تفسير قول الله تعالى:[فلا أقسم بالشفق ]إلى قوله تعالى : [ وإذا قرأ عليهم القرآن لا يسجدون ] . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأخير في شهر صفر، عام 1414ه، يوم الخميس وبه نختتم ما بقي من سورة الإنشقاق.
فقد انتهينا إلى قول الله تعالى : (( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ )): هذه الجملة مكونة من قسم، ومقسم به، ومقسم عليه، ومُقسم:
فالقسم في قوله : (( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ )): قد يظن الظان أن معنى لا أقسم نفي، وليس كذلك بل هو إثبات، ولا هنا جيء بها للتنبيه، ولو حذفت في غير القرآن لاستقام الكلام، ولها نظائر مثل قوله : (( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ))، (( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ))، (( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ))، (( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ )): وكلها يقول العلماء : إن لا فيها للتنبيه وأن القسم مثبت.
أما المقسِم فهو الله عز وجل، فهو مقسم ومقسَم به، فهو سبحانه مقسِم.
أما المقسَم به في الآية فهو الشفق وما عطف عليه.
فإن قال قائل : لماذا يقسم الله على خبره وهو سبحانه الصادق بلا قسم ؟ وكذلك يقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خبره وهو صادق بلا قسم ؟
قلنا : إن القَسم يؤكد الكلام، والقرآن العربي نزل باللسان العربي، وإذا كان من عادتهم أنهم يؤكدون الكلام بالقسم صار هذا الأسلوب جاريًا على اللسان العربي الذي نزل به القرآن .
وقوله : (( بالشَّفق )): الشفق هو: " الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس " ، وإذا غابت هذه الحمرة خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، هذا قول أكثر العلماء.
وبعضهم قال : إذا غاب البياض، وهو يغيب بعد الحمرة بنحو نصف ساعة، لكن الذي عليه الجمهور ويقال : إن أبا حنيفة -رحمه الله- رجع إليه هو أن الشفق هو الحمرة.
وإذا غاب هذا الشفق فإنه يدخل وقت العشاء ويخرج وقت المغرب.
قال تعالى : (( وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ )) هذا أيضا مقسم به معطوف على الشفق، يعني: وأقسم بالليل وما وسق، وهذان قسمان: الليل وما وسق.
(( والليل )) معروف، فما معنى (( ما وسق )) ؟
أي : ما جمع، لأن الليل يجمع الوحوش والهوام وما أشبه ذلك تجتمع وتخرج تبرز من جحورها وبيوتها، وكذلك ربما يشير إلى اجتماع الناس بعضهم إلى بعض.
(( وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ )) القمر معروف، ومعنى إذا اتَّسق يعني: إذا اجتمع نوره وتم وكمل وذلك في ليالي الإبدار، فأقسم الله عز وجل بالليل وما وسق أي : ما جمع، وبالقمر لأنه آية الليل، ثم قال بعد ذلك : (( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ )) ، والخطاب هنا لجميع الناس أي : لتركبن حالا عن حال، وهو يعني: أن الأحوال تتغير ، فيشمل أحوال الزمان وأحوال المكان وأحوال الأبدان وأحوال القلوب -انتبه- يتضمن أربعة أشياء : (( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ )) ما قلنا فيها ؟
حالًا بعد حال فما هي ؟
قلنا : أحوال الزمان، وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب.
أحوال الزمان نعرف أنها تتنقل، (( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ))، فيوم يكون فيه السرور والانشراح وانبساط النفس، ويوم آخر يكون بالعكس حتى إن الإنسان ليشعر بهذا من غير أن يكون هناك سبب معلوم، وفي هذا يقول الشاعر :
" ويومٌ علينا ويوم لنا *** ويومٌ نُساء ويوم نُسَر " .
وهذا شيء يعرفه منا كل واحد بنفسه تصبح اليوم مستأنس فرح مسرور في اليوم الثاني بالعكس بدون سبب، لكن هكذا لا بد أن الإنسان يركب طبقا ، كذلك في الأمكنة ينزل الإنسان هذا اليوم منزلا وفي اليوم التالي منزلا آخر وثالثا ورابعا إلى أن تنتهي به المنازل في الآخرة، وما قبل الآخرة وهو القبور وهي منازل مؤقتة، القبور ليست هي آخر المنازل بل هي مرحلة ، وسمع أعرابي رجلًا يقرأ قول الله تعالى : (( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ )) فقال الأعرابي : " والله ما الزائر بمقيم " ، يعني الأعرابي بفطرته عرف أن وراء هذه القبور شيئا يكون المصير إليه لأنه كما نعرف الزائر يزور ويمشي.
وبه نعرف أن ما نسمعه في الجرائد: " فلان توفي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير " ، أن هذه الكلمة غلط كبير، ومدلولها كفر بالله عز وجل، كفر باليوم الآخر، لأنك إذا جعلت القبر هو المثوى الأخير فهذا يعني أنه ليس بعده شيء وهذا كفر بالبعث، الذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير فهذا يعني أنه ليس بعده شيء هذا كفر، الذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير وليس بعده مثوى كافر، المثوى الأخير إما جنة وإما نار.
طيب الأول ذكرنا الآن حالين الحال الأولى: الزمان، والثانية المكان.
الثالث: الأبدان، الأبدان يركب الإنسان فيها طبقا عن طبق، واستمع إلى قول الله تعالى: (( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ )) .
أول ما يخلق الإنسان يكون طفلا صغيرا يمكن أن تجمع يديه ورجليه بيد واحدة منك وتحمله بهذه اليد، ضعيف، ثم لا يزال يقوى رويدا رويدا حتى يكون شابا جلدًا قويا ثم إذا استكمل القوة عاد فرجع إلى الضعف.
وقد شبه بعض العلماء حال البدن بحال القمر، يبدو هلالا ضعيفا ثم يكبر شيئا فشيئا حتى يمتلئ نورا، ثم يعود ينقص شيئا فشيئا حتى يضمحل نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
نعم هذا طبق هذه حال الأبدان.
الرابعة: أحوال القلوب، وما أدراك ما أحوال القلوب، أحوال القلوب هي البلية هي المصيبة هي النعمة هي النقمة .
القلوب كل قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، فإن شاء أزاغه وإن شاء هداه، كل قلب، ولما حدَّث النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث قال : ( اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )،
القلوب لها أحوال عجيبة، تارة يتعلق القلب بالدنيا، وتارة يتعلق بشيء من الدنيا، تارة يتعلق بالمال ويكون المال أكبر همه، تارة يتعلق بالنساء وتكون النساء أكبر همه، تارة يتعلق بالقصور والمنازل ويكون ذلك أكبر همه، تارة يتعلق بالمركوبات والسيارات ويكون ذلك أكبر همه، تارة يكون مع الله عز وجل، دائما مع الله يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويرى أن الدنيا كلها وسيلة إلى عبادة الله وإلى طاعة الله، فيستخدم الدنيا لأنها خُلقت له ولا تستخدمه الدنيا.
شوفوا يا إخواني أصحاب الدنيا هل تظنون أن الدنيا تخدمهم أم يخدمونها ؟
نعم هم الذين يخدمونها هم الذين أتعبوا أنفسهم في تحصيلها، لكن أصحاب الآخرة هم الذين استخدموا الدنيا وخدمتهم الدنيا، ولذلك لا يأخذونها إلا عن طريق رضا الله ولا يصرفونها إلا في رضا الله عز وجل، فاستخدموها أخذا وصرفا.
لكن أصحاب الدنيا الذين تعبوا بها سهروا الليالي يراجعون الدفاتر، يراجعون الشيكات، يراجعون المصروفات، يراجعون المدفوعات، يراجعون ما أخذوا وما صرفوا فهؤلاء في الحقيقة استخدمتهم الدنيا ولم يستخدموها.
لكن الرجل المطمئن الذي جعل الله رزقه كفافاً يستغني به عن الناس، ولا يشقى به عن طاعة الله، هذا هو الذي خدمته الدنيا، هذه أحوال القلوب، أحوال القلوب هي أعظم الحالات الأربعة.
ولهذا يجب علينا جميعا وأقوله لنفسي قبلكم: أن نراجع قلوبنا كل ساعة كل لحظة، أين انصرفت أيها القلب، أين ذهبت، لماذا تنصرف عن الله ؟ لماذا تلتفت يمينا وشمالا ؟
ولكن نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وغلب على كثير من الناس حتى إنه ليصرف الإنسان عن صلاته التي هي رأس ماله بعد الشهادتين فتجده إذا دخل في صلاته ذهب قلبه يمينا وشمالا حتى يخرج من صلاته ولم يعقل منها شيئاً، والناس يصيحون يقولون : صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر أين وعد الله ؟
فيقال : يا أخي هل صلاتك صلاة ؟! إذا كنت من حين تكبر تفتح لك أبواب الهواجيس لا نهاية لها فهل أنت مصلي ؟! صليت في جسمك لكن لم تصل في قلبك، وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام : ( إنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها، نصفها ربعها ثلثها عشرها خمسها ) حسب ما تعقل منها.
إذًا فالقلوب تركب طبقا عن طبق.
ثم قال تعالى : (( فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ )) :
(( فما لهم )) : أي شيء يمنعهم من الإيمان، (( وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ )) : أي شيء يمنعهم من الإيمان، وأي شيء يضرهم إذا آمنوا ؟ !
قال مؤمن آل فرعون : (( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ )) : فأي شيء على الإنسان إذا آمن ؟!
ولهذا قال موبخاً لهم : (( فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ )) أي : لا يخضعون لله عز وجل ، فالسجود هنا بمعنى الخضوع لله وإن لم تسجد على الأرض، لكن يسجد قلبك لله ذلا وخضوعا إذا سمعت آياته، وجرب نفسك يا أخي، إذا تلي عليك القرآن هل قلبك يسجد ويلين ويذل، إن كان الأمر كذلك فأنت من المؤمنين، (( إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا )) وإن لم يكن قلبك كذلك ففيك شبه من المشركين الذين إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون.
ومن علامات الخضوع لله عز وجل عند قراءة القرآن أن الإنسان إذا قرأ آية سجدة سجد لله ذلا له وخضوعا له.
وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب السجود أي : سجود التلاوة، وقال : إن الإنسان إذا مر بآية سجدة ولم يسجد كان آثما، والصحيح أنها ليست بواجبة، وإن كان هذا القول أعني القول بالوجوب هو مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لكن هذا قول مرجوح، وذلك أنه ثبت في الصحيح أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( أنه خطب الناس يوما فقرأ سورة النحل فلما وصل آية السجدة نزل من المنبر فسجد، ثم قرأها من الجمعة الثانية فمرَّ بها ولم يسجد، فقال رضي الله عنه : إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء ) ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، وسنته رضي الله عنه من السنن التي أمرنا باتباعها.
وعلى هذا فالقول الراجح أن سجود التلاوة ليس بواجب لكنه سنة مؤكدة، فإذا مررت بآية سجدة فاسجد في أي وقت كنت، في الصباح في المساء في الليل في النهار تكبر عند السجود، وإذا رفعت فلا تكبر ولا تسلم هذا إذا سجدت خارج الصلاة.
أما إن سجدت في الصلاة فلا بد أن تكبر إذا سجدت وأن تكبر إذا نهضت، لأنها لما كانت في الصلاة كان لها حكم سجود الصلاة.
قال الله تعالى : (( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ )): ونقتصر على هذا لأن الوقت الباقي يكون للأسئلة وبقية السورة وإن كنا قد وعدناكم أن نكملها تكون في الجلسة القادمة إن شاء الله .
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأخير في شهر صفر، عام 1414ه، يوم الخميس وبه نختتم ما بقي من سورة الإنشقاق.
فقد انتهينا إلى قول الله تعالى : (( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ )): هذه الجملة مكونة من قسم، ومقسم به، ومقسم عليه، ومُقسم:
فالقسم في قوله : (( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ )): قد يظن الظان أن معنى لا أقسم نفي، وليس كذلك بل هو إثبات، ولا هنا جيء بها للتنبيه، ولو حذفت في غير القرآن لاستقام الكلام، ولها نظائر مثل قوله : (( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ))، (( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ))، (( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ))، (( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ )): وكلها يقول العلماء : إن لا فيها للتنبيه وأن القسم مثبت.
أما المقسِم فهو الله عز وجل، فهو مقسم ومقسَم به، فهو سبحانه مقسِم.
أما المقسَم به في الآية فهو الشفق وما عطف عليه.
فإن قال قائل : لماذا يقسم الله على خبره وهو سبحانه الصادق بلا قسم ؟ وكذلك يقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خبره وهو صادق بلا قسم ؟
قلنا : إن القَسم يؤكد الكلام، والقرآن العربي نزل باللسان العربي، وإذا كان من عادتهم أنهم يؤكدون الكلام بالقسم صار هذا الأسلوب جاريًا على اللسان العربي الذي نزل به القرآن .
وقوله : (( بالشَّفق )): الشفق هو: " الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس " ، وإذا غابت هذه الحمرة خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، هذا قول أكثر العلماء.
وبعضهم قال : إذا غاب البياض، وهو يغيب بعد الحمرة بنحو نصف ساعة، لكن الذي عليه الجمهور ويقال : إن أبا حنيفة -رحمه الله- رجع إليه هو أن الشفق هو الحمرة.
وإذا غاب هذا الشفق فإنه يدخل وقت العشاء ويخرج وقت المغرب.
قال تعالى : (( وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ )) هذا أيضا مقسم به معطوف على الشفق، يعني: وأقسم بالليل وما وسق، وهذان قسمان: الليل وما وسق.
(( والليل )) معروف، فما معنى (( ما وسق )) ؟
أي : ما جمع، لأن الليل يجمع الوحوش والهوام وما أشبه ذلك تجتمع وتخرج تبرز من جحورها وبيوتها، وكذلك ربما يشير إلى اجتماع الناس بعضهم إلى بعض.
(( وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ )) القمر معروف، ومعنى إذا اتَّسق يعني: إذا اجتمع نوره وتم وكمل وذلك في ليالي الإبدار، فأقسم الله عز وجل بالليل وما وسق أي : ما جمع، وبالقمر لأنه آية الليل، ثم قال بعد ذلك : (( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ )) ، والخطاب هنا لجميع الناس أي : لتركبن حالا عن حال، وهو يعني: أن الأحوال تتغير ، فيشمل أحوال الزمان وأحوال المكان وأحوال الأبدان وأحوال القلوب -انتبه- يتضمن أربعة أشياء : (( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ )) ما قلنا فيها ؟
حالًا بعد حال فما هي ؟
قلنا : أحوال الزمان، وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب.
أحوال الزمان نعرف أنها تتنقل، (( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ))، فيوم يكون فيه السرور والانشراح وانبساط النفس، ويوم آخر يكون بالعكس حتى إن الإنسان ليشعر بهذا من غير أن يكون هناك سبب معلوم، وفي هذا يقول الشاعر :
" ويومٌ علينا ويوم لنا *** ويومٌ نُساء ويوم نُسَر " .
وهذا شيء يعرفه منا كل واحد بنفسه تصبح اليوم مستأنس فرح مسرور في اليوم الثاني بالعكس بدون سبب، لكن هكذا لا بد أن الإنسان يركب طبقا ، كذلك في الأمكنة ينزل الإنسان هذا اليوم منزلا وفي اليوم التالي منزلا آخر وثالثا ورابعا إلى أن تنتهي به المنازل في الآخرة، وما قبل الآخرة وهو القبور وهي منازل مؤقتة، القبور ليست هي آخر المنازل بل هي مرحلة ، وسمع أعرابي رجلًا يقرأ قول الله تعالى : (( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ )) فقال الأعرابي : " والله ما الزائر بمقيم " ، يعني الأعرابي بفطرته عرف أن وراء هذه القبور شيئا يكون المصير إليه لأنه كما نعرف الزائر يزور ويمشي.
وبه نعرف أن ما نسمعه في الجرائد: " فلان توفي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير " ، أن هذه الكلمة غلط كبير، ومدلولها كفر بالله عز وجل، كفر باليوم الآخر، لأنك إذا جعلت القبر هو المثوى الأخير فهذا يعني أنه ليس بعده شيء وهذا كفر بالبعث، الذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير فهذا يعني أنه ليس بعده شيء هذا كفر، الذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير وليس بعده مثوى كافر، المثوى الأخير إما جنة وإما نار.
طيب الأول ذكرنا الآن حالين الحال الأولى: الزمان، والثانية المكان.
الثالث: الأبدان، الأبدان يركب الإنسان فيها طبقا عن طبق، واستمع إلى قول الله تعالى: (( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ )) .
أول ما يخلق الإنسان يكون طفلا صغيرا يمكن أن تجمع يديه ورجليه بيد واحدة منك وتحمله بهذه اليد، ضعيف، ثم لا يزال يقوى رويدا رويدا حتى يكون شابا جلدًا قويا ثم إذا استكمل القوة عاد فرجع إلى الضعف.
وقد شبه بعض العلماء حال البدن بحال القمر، يبدو هلالا ضعيفا ثم يكبر شيئا فشيئا حتى يمتلئ نورا، ثم يعود ينقص شيئا فشيئا حتى يضمحل نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
نعم هذا طبق هذه حال الأبدان.
الرابعة: أحوال القلوب، وما أدراك ما أحوال القلوب، أحوال القلوب هي البلية هي المصيبة هي النعمة هي النقمة .
القلوب كل قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، فإن شاء أزاغه وإن شاء هداه، كل قلب، ولما حدَّث النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث قال : ( اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )،
القلوب لها أحوال عجيبة، تارة يتعلق القلب بالدنيا، وتارة يتعلق بشيء من الدنيا، تارة يتعلق بالمال ويكون المال أكبر همه، تارة يتعلق بالنساء وتكون النساء أكبر همه، تارة يتعلق بالقصور والمنازل ويكون ذلك أكبر همه، تارة يتعلق بالمركوبات والسيارات ويكون ذلك أكبر همه، تارة يكون مع الله عز وجل، دائما مع الله يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويرى أن الدنيا كلها وسيلة إلى عبادة الله وإلى طاعة الله، فيستخدم الدنيا لأنها خُلقت له ولا تستخدمه الدنيا.
شوفوا يا إخواني أصحاب الدنيا هل تظنون أن الدنيا تخدمهم أم يخدمونها ؟
نعم هم الذين يخدمونها هم الذين أتعبوا أنفسهم في تحصيلها، لكن أصحاب الآخرة هم الذين استخدموا الدنيا وخدمتهم الدنيا، ولذلك لا يأخذونها إلا عن طريق رضا الله ولا يصرفونها إلا في رضا الله عز وجل، فاستخدموها أخذا وصرفا.
لكن أصحاب الدنيا الذين تعبوا بها سهروا الليالي يراجعون الدفاتر، يراجعون الشيكات، يراجعون المصروفات، يراجعون المدفوعات، يراجعون ما أخذوا وما صرفوا فهؤلاء في الحقيقة استخدمتهم الدنيا ولم يستخدموها.
لكن الرجل المطمئن الذي جعل الله رزقه كفافاً يستغني به عن الناس، ولا يشقى به عن طاعة الله، هذا هو الذي خدمته الدنيا، هذه أحوال القلوب، أحوال القلوب هي أعظم الحالات الأربعة.
ولهذا يجب علينا جميعا وأقوله لنفسي قبلكم: أن نراجع قلوبنا كل ساعة كل لحظة، أين انصرفت أيها القلب، أين ذهبت، لماذا تنصرف عن الله ؟ لماذا تلتفت يمينا وشمالا ؟
ولكن نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وغلب على كثير من الناس حتى إنه ليصرف الإنسان عن صلاته التي هي رأس ماله بعد الشهادتين فتجده إذا دخل في صلاته ذهب قلبه يمينا وشمالا حتى يخرج من صلاته ولم يعقل منها شيئاً، والناس يصيحون يقولون : صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر أين وعد الله ؟
فيقال : يا أخي هل صلاتك صلاة ؟! إذا كنت من حين تكبر تفتح لك أبواب الهواجيس لا نهاية لها فهل أنت مصلي ؟! صليت في جسمك لكن لم تصل في قلبك، وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام : ( إنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها، نصفها ربعها ثلثها عشرها خمسها ) حسب ما تعقل منها.
إذًا فالقلوب تركب طبقا عن طبق.
ثم قال تعالى : (( فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ )) :
(( فما لهم )) : أي شيء يمنعهم من الإيمان، (( وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ )) : أي شيء يمنعهم من الإيمان، وأي شيء يضرهم إذا آمنوا ؟ !
قال مؤمن آل فرعون : (( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ )) : فأي شيء على الإنسان إذا آمن ؟!
ولهذا قال موبخاً لهم : (( فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ )) أي : لا يخضعون لله عز وجل ، فالسجود هنا بمعنى الخضوع لله وإن لم تسجد على الأرض، لكن يسجد قلبك لله ذلا وخضوعا إذا سمعت آياته، وجرب نفسك يا أخي، إذا تلي عليك القرآن هل قلبك يسجد ويلين ويذل، إن كان الأمر كذلك فأنت من المؤمنين، (( إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا )) وإن لم يكن قلبك كذلك ففيك شبه من المشركين الذين إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون.
ومن علامات الخضوع لله عز وجل عند قراءة القرآن أن الإنسان إذا قرأ آية سجدة سجد لله ذلا له وخضوعا له.
وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب السجود أي : سجود التلاوة، وقال : إن الإنسان إذا مر بآية سجدة ولم يسجد كان آثما، والصحيح أنها ليست بواجبة، وإن كان هذا القول أعني القول بالوجوب هو مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لكن هذا قول مرجوح، وذلك أنه ثبت في الصحيح أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( أنه خطب الناس يوما فقرأ سورة النحل فلما وصل آية السجدة نزل من المنبر فسجد، ثم قرأها من الجمعة الثانية فمرَّ بها ولم يسجد، فقال رضي الله عنه : إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء ) ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، وسنته رضي الله عنه من السنن التي أمرنا باتباعها.
وعلى هذا فالقول الراجح أن سجود التلاوة ليس بواجب لكنه سنة مؤكدة، فإذا مررت بآية سجدة فاسجد في أي وقت كنت، في الصباح في المساء في الليل في النهار تكبر عند السجود، وإذا رفعت فلا تكبر ولا تسلم هذا إذا سجدت خارج الصلاة.
أما إن سجدت في الصلاة فلا بد أن تكبر إذا سجدت وأن تكبر إذا نهضت، لأنها لما كانت في الصلاة كان لها حكم سجود الصلاة.
قال الله تعالى : (( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ )): ونقتصر على هذا لأن الوقت الباقي يكون للأسئلة وبقية السورة وإن كنا قد وعدناكم أن نكملها تكون في الجلسة القادمة إن شاء الله .