تفسير سورة الطارق من قوله :"والسماء والطارق" إلى قوله:"إن كل نفس لمّا عليها حافظ ". حفظ
الشيخ : الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
فهذا اللقاء الثاني، لشهر جمادى الأولى، عام أربعة عشر، وأربعمائة وألف، الذي تقرر أن يكون أسبوعيًا كل خميس.
نسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يجعل عملنا جميعا خالصا لوجهه الكريم، فنذكر الكلام على قول الله تبارك وتعالى:
(( وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ )) :
هذه آيات كريمة تتضمن القسم بالسماء وبالطارق:
أما السماء فهي معروفة وأقسم الله سبحانه وتعالى بها لعظمتها وقوتها واتِّساعها وارتفاعها ودلالتها على خالقها جل وعلا وما له من العظمة والحكمة التي تبهر العقول ، قال الله تبارك وتعالى : (( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ )) .
وقال تعالى : ((وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً )) .
وقال تعالى : (( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ )) ، والآيات في ذكر السماء وما تتضمنه من الدلالة على قدرة الله وعظمته وحكمته كثيرة في كتاب الله ، ولهذا كانت جديرة بأن يقسم الله تعالى بها.
أما القَسَم الثاني فهو : الطارق ، أقسم الله تعالى بالطارق وهو النجم ، وسمي طارقا لأنه لا يتبين إلا بالليل ، والطارق في اللغة العربية هو القادم ليلاً كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( أنه نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا )، فسمي النجم بذلك لأنه لا يتبين ضوؤه إلا في الليل فسمي طارقًا.
وليس هذا الوصف خاصاً بالثُّريا ولكنه عام لكل نجم، سواء كان نوره قويا أو كان نوره خفيًا.
وأقسم الله تعالى بالنجوم ، لأنها زينة للسماء ورجوم للشياطين التي تسترق السمع وعلامات يهتدى بها، كما قال تعالى : (( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ )) .
وقال تعالى : (( وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ )) : فبالنجم يهتدي الخلق إلى الجهات الأربع الشمال والجنوب والشرق والغرب ويهتدون أيضًا إلى اتجاه القبلة كما يعرف ذلك من يمارس هذا الاستدلال ، وإن كان الناس في عصرنا هذا نظرا لوجود الآلات التي تعين هذا بدون كلفة ولا مشقة قد غفلوا عن هذه العلامات، ولكنها لا تزال موجودة يعرفها من تتبعها وشاهدها وسبر سيرها.
قال تعالى : (( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ )) :
(( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ )) : هذا استفهام تفخيم ، يعني : أي شيء أعلمك بهذا الطارق الذي هو النجوم ؟
ثم بينه عز وجل بقوله : (( النَّجْمُ الثَّاقِبُ )) أي : هو النجم الثاقب الذي يثقب الظلام بضيائه ، مأخوذ من ثَقبِ المسمار للخشبة ، فهو يشق الظلام حتى يصل بنوره إلى الأرض ، وهذا لا يتبين في وقتنا الحاضر ، لأن الأرض مملوءة بأنوار الكهرباء ، ولكن لو خرجت إلى البر بعيدًا عن مواضع الكهرباء لرأيت إضاءة النجوم على الأرض ظاهرة ، ويتبين ظهورها فيما إذا أظلمت السماء بالغيوم حيث تكون الأرض مظلمة أشد ، ولهذا سمَّى الله سبحانه وتعالى النجم بالثاقب ، لأنه يثقب الظلام بضيائه أي : يخرقه حتى يصل إلى الأرض.
ثم بين الله المـُقسم عليه بقوله : (( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ )) : إن هنا بمعنى ما ، وكلما جاءت إلا بعد إن فإن إن بمعنى ما ، يعني : ما كل نفس .
ولما هنا بمعنى إلا ، أي : ما كل نفس إلا عليها حافظ كل نفس عليها حافظ (( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ )) ، وكل نفس عليها حافظ يكتب ما يفعله الإنسان ، (( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ )) .
وإنما أخبرنا الله عز وجل بذلك وأقسم عليه مؤكدا له من أجل أن نحذر وأن نتجنب كل ما يكتب علينا من المعاصي إما بتركه من الأصل ، وإما بالتوبة منه إن وقع منا ، ( وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) .
فالمؤمن إذا علم أن عليه حافظا يكتب ما يقول ويفعل فإنه لا شك يحذر ويخاف أن يُكتب عليه ما يفعله من المعاصي والمخالفات كما قال الله تبارك وتعالى في سورة ق: (( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )).
ونقتصر على هذا القدر من الكلام على هذه الآيات الكريمة لنوفر الوقت للإجابة على الأسئلة كما اقترحه أحد الإخوان، فنبدأ بمن على اليمين .