تكملة باقي الشريط من شرح كتاب الأحكام من صحيح البخاري . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم:
قال البخاري -رحمه الله- : " كتاب الأحكام " :
الأحكام جمع حكم، وهو إثبات شيء لآخر، هذا هو الحكم، وله اصطلاحات في أصول الفقه معروفة: حكم تكليفي وحكم وضعي.
والمراد به هنا: أحكام الإمامة وما يجب على الإمام وما يجب له.
وهذا باب مهم جدًّا ينبغي لطالب العلم أن يعتني به، لئلا يقع في مزالق الخوارج ومن تفرع منهم، الذين فسد بهم الدين والدنيا -نعوذ بالله- ، فإذا عرف الإنسان ما يجب للحاكم وما يجب عليه تبين له الحق ، وصار لا يتكلم إلا عن بصيرة ، ثم إذا قُدر أن الحاكم لم يقم بما عليه فالواجب على المحكوم أن يقوم بما يجب عليه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أعطوهم الحق الذي لهم، واسألوا الحق الذي لكم فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم )، وهذا الكتاب الذي ترجم له البخاري -رحمه الله- مهم، لاسيما في هذا الوقت الذي كثر فيه الشر، وكثر فيه الثائرون على ولاة الأمور، والذين نراهم إذا تولوا بعد ولاة الأمور صاروا شرًّا منهم وأخبث منهم، فلذلك يجب على علينا أن نعتني به، وأن نحرر أحكامه حتى لا نهلك.
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام، بل قال البخاري -رحمه الله- فنبدأ بالآية: قول الله تعالى: و(( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ )) ، وهذه قبلها : (( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا )): ويش بعدها ؟
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )) : وفي هذا نعرف أن صواب الآية : (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )) ، أو يؤتى بأولها : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )) أما بهذا اللفظ الذي ذكره الذي موجود في * صحيح البخاري * : وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فليس كذلك.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ )) : الطاعة موافقة الأمر، وإن شئت فعبر بما هو أعم وقل: " الطاعة موافقة الحكم " ، وجه كونه أعم ؟
لأنك إذا قلت موافقة الأمر خرج النهي ، فإذا قلت موافقة الحكم دخل فيه الأمر والنهي ، فهذه هي الطاعة.
وقوله تعالى: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )) : فأفرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالطاعة قال: (( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ))، ولم يجعلها عطفا على قوله: (( أَطِيعُوا اللَّهَ )) : فدل هذا على أن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم طاعة مستقلة .
(( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )) حذف منها الفعل لتكون تابعة لما قبلها ، لم يقل : أطيعوا أولي الأمر، قال : (( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )) ، لأن طاعتهم تابعة لطاعة الله ورسوله ، بل لا تجب طاعتهم إلا لأنها طاعة لله ولرسوله لا لأنه فلان بن فلان ، بل لأنها طاعة لله ورسوله ، ولهذا ينبغي للإنسان إذا أطاع ولي الأمر في أمرٍ أمر به أن ينوي بذلك التعبد لله وأنه مطيع لله، أنه أطاع ولي الأمر طاعة لله، لأن هذا هو الأصل.
وقوله : (( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )) يتضمن نوعين من ولاة الأمور :
الأول : العلماء.
والثاني : الأمراء ، لأن على العلماء البيان ، وعلى الأمراء التنفيذ ، وعلى هذا فيكون الأمراء تابعين للعلماء لأنهم منفذون لما يقول العلماء فهم أهل الشأن في هذا الأمر ، وإن كان كل منهم ولي أمر ، لكن العلماء هم الأصل ، إذا بينوا الشرع لزم الأمراء العمل به ، فإن لم يعملوا به لم يكونوا طائعين لله ورسوله ، ثم إن أمروا بخلافه فمعصيتهم واجبة ، إن أمروا بترك واجب أو فعل محرم.
فالحاصل أن ولاة الأمور هم العلماء والأمراء :
العلماء إيش وظيفتهم ؟
البيان والإرشاد والدلالة، والأمراء وظيفتهم التنفيذ: تنفيذ أحكام الله على عباد الله حتى تصلح الأرض .
وقوله: (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ )) : وهذا مما يؤيد أن مقام العلماء هنا أقدم وأقوى من مقام الأمراء ، لأن المنازعات إنما تكون بين العلماء والفقهاء ، وإن كانت تحصل بين الأمراء لكن هي بين العلماء والفقهاء أكثر.
(( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ )) : وهذا الشرط من باب الحث والإغراء ، يعني : إن كنتم صادقين في الإيمان فلا يكون مرجعكم إلا إلى الله والرسول، إلى الله إلى كتابه، والرسول إلى سنته حياَ وميتاً ، وقول بعض العلماء : " إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته ": فهذا من باب الإيضاح، وإلا حتى الرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته رجوع إلى سنته.
(( ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) : خير في الحاضر ، وأحسن تأويلا في المستقبل، لأن تأويلا هنا بمعنى: مآلا وعاقبة ، فالرجوع إلى الرسول خير للناس في معاشهم وخير للناس في معادهم حاضرًا ومستقبلًا.
قد يظن بعض الجهلة أن التمسك بالدين رجوع إلى الوراء ، وربما يصرح بعض الملحدين بذلك ويقول: إنه لا يمكن أن نرجع إلى منهج له أربعةَ عشر قرنًا انقرض أهله ولم يعيشوا هذه العيشة الحاضرة، والحضارة التي نسميها إذا خلت من الشرع : حقارة وليست حضارة ، يقولون : إن الدين لا يمكن تطبيقه الآن اختلفت الأمور ، الدين الذي بينك وبين ربك لا بأس امش على ما كان عليه الرسول وأصحابه ، أما المنهاج الحيوي الاقتصادي الاجتماعي فهذا خاضع للزمان والمكان والأمم ، ولا يمكن أن نرجع بالأمة إلى ما قبل أربعة عشر قرنًا ، لكن والله لو رجعوا إلى ما قبل أربعة عشر قرنًا لفاقوا الأمم الموجودة الآن ، ولملكوا رقابهم وأراضيهم وأموالهم .
لكن إنما تخاطب بمثل هذا الكلام قومًا لا يؤمنون ، ولو آمنوا لسَهُل عليهم الرجوع (( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى )) حتى فيما بينك وبين أولادك أيضًا ، لا تظن أننا نخاطب بهذا أو نتكلم بهذا عن ولاة الأمور الكبار الذين يملكون زمام القيادة في الأمة ، حتى أنت في نفسك طبق ما توجه به أهلك على ما جاء عن السلف فإن هذا خير وأحسن تأويلا.
وفي قوله عز وجل : (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ )) إشارة إلى أنه ليس العبرة بالكثرة ، العبرة بما وافق ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ، لو كان عشرين على رأي وخمسة على رأي مطابق للكتاب والسنة لكان الواجب علينا أن نرجع إلى الخمسة ، وليس العبرة بالكثرة .
لكن نظرًا إلى أن الناس كما يقول العامة: " السوق متساوق " ، قالوا : إذًا لا نرجح أحدًا على أحد ونأخذ بالكثرة في غالب مجالسنا ، وإلا فالواجب الرجوع إلى ما جاء في الكتاب والسنة ولو لم يكن عليه إلا واحد من الألف.
ثم قال المؤلف : " حدثنا عبدان إلى أن قال : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، قَالَ : ( مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) " :
وهذا كقوله تعالى : (( من يطع الرسول فقد أطاع الله )).
( وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ) : يؤخذ من مفهوم قوله تعالى : (( من يطع الرسول فقد أطاع الله )) ، أي : ومن يعص الرسول فقد عصى الله.
( وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي ) : أميري الذي أمَّرته ومشى بمقتضى ما وجهته به ولهذا قال : ( أميري ) ، وإن كان يرد في بعض الأحيان أميره أو الأمير بأل ، لكن المراد الأمير الذي على مثل من أمره الرسول عليه الصلاة والسلام .
( فقد أطاعني وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي ) : لأن أمير النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمشي بأمره ويهتدي بهديه ، ولا يعني ذلك أن أمراءه معصومون ، هم معرضون للخطأ ، لكن الأصل فيهم أعني: الأمراء الذين يؤمرهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ىلأصل فيهم الصلاح والإصابة نعم .
القارئ : قال : " حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال : ( أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالإِمَامُ الأعظم الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ) " .
الشيخ : كرر هذا مرتين عليه الصلاة والسلام تأكيدًا أنَّ كل إنسان منا راع ومسؤول عن رعيته، حتى الرجل راعٍ على نفسه ومسؤول عن رعيته.
مسؤول عن شبابه فيما أفناه بأي شيء أفنيت شبابك؟
إذًا أنت مسؤول عن نفسك لأنك راع عليها، كل إنسان راع ومسؤول عن رعيته.
وأعظم الناس مسؤولية الإمام وهو رئيس الدولة، هذا أعظم الناس مسؤولية، يسأل ليس عن أهله الذين تحت إمرته وفي قصوره، ولكن عن كل واحد، كل واحد من الأمة هو مسؤول عنها، حتى إن أمير المؤمنين عمر قال: " والله لو مات عناق في دجلة أو في الفرات لكان عمر مسؤولا عنه " ، وهو عناق صغير الغنم مسؤول عنه.
فالإمام مسؤوليته عظيمة جدًّا، والحقيقة كما قال بعض الناس: أن الولاية العامة ليست تشريفًا ولكنها إشقاق وتكليف، ولاسيما في مثل زماننا هذا الذي كثرت فيه الفتن، وكثر فيه الانحراف، وكثرت فيه الضغوط، فالمسؤولية عظيمة.
يقول عليه الصلاة والسلام أيضاً: ( الرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وكل منهما مسؤول ) : قد يظهر في هذا تناقض كيف يكون الرجل مسؤولا عن أهل بيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها ؟
نقول : نعم الرجل راع على أهل بيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها ، لكن تختلف الرعاية : المرأة راعية في بيتها فيما يختص بالبيت وشؤون البيت ، والرجل راعٍ فيما سوى ذلك .
والرعاية الكبرى للرجل لقوله تعالى : (( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض )) : فلو فرض أن المرأة تخل برعايتها في بيتها فهو مسؤول إذا علم ، ووجه ذلك : أن كل إنسان مسؤول عن رعاية ما يباشر رعايته .
ثم قال : ( وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ) يعني : لو أن الرجل له عبد وأعطاه مالا يتجر به ، أو له عبد وأعطاه إبلا يرعاها أو غنما يرعاها فهو راع على مال السيد ومسؤول عن رعيته.
وقوله : ( مال سيده ) لأن العبد لا يملك ، حتى لو ملك فإنه لا يملك ، لو جاء شخص للعبد وقال : خذ يا ولدي هذه عباءة لك في الشتاء تدفأ بها فمن تكون له العباءة ؟
السيد ، السيد لو قال لعبده : يا غلام العباءة لك تدفأ بها في الشتاء فالعباءة للسيد.
ولهذا نقول : إن عبارة بعض العلماء الذي يقول : " لا ربا بين السيد وعبده " ، هذه لا تصح في الحقيقة إلا إذا قلنا بأن العبد يملك بالتمليك كما هو أحد القولين في المسألة والصحيح أنه لا يملك .