار يسقيهم الله عز وجل بأيدي الخدم الذين وصفهم الله بقوله (( يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا يُنزَفون )) .
(( يسقون من رحيق )) : أي من شراب خالص لا شَوب فيه ولا ضرر فيه على العقل ولا ألم فيه في الرأس بخلاف شراب الدنيا فإنه يغتال العقل ويَصدَعُ الرأس أما هذا فإنه رحيق خالص ليس فيه أي أذى .
(( مختوم ختامه مسك )) : أي بقيته وآخره مسك أي طيِّب الريح بخلاف خمر الدنيا فإنه خبيث الرائحة .
فهؤلاء القوم الأبرار لما حبسوا أنفسهم عن الملاذ التي حرمها الله عليهم في الدنيا أُعطُوها يوم القيامة .
(( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )) : أي وفي هذا الثواب والجزاء فليتنافس المتنافسون أي فليتسابق المتسابقون سباقا يصل بهم إلى حد النفس وهو كناية عن السرعة في المسابقة يقال نافسته أي سابقته سباقا بلغ بي النفس .
والمنافسة في الخير هي المسابقة إلى طاعة الله عز وجل وإلى ما يُرضي الله سبحانه وتعالى والبعد عما يُسخط الله .
ثم قال عز وجل (( ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون )) : مزاجه هذا الشراب الذي يسقاه هؤلاء الأبرار من تسنيم أي من عين رفيعة معنى وحِسًا وذلك لأن أنهار الجنة تفجر من الفردوس والفردوس هو أعلى الجنة وأوسط الجنة وفوقه عرش الرب عز وجل كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فهذا الشراب يمزج بهذا الطيب الذي يأتي من التسنيم أي من المكان المسنّم الرفيع العالي وهو جنة عدن (( عينا يشرب بها المقربون )) أي أن هذه العين والمياه النابعة والأنهار الجارية يشرب بها المقربون .
وهنا سيقول القائل لماذا قال يشرب بها هل هي إناء يحمل حتى يقال شرب بالإناء الجواب لا لأن العين والنهر لا يحمل إذن لماذا لم يقل يشرب منها المقربون والجواب عن هذا الإشكال من أحد وجهين :
فمن العلماء من قال إن الباء بمعنى من بمعنى يشرب بها أي يشرب منها .
ومنهم من قال إن يشرب بمعنى يروى ضمنت معنى يروى فمعنى يشرب بها أي يروى بها المقربون وهذا المعنى أو وهذا الوجه أحسن من الوجه الذي قبله ، لأن هذا الوجه يتضمن شيئين أي يرجحانه وهما :
أولا : إبقاء حرف الجر على معناه الأصلي والثاني : أن الفعل يشرب ضُمّن معنى أعلى من الشرب وهو الري فكم من إنسان يشرب ولا يروى لكن إذا روي فقد شرب ، وعلى هذا فالوجه الثاني أحسن وهو أن يُضمّن الفعل يشرب يعني يروى .
(( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون )) : إن الذين أجرموا أي قاموا بالجرم وهو المعصية والمخالفة كانوا أي في الدنيا من الذين آمنوا يضحكون استهزاء وسخرية واستصغارا لهم وإذا مروا بهم يتغامزون إذا مروا الفاعل هل هم الذين أجرموا أو الذين آمنوا ؟ الآية تصلح لهذا وهذا يعني يصح أن يكون إذا مر المؤمنون بالمجرمين أو إذا مرّ المجرمون بالمؤمنين والقاعدة التي ينبغي أن تفهموها في التفسير أن الآية إذا احتملت معنيين لا ينافي أحدهما الآخر وجب حملها على المعنيين لأن ذلك أعم أمفهوم هذا عندكم ؟ (( إذا مروا بهم يتغامزون )) من المار سؤال موجه لكم
الطالب : ...
الشيخ : يحتمل إذا مر المجرمون بالمؤمنين أو إذا مر المؤمنون بالمجرمين فإذا جعلنا للأمرين صار المعنى أن المجرمين إذا مروا بالمؤمنون وهم جلوس تغامزوا وإذا مر المؤمنون بالمجرمين وهم جلوس تغامزوا أيضا فتكون شاملة للحالين حال مرور المجرمين بالمؤمنين وحال مرور المؤمنين بالمجرمين يتغامزون يعني يغمز بعضهم بعضا انظر إلى هؤلاء سخرية واستهزاء واستصغارا .
(( وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين )) إذا انقلب المجرمون إلى أهلهم انقلبوا فكهين يعني متفكهين بما نالوه من السخرية بهؤلاء المؤمنين فهم يستهزئون ويسخرون ويتفكهون بهذا ظنا منهم أنهم نجحوا وأنهم غلبوا المؤمنين ولكن الأمر بالعكس .
ثم قال تعالى (( وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون )) إذا رأوهم أي رأى المجرمون المؤمنين (( قالوا إن هؤلاء لضالون )) ضالون عن الصواب متأخرون متزمتون متشددون إلى غير ذلك من الألقاب .
ولقد كان لهؤلاء السلف خلف في زماننا اليوم وما قبله وما بعده من الناس من يقول عن أهل الخير إنهم رجعيُّون إنهم متخلفون ويقولون عن الملتزم إنه متشدد متزمّت وفوق هذا كله من قالوا للرسل إنهم سحرة أو مجانين .
قال الله تعالى (( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون )) فورثة الرسل من أهل العلم والدين سينالهم من أعداء الرسل ما نال الرسل من ألقاب السوء والسخرية وما أشبه ذلك .
ومن هذا تلقيب أهل البدع أهل التعطيل للسلف أهل الإثبات بأنهم حشوية مجسمة مشبهة وما أشبه ذلك من ألقاء السوء التي ينفرون بها الناس عن الطريق السوي .
(( وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين )) أي أن هؤلاء المجرمين ما بُعِثوا حافظين لهؤلاء يرقبونهم ويحكمون عليهم بل الحكم لله عز وجل .
ثم قال تعالى (( فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون )) اليوم يعني يوم القيامة الذين آمنوا يضحكون من الكفار فالذين مبتدأ ويضحكون خبره ومن الكفار متعلق بيضحكون ، المعنى : فاليوم فالذين آمنوا يضحكون اليوم من الكفار وهذا والله هو الضحك الذي لا بكاء بعده أما ضحك المجرمين بالمؤمنين في الدنيا فسيعقبه البكاء والحزن والويل والثبور .
(( على الأرائك ينظرون )) أي أن المؤمنين على الأرائك في الجنة والأرائك : هي السرر الفخمة الحسنة النظيرة .
(( على الأرائك ينظرون )) أي ينظرون ما أعد الله لهم من الثواب وينظرون أولئك الذين يسخرون بهم في الدنيا كما قال الله تعالى (( قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أإنك لمن المصدقين * أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون )) يقول لأصحاب الجنة يعرض عليهم أن يطلعوا إلى قرينه الذين كان في الدنيا ينكر البعث ويكذب به (( فاطلع فرآه في سواء الجحيم )) في قعره وأصله قال له (( تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين )) .
فأنت ترى الآن أن المؤمنين يرون الكفار وهم يعذبون في قعر النار والمؤمنون في الجنة قال (( على الأرائك ينظرون )) إذن ينظرون إلى شيئين الشيء الأول ما أعد الله لهم من النعيم ومنه النظر إلى وجه الله عز وجل .
والثاني : ينظرون إلى هؤلاء المكذبين الذين كانوا في الدنيا يسخرون بهم ويستهزئون بهم ينظرون إليهم وهم في عذاب الله ثم قال تعالى (( هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون )) ثوّب أي جوزي وهل هنا للتقرير أي أن الله تعالى قد ثوّب الكفار وجازاهم جزاء فعلهم في الدنيا وهو سبحانه وتعالى حكم عدل فحكمه دائر بين العدل والفضل بالنسبة للذين آمنوا حكمه وجزاؤه فضل وبالنسبة للكافرين حكمه وجزاؤه عدل فالحمد لله رب العالمين .
وبهذا تم الكلام الذي يسره الله عز وجل على سورة المطففين نسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم به وأن يجعلنا من المتعظين الواعظين .
والآن يأتي دور الأسئلة ونبدأ بالأخ الآن نتنهي من الإخوان ولا تنتظرون في المسجد في الجامع
الطالب : في الجامع الكبير
الشيخ : إيه نعم نعم