تفسير أول سورة الإنشقاق إلى قوله تعالى : [ فأما من أوتي كتابه بيمينه ] . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الثاني لشهر صفر، عام 1414 ه، في يوم الخميس العاشر من شهر صفر.
نبدأ كالعادة بالكلام على ما تيسر من كتاب الله سبحانه وتعالى، ونحن قد انتهينا مِن تفسير سورة النبأ إلى آخر المطففين.
يقول الله عز وجل : بسم الله الرحمن الرحيم: (( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ )): وقد تقدم الكلام على البسملة، وبيَّنَّا أن البسملة آية من كتاب الله مستقلة، ليست من السورة التي قبلها ولا من السورة التي بعدها، وإنما يؤتى بها في ابتداء السور إلا سورة براءة.
وليست آية من الفاتحة، وإن كان المكتوب في المصاحف أنها آية، لكن القول الراجح الذي هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- وعليه عامة أصحابه أنها ليست آية من الفاتحة، وهو الذي دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، حيث قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن الله : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال : (( الحمد لله رب العالمين )) قال : حمدني عبدي، وإذا قال : (( الرحمن الرحيم )) قال : أثنى علي عبدي، وإذا قال : (( مالك يوم الدين )) قال : مجدني عبدي، وإذا قال : (( إياك نعبد وإياك نستعين )) قال : هذا بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال : (( اهدنا الصراط المستقيم )) قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) ، وعلى هذا فتكون الآية الأولى : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))، والثانية : (( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ))، والثالثة : (( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ))، والرابعة : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))، والخامسة : (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ))، والسادسة : (( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ))، والسابعة : (( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ))، وهذا كما أنه الموافق لما دلت عليه السنة فهو الموافق أيضا للسورة لفظا ومعنى:
أما لفظا: فالآيات الثلاث الأولى كلها لحق الله عز وجل.
والآيات الثلاث الأخيرة كلها لحق الإنسان: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )) كلها لحق الإنسان .
والآية الرابعة الوسطى بين الله وبين العبد، هذا هو القول الراجح في أن الفاتحة سبع آيات أولها : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )).
أما السورة التي نبتدئ بها الآن فهي قوله تعالى : (( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ )) انشقت انفتحت وانفرجت، كقوله تعالى : (( وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ))، وكقوله تعالى : (( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ )) .
إذًا فانشقاقها يوم القيامة.
قال تعالى : (( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )) : أَذِنت بمعنى استمعت وأطاعت، أمر ربها عز وجل أن تنشق فانشقت، مع أنها كانت كما وصفها الله تعالى سبعًا شدادا قوية، كما قال تعالى : (( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ )) أي : بقوة .
فهذه السماء القوية العظيمة تنشق يوم القيامة تتشقق تنفرج بإذن الله سبحانه وتعالى.
(( وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )) أي : حُق لها أن تأذن أي : تسمع وتطيع لأن الذي أمرها من ؟!
أمرها ربها وخالقها عز وجل، فتسمع وتطيع كما أنها سمعت وأطاعت في ابتداء خلقها، ففي ابتداء خلقها قال الله تبارك وتعالى : (( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ )) ، فتأمل أيها الآدمي البشر الضعيف كيف كانت هذه المخلوقات العظيمة تسمع وتطيع لله عز وجل هذه الطاعة العظيمة في ابتداء الخلق وفي انتهاء الخلق.
في ابتداء الخلق قال : (( ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ )).
وفي انتهاء الخلق : (( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )) : حُق لها أن تأذن تسمع وتطيع.
ثم قال : (( وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )) : تأكيدًا لاستماعها لربها وطاعتها له.
(( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ )): هذه الأرض التي نحن عليها الآن، هي غير ممدودة أولاً : أنها كرة مدورة وإن كانت جوانبها الشمالية والجنوبية منفتحة قليلا أي : ممتدة قليلا فهي مدورة الآن، ثم هي أيضًا معرَّجة فيها المرتفع جدا وفيها المنخفض، فيها الأودية فيها السهول فيها الرمال فهي غير مستوية، لكن يوم القيامة: (( إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ )) أي : تمد مداً واحداً كمد الأديم أي : كمد الجلد، كأنما تفرش جلدا أو سماطا
تمد حتى إن الذين عليها وهم الخلائق يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، لكن الآن لا ينفذهم البصر، لو امتد الناس على الأرض لوجدت البعيدين منخفضين لا تراهم، لكن يوم القيامة إذا مُدت صار أقصاهم مثل أدناهم كما جاء في الحديث : ( يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ) .
يقول تعالى: (( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )) ألقت ما فيها ما الذي فيها ؟
فيها جثث بني آدم تلقيها يوم القيامة، تلقي هذه الجثث، يخرجون من قبورهم لله عز وجل كما بدأهم أول خلق، أي : كما خرجوا من بطون أمهاتهم يخرجون من بطون الأرض، وأنت خرجت من بطن أمك حافيا أو منتعلا ؟ أجيبوا .
السائل : حافياً .
الشيخ : حافيا كاسيا أو عاريا ؟
عاريا نعم.
مختونا أو أغرل ؟
أغرل، إلا بعض الناس قد يخلق مختوناً، لكن عامة الناس يخرجون من بطون أمهاتهم غرلاً، كذلك تخرج من بطن الأرض يوم القيامة حافياً ليس عليك نعال، عارياً ليس عليك كساء، أغرل لست مختوناً، ولما حدث النبي عليه الصلاة والسلام بذلك قالت عائشة : ( يا رسول الله الرجال والنساء ؟ قال : الرجال والنساء ).
بادية عوراتهم ؟ نعم لكن الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك ، الأمر شديد كل إنسان لاه عن نفسه، يقول تعالى : (( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ))، والإنسان إذا تصور الناس في ذلك الوقت مجرد تصور فإنه يرتعد ويخاف وإذا كان عاقلا مؤمنا عمل لهذا اليوم .
ولهذا قال عز وجل : (( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )) أذنت يعني: سمعت وأطاعت لربها وحقت، فبعد أن كانت مدورة فيها الرفيع والنازل صارت كأنها جلد كممتدة امتدادا واحدا.
ثم قال عز وجل : (( يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ )) : الكادح هو: الساعي بجد ونوع مشقة.
وقوله : (( إلى ربك )) يعني أنك تكدح كدحاً يوصلك إلى ربك، -انتبه- كدحًا يوصل إلى الله، يعني: أن منتهى كدحك مهما كنت ينتهي إلى من ؟ إلى الله لأننا سنموت، وإذا متنا رجعنا إلى الله عز وجل، فمهما عملت فإن المنتهى هو الله عز وجل (( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ))، ولهذا قال : (( كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً )) ، حتى العاصي كادح، كادح غايته الله عز وجل: (( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ))، لكن الفرق بين المطيع والعاصي:
أن المطيع يعمل عملا يرضاه الله، يصل به إلى مرضاة الله يوم القيامة .
والعاصي يعمل عملا يغضب الله لكن مع ذلك أين ينتهي ؟
إلى الله عز وجل، إذًا قوله تعالى : (( يا أيها الإنسان )) يعم كل إنسان مؤمن أو كافر .
(( إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ )) : الفاء يقول النحويون : إنها تدل على الترتيب والتعقيب، يعني: فأنت ملاقيه عن بعد أو عن قرب ؟
عن قرب، (( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ )) وكل آت قريب، (( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ )) .
وإذا شئت أن يتبين لك أن ملاقاة الرب عز وجل قريبة إذا شئت أن يتبين لك فانظر ما مضى من عمرك الآن، لو مضى عليك مائة سنة كأنما هذه المائة السنة ساعة واحدة، كل الذي مضى من أعمارنا كأنه ساعة واحدة، إذًا هو قريب.
ثم إذا مات الإنسان أتظنون أن البرزخ الذي بين الحياة الدنيا والآخرة أتظنونه طويلا ؟ !
هو قريب قريب كاللحظة، الإنسان إذا نام نوماً هادئاً ولنقل نام أربعاً وعشرين ساعة وقام ويش يقدر النوم هذا ؟ إيش ؟
دقيقة واحدة مع أنه يمكن نام أربعة وعشرين ساعة، إذا كان هذا في مفارقة الروح للحياة تمضي يمضي الوقت بهذه السرعة، فما بالك إذا كانت الروح بعد خروجها من البدن مشغولة إما بنعيم أو جحيم ؟
ستمر ملايين السنين على الإنسان وهو كأنها لا شيء، لأن امتداد الزمن في حال يقظتنا ليس كامتداد الزمن في حال نومنا، أليس كذلك؟ توافقون على هذا ؟!
الإنسان الصاحي من طلوع الشمس إلى زوال الشمس مسافة يحس بها بأن الوقت طويل، لكن لو كان نائماً نعم ما كان شيء، الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه: (( قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ))، مائة سنة. أصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وتسع سنين، فلما بعثوا قال بعضهم لبعض: كم لبثتم ؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم، وهذا يدل على أن الناس يعني الإنسان يتعجب كيف ملايين السنين تذهب على هالأموات؟!
نقول : نعم هذه ملايين السنين لكن ما كأنها إلا دقيقة واحدة، لأن حال الإنسان بعد أن تفارق روحه بدنه سواء كانت مفارقة كلية أو جزئية غير حاله إذا كانت الروح في البدن، إذا كانت الروح في البدن يعاني من المشقة والمشاكل والهواجيس والوساوس أشياء تضيع عليه الزمن، لكن بعد النوم في النوم يتقلص الزمن كثيرًا، في الموت يتقلص أكثر وأكثر، فهؤلاء الذي ماتوا لهم ملايين السنين أو آلاف السنين كأنهم لم يموتوا إلا اليوم، لو بعثوا لقيل لهم كم لبثتم ؟ لقالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم.
وهذه المسألة قد يرد على الإنسان فيها إشكال، ولكن لا إشكال في الموضوع مهما طالت المدة لأهل القبور فإنها قصيرة، ولهذا قال : (( فملاقيه )) أتى بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب.
وما أسرع أن تلاقي الله عز وجل.
ثم قسم الله عز وجل الناس عند ملاقاة الله تعالى إلى قسمين :
منهم من يأخذ كتابه بيمينه وأسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم منهم. ومنهم من يأخذ كتابه من وراء ظهره، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك في الجلسة القادمة من أجل أن نأخذ الأسئلة إذا كان لديكم أسئلة، فنبدأ باليمين ولكل واحد سؤال واحد .
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الثاني لشهر صفر، عام 1414 ه، في يوم الخميس العاشر من شهر صفر.
نبدأ كالعادة بالكلام على ما تيسر من كتاب الله سبحانه وتعالى، ونحن قد انتهينا مِن تفسير سورة النبأ إلى آخر المطففين.
يقول الله عز وجل : بسم الله الرحمن الرحيم: (( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ )): وقد تقدم الكلام على البسملة، وبيَّنَّا أن البسملة آية من كتاب الله مستقلة، ليست من السورة التي قبلها ولا من السورة التي بعدها، وإنما يؤتى بها في ابتداء السور إلا سورة براءة.
وليست آية من الفاتحة، وإن كان المكتوب في المصاحف أنها آية، لكن القول الراجح الذي هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- وعليه عامة أصحابه أنها ليست آية من الفاتحة، وهو الذي دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، حيث قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن الله : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال : (( الحمد لله رب العالمين )) قال : حمدني عبدي، وإذا قال : (( الرحمن الرحيم )) قال : أثنى علي عبدي، وإذا قال : (( مالك يوم الدين )) قال : مجدني عبدي، وإذا قال : (( إياك نعبد وإياك نستعين )) قال : هذا بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال : (( اهدنا الصراط المستقيم )) قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) ، وعلى هذا فتكون الآية الأولى : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))، والثانية : (( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ))، والثالثة : (( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ))، والرابعة : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))، والخامسة : (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ))، والسادسة : (( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ))، والسابعة : (( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ))، وهذا كما أنه الموافق لما دلت عليه السنة فهو الموافق أيضا للسورة لفظا ومعنى:
أما لفظا: فالآيات الثلاث الأولى كلها لحق الله عز وجل.
والآيات الثلاث الأخيرة كلها لحق الإنسان: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )) كلها لحق الإنسان .
والآية الرابعة الوسطى بين الله وبين العبد، هذا هو القول الراجح في أن الفاتحة سبع آيات أولها : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )).
أما السورة التي نبتدئ بها الآن فهي قوله تعالى : (( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ )) انشقت انفتحت وانفرجت، كقوله تعالى : (( وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ))، وكقوله تعالى : (( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ )) .
إذًا فانشقاقها يوم القيامة.
قال تعالى : (( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )) : أَذِنت بمعنى استمعت وأطاعت، أمر ربها عز وجل أن تنشق فانشقت، مع أنها كانت كما وصفها الله تعالى سبعًا شدادا قوية، كما قال تعالى : (( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ )) أي : بقوة .
فهذه السماء القوية العظيمة تنشق يوم القيامة تتشقق تنفرج بإذن الله سبحانه وتعالى.
(( وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )) أي : حُق لها أن تأذن أي : تسمع وتطيع لأن الذي أمرها من ؟!
أمرها ربها وخالقها عز وجل، فتسمع وتطيع كما أنها سمعت وأطاعت في ابتداء خلقها، ففي ابتداء خلقها قال الله تبارك وتعالى : (( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ )) ، فتأمل أيها الآدمي البشر الضعيف كيف كانت هذه المخلوقات العظيمة تسمع وتطيع لله عز وجل هذه الطاعة العظيمة في ابتداء الخلق وفي انتهاء الخلق.
في ابتداء الخلق قال : (( ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ )).
وفي انتهاء الخلق : (( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )) : حُق لها أن تأذن تسمع وتطيع.
ثم قال : (( وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )) : تأكيدًا لاستماعها لربها وطاعتها له.
(( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ )): هذه الأرض التي نحن عليها الآن، هي غير ممدودة أولاً : أنها كرة مدورة وإن كانت جوانبها الشمالية والجنوبية منفتحة قليلا أي : ممتدة قليلا فهي مدورة الآن، ثم هي أيضًا معرَّجة فيها المرتفع جدا وفيها المنخفض، فيها الأودية فيها السهول فيها الرمال فهي غير مستوية، لكن يوم القيامة: (( إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ )) أي : تمد مداً واحداً كمد الأديم أي : كمد الجلد، كأنما تفرش جلدا أو سماطا
تمد حتى إن الذين عليها وهم الخلائق يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، لكن الآن لا ينفذهم البصر، لو امتد الناس على الأرض لوجدت البعيدين منخفضين لا تراهم، لكن يوم القيامة إذا مُدت صار أقصاهم مثل أدناهم كما جاء في الحديث : ( يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ) .
يقول تعالى: (( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )) ألقت ما فيها ما الذي فيها ؟
فيها جثث بني آدم تلقيها يوم القيامة، تلقي هذه الجثث، يخرجون من قبورهم لله عز وجل كما بدأهم أول خلق، أي : كما خرجوا من بطون أمهاتهم يخرجون من بطون الأرض، وأنت خرجت من بطن أمك حافيا أو منتعلا ؟ أجيبوا .
السائل : حافياً .
الشيخ : حافيا كاسيا أو عاريا ؟
عاريا نعم.
مختونا أو أغرل ؟
أغرل، إلا بعض الناس قد يخلق مختوناً، لكن عامة الناس يخرجون من بطون أمهاتهم غرلاً، كذلك تخرج من بطن الأرض يوم القيامة حافياً ليس عليك نعال، عارياً ليس عليك كساء، أغرل لست مختوناً، ولما حدث النبي عليه الصلاة والسلام بذلك قالت عائشة : ( يا رسول الله الرجال والنساء ؟ قال : الرجال والنساء ).
بادية عوراتهم ؟ نعم لكن الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك ، الأمر شديد كل إنسان لاه عن نفسه، يقول تعالى : (( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ))، والإنسان إذا تصور الناس في ذلك الوقت مجرد تصور فإنه يرتعد ويخاف وإذا كان عاقلا مؤمنا عمل لهذا اليوم .
ولهذا قال عز وجل : (( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )) أذنت يعني: سمعت وأطاعت لربها وحقت، فبعد أن كانت مدورة فيها الرفيع والنازل صارت كأنها جلد كممتدة امتدادا واحدا.
ثم قال عز وجل : (( يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ )) : الكادح هو: الساعي بجد ونوع مشقة.
وقوله : (( إلى ربك )) يعني أنك تكدح كدحاً يوصلك إلى ربك، -انتبه- كدحًا يوصل إلى الله، يعني: أن منتهى كدحك مهما كنت ينتهي إلى من ؟ إلى الله لأننا سنموت، وإذا متنا رجعنا إلى الله عز وجل، فمهما عملت فإن المنتهى هو الله عز وجل (( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ))، ولهذا قال : (( كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً )) ، حتى العاصي كادح، كادح غايته الله عز وجل: (( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ))، لكن الفرق بين المطيع والعاصي:
أن المطيع يعمل عملا يرضاه الله، يصل به إلى مرضاة الله يوم القيامة .
والعاصي يعمل عملا يغضب الله لكن مع ذلك أين ينتهي ؟
إلى الله عز وجل، إذًا قوله تعالى : (( يا أيها الإنسان )) يعم كل إنسان مؤمن أو كافر .
(( إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ )) : الفاء يقول النحويون : إنها تدل على الترتيب والتعقيب، يعني: فأنت ملاقيه عن بعد أو عن قرب ؟
عن قرب، (( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ )) وكل آت قريب، (( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ )) .
وإذا شئت أن يتبين لك أن ملاقاة الرب عز وجل قريبة إذا شئت أن يتبين لك فانظر ما مضى من عمرك الآن، لو مضى عليك مائة سنة كأنما هذه المائة السنة ساعة واحدة، كل الذي مضى من أعمارنا كأنه ساعة واحدة، إذًا هو قريب.
ثم إذا مات الإنسان أتظنون أن البرزخ الذي بين الحياة الدنيا والآخرة أتظنونه طويلا ؟ !
هو قريب قريب كاللحظة، الإنسان إذا نام نوماً هادئاً ولنقل نام أربعاً وعشرين ساعة وقام ويش يقدر النوم هذا ؟ إيش ؟
دقيقة واحدة مع أنه يمكن نام أربعة وعشرين ساعة، إذا كان هذا في مفارقة الروح للحياة تمضي يمضي الوقت بهذه السرعة، فما بالك إذا كانت الروح بعد خروجها من البدن مشغولة إما بنعيم أو جحيم ؟
ستمر ملايين السنين على الإنسان وهو كأنها لا شيء، لأن امتداد الزمن في حال يقظتنا ليس كامتداد الزمن في حال نومنا، أليس كذلك؟ توافقون على هذا ؟!
الإنسان الصاحي من طلوع الشمس إلى زوال الشمس مسافة يحس بها بأن الوقت طويل، لكن لو كان نائماً نعم ما كان شيء، الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه: (( قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ))، مائة سنة. أصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وتسع سنين، فلما بعثوا قال بعضهم لبعض: كم لبثتم ؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم، وهذا يدل على أن الناس يعني الإنسان يتعجب كيف ملايين السنين تذهب على هالأموات؟!
نقول : نعم هذه ملايين السنين لكن ما كأنها إلا دقيقة واحدة، لأن حال الإنسان بعد أن تفارق روحه بدنه سواء كانت مفارقة كلية أو جزئية غير حاله إذا كانت الروح في البدن، إذا كانت الروح في البدن يعاني من المشقة والمشاكل والهواجيس والوساوس أشياء تضيع عليه الزمن، لكن بعد النوم في النوم يتقلص الزمن كثيرًا، في الموت يتقلص أكثر وأكثر، فهؤلاء الذي ماتوا لهم ملايين السنين أو آلاف السنين كأنهم لم يموتوا إلا اليوم، لو بعثوا لقيل لهم كم لبثتم ؟ لقالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم.
وهذه المسألة قد يرد على الإنسان فيها إشكال، ولكن لا إشكال في الموضوع مهما طالت المدة لأهل القبور فإنها قصيرة، ولهذا قال : (( فملاقيه )) أتى بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب.
وما أسرع أن تلاقي الله عز وجل.
ثم قسم الله عز وجل الناس عند ملاقاة الله تعالى إلى قسمين :
منهم من يأخذ كتابه بيمينه وأسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم منهم. ومنهم من يأخذ كتابه من وراء ظهره، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك في الجلسة القادمة من أجل أن نأخذ الأسئلة إذا كان لديكم أسئلة، فنبدأ باليمين ولكل واحد سؤال واحد .