شرح باب حسن الخلق من رياض الصالحين للحافظ النووي. حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
قال المؤلف الحافظ النووي -رحمه الله- في كتابه * رياض الصالحين * : في باب حسن الخلق :
" ما نقله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) " :
وكان قد خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، جاءت به أمه حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فقالت : ( يا رسول الله هذا أنس بن مالك يخدمك ) : فقبل عليه الصلاة والسلام أن يخدمه لله ودعا له أن يبارك الله له في ماله وولده ، فبارك الله له في ماله وولده ، حتى قيل : إنه كان له بستان يثمر في السنة مرتين من بركة المال الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم به.
أما أولاده فبلغوا مائة وعشرين ولدًا، أولاده لصلبه، كل هذا ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول : ( إنه ما مسَّ ديباجًا ولا حريراً ألين من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : فكانت يده صلى الله عليه وسلم لينة ، إذا مسها الإنسان فإذا هي لينة.
وكما ألان الله يده فقد ألان الله سبحانه وتعالى قلبه قال الله تعالى : (( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ )) يعني: صرت لينا لهم .
(( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه )) .
يقول : ( خدم النبي صلى الله عليه وسلم ) نعم ، وكذلك أيضًا رائحته صلى الله عليه وسلم: ( ما شم طيباً قط أحسن من رائحة النبي صلى الله عليه وسلم ) ، وكان عليه الصلاة والسلام طيب الريح كثير استعمال الطيب ، قال : ( حُبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة ) وهو نفسه طيب عليه الصلاة والسلام ، حتى كان الناس يتبادرون إلى أخذ عرقه عليه الصلاة والسلام من حسنه وطيبه ، ويتبركون بعرقه ، لأن من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام أننا نتبرك بعرقه وبريقه وبثيابه ، أما غير الرسول فلا ، غير الرسول ما تتبرك بعرقه ولا بثيابه ولا بريقه.
يقول : ( ولقد خدمت النبيَّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ) يعني : ما تضجر منه أبدًا ، عشر سنوات يخدمه ما تضجر منه ، الواحد منا إذا خدمه أحدٌ أو صاحبه أحد لمدة أسبوع أو نحوها لا بد أن يجد منه تضجراً، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام عشر سنوات وهذا الرجل يخدمه ومع ذلك ما قال له أف قط.
( ولا قال لشيء فعلتُه لم فعلت كذا ؟ ) : حتى الأشياء التي يفعلها أنس اجتهادًا منه ما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يؤنبه أو يوبخه أو يقول لم فعلت كذا مع أنه خادم ، وكذلك ما قال لشيء لم أفعله لم لم تفعل كذا وكذا ؟ فكان عليه الصلاة والسلام يعامله بما أرشده الله سبحانه وتعالى إليه في قوله : (( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ )) أتدرون ما العفو ؟
العفو: ما عفا من أخلاق الناس وما تيسر، يعني : خذ من الناس ما تيسر لا تريد أن يكون الناس لك على ما تريد في كل شيء ، من أراد أن يكون الناس له على ما يريد في كل شيء فاته كل شيء ، ولكن خذ ما تيسر ، عامل الناس بما إن جاءك قبلت وإن فاتك لم تغضب ، ولهذا قال: ( ما قال لشيء لم أفعله لمَ لم تفعل كذا وكذا ؟ ) ، وهذا من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام .
ومن حسن خلقه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يداهن الناس في دين الله ولا يفوته أن يطيب قلوبهم ، فالصعب بن جثَّامة رضي الله عنه مرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم مُحرم ، وكان الصعب بن جثامة عدَّاءً رامياً ، عدَّاء يعني سبوقا ، راميًا يعني يجيد الرمي ، فلما نزل به النبي صلى الله عليه وسلم ضيفا رأى أنه لا أحد أكرم ضيفا منه فذهب يصيد للرسول عليه الصلاة والسلام صيدا ، فصاد له حمار وحشي ، وكان في الجزيرة العربية في ذلك الوقت فيها كثير من الصيد لكنها قلَّت ، صاد له حمار وحش وجاء به إليه فرده النبي صلى الله عليه وسلم ، رده ، فصَعُب ذلك على الصعب كيف يرد النبي صلى الله عليه وسلم هديته ؟ !
فتغير وجهه فلما رأى ما في وجهه طيَّب قلبه وقال : ( إنا لم نردَّه عليك إلا أنا حُرُم ) يعني: محرمون، والمحرم لا يأكل من الصيد الذي صيد من أجله،
يعني لو أن محرمًا مرَّ بك وأنت في بلدك وهو محرم وصدت له صيدًا أو ذبحت له صيدًا عندك فإنه لا يحل له أن يأكل منه ، وذلك لأنه ممنوع من أكل ما صيد من أجله ، أما إذا لم تصده من أجله فالصحيح أنه حلال له، إذا لم تصده لأجله، ولهذا أكل النبي صلى الله عليه وسلم من الصيد الذي صاده أبو قتادة رضي الله عنه، لأنه أي: أبا قتادة لم يصده من أجل الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا أحسن ما قيل في هذه المسألة :
" أنه إذا صيد الصيد من أجل المحرم كان حراماً عليه، وإن صاده الإنسان لنفسه وأطعم منه المحرم فلا بأس " .
وقال بعض العلماء : إن المحرم لا يأكل من الصيد مطلقا صِيد من أجل أم لم يُصَد ، قالوا : لأن حديث الصعب بن جثَّامة متأخر عن حديث أبي قتادة ، فإن حديث أبي قتادة كان في غزوة الحديبية في السنة السادسة وحديث الصعب بن جثامة في حجة الوداع في السنة العاشرة ويؤخذ بالآخر فالآخر ، ولكن القاعدة الأصولية الحديثية تأبى هذا القول، لأنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، فإذا أمكن الجمع فلا نسخ، والجمع هنا ممكن وهو أن يقال : إن صِيد لأجل المحرم فحرام، وإن صاده الإنسان لنفسه وأطعم منه المحرم فلا بأس.
ويؤيد هذا حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صيد البرِّ حلال لكم ما لم تصيدوه أو يُصَد لكم ) وهذا تفصيل واضح، ( ما لم تصيدوه أو يصد لكم ).
الحاصل أن هذا الحديث حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه فيه فائدتان عظيمتان :
الأولى : أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يداهن أحدًا في دين الله، وإلا كان قَبِل الهدية من الصعب وسكت إرضاء له ومداهنة له لكنه عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يفعل هذا .
الثاني : أنه ينبغي للإنسان أن يجبر خاطر أخيه إذا فعل معه ما لا يحب ويبين له السبب لأجل أن تطيب نفسه ويطمئن قلبه فإن هذا من هدي نبيك صلى الله عليه وسلم ، والله الموفق .