تفسير قول الله تعالى: [إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ] إلى قوله :[فعال لما يريد ]. حفظ
الشيخ : الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الأخير من شهر جمادى الأولى، عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، الذي يتم في كل خميس من كل أسبوع، نبدأ هذا اللقاء بما كنا نبدأ به أولاً من تفسير القرآن الكريم.
وقد وصلنا إلى قوله تعالى في سورة البروج: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ )):
الذين آمنوا: هم الذين آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فإن هذا هو الإيمان كما فسّره النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم حين سأله جبريل عن الإيمان، فقال: ( أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره ).
وأما قوله: (( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )) فالمراد: عملوا الأعمال الصّالحة، والأعمال الصّالحة هي التي بنيت على الإخلاص لله، واتباع شريعة الله، فمَن عمل عملاً أشرك به مع الله غيره فعملُه مردودٌ عليه، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يرويه عن ربّه أنّه تعالى قال: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركَه ).
وأمّا المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فإنّ مَن عمل عملاً ليس على شريعة الله فإنّه باطل مردود، لقول النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، وبناءً على ذلك تكون عبادة المرائي الذي يعبد الله لكن يرائي الناس، أي: يُظْهِر العبادة ليراه الناس فيمدحوه، هو لا يريد التقرّب إلى الناس، بل يريد التّقرّب إلى الله، لكن يريد أن يمدحه الناس على تقربه إلى الله وعبادته لله، فهذا مُرائي وعمله مردود أيضاً.
كذلك مَن تكلم بكلام قرآنٍ، أو ذِكْرٍ، ورفع صوته ليسمعه النّاس فيمدحوه على ذكره لله، فهذا أيضاً مُراءئي، وعمله مردود عليه لأنه أشرك فيه مع الله غيره، أراد أن يمدحه الناس على عبادة الله.
أما من تعبّد للنّاس، فهذا مشركٌ شركاً أكبر، يعني من قام يصلّي أمام شخص تعظيماً له لا لله، وركع للشّخص وسجد للشّخص فهذا مشرك شركاً أكبر مخرج عن الملة.
وكذلك أيضا مَن ابتدع في دين الله ما ليس منه، كما لو رتَّب أذكاراً معيّنة في وقت معيّن، فإنّ ذلك لا يُقْبَل منه حتّى ولو كان ذكرَاً لله، ولو كان تسبيحاً أو تحميداً، أو تكبيراً أو تهليلاً لكنه رتبه على وجه لم ترد به السنة، فإن ذلك ليس مقبولاً عند الله عزَّ وجلَّ، لأنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، فالمهمّ أنّ الله اشترط مع الإيمان العمل الصّالح.
وبهذا نعرف أنّه لا ينبغي لنا أن نركّز دائماً على العقيدة، ونقول: نحن على عقيدة إسلاميّة، وعلى كذا، وعلى كذا، ولم نذكر العمل، لأنّ مجرّد العقيدة لا يكفي، لا بد من العمل، فينبغي عندما نذكر أننا على العقيدة الإسلامية أن نقول: ونعمل العمل الصالح، لأن الله يقرن دائماً بين الإيمان المتضمن للعقيدة وبين العمل الصالح حتى لا يخلو الإنسان من عمل صالح.
أما مجرد العقيدة فلا ينفع، فلو أن إنساناً يقول: أنا مؤمن بالله، لكنه لا يعمل، أين الإيمان بالله؟! ولهذا كان القول الرّاجح من أقوال العلماء: أنّ تارك الصّلاة كافر كفراً مخرجًا عن الملة، وقد بينا أدلّة ذلك في رسالة لنا صغيرة، وكذلك أيضا يمر علينا في *نور على الدرب* أسئلة حول هذا الموضوع، ونبيّن الأدلّة بما يغني عن إعادتها هنا.
(( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ )) لَهُمْ: يعني عند الله.
(( جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ )): وذلك بعد البعث، فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهذا قال الله تعالى: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )).
وقال الله في الحديث القدسي: ( أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )، لأن فيها من النعيم ما لا يتصوره الإنسان، والله تعالى يذكر فيها أي في الجنات نخلاً، ورماناً، وفاكهةً، ولحمَ طير، وعسلاً، ولبناً، وماءً، وخمراً، لكن لا تظنوا أنّ حقائق هذه الأشياء كحقائق ما في الدنيا، أبداً، لأنها لو كانت حقائقها كحقائق ما في الدنيا لكنا نعلم ما أخفي لنا من هذا، ولكنّها أعظم وأعظم بكثير ممّا تتصوّره، فالرّمّان وإن كنّا نعرف معنى الرّمّان ونعرف أنّه على شكل معيّن، وطعم معيّن، وذو حبّات معيّنة، لكن ليس الرّمّان الذي في الآخرة كهذا، هو أعظم بكثير، لا من جهة الحجم، ولا من جهة اللون، ولا من جهة المذاق، لكن كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء " فقط، أما الحقائق فهي غير معلومة.
وقوله: (( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ )) قال العلماء: من تحتها: أي: من تحت أشجارها وقصورها، وإلا فهي على السطح فوق، ثم هذه الأنهار جاء في الأحاديث أنها لا تحتاج إلى حفر، ولا تحتاج إلى بناء أخدود، وفي هذا يقول ابن القيم في النونية:
" أنهارها في غير أخدود جـرت *** سبحان ممسكها عن الفيضانِ ".
الأنهار المعروف عندنا أنها تحتاج إلى حفر أو إلى أخدود تمنع من تسرب الماء يميناً وشمالاً لكن في الجنة لا تحتاج إلى أخدود، تجري حيث شاء الإنسان، يعني يوجّهها كما شاء، بدون حفر وبدون إقامة أخدود.
والأنهار هنا وفي آيات كثيرة مجملة، لكنها فُصِّلت في سورة القتال، سورة محمد قال: (( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً )).
(( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ )): (( ذَلِكَ )): المشار إليه الجنات وما فيها من النعيم.
(( الْفَوْزُ الْكَبِيرُ )) يعني الذي به النجاة من كل مرهوب، وحصول كل مطلوب، لأنّ الفوز هو عبارة عن حصول المطلوب، وزوال المكروه. والجنة كذلك، فيها كلّ مطلوب، وقد زال عنها كلّ مرهوب، فلا يذوقون فيها الموت، ولا المرض، ولا السّقم، ولا الهمّ، ولا النّصب، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
ثمّ قال تعالى: (( إن بطش ربك لشديد* إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ )):
بَطْشَ: يعني أخذه العقاب شديد، كما قال تعالى: (( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )).
فبَطْشُ الله يعني: انتقامُه وأخذُه شديدٌ عظيم، ولكنه لمن يستحق ذلك، أمّا من لا يستحق ذلك فإن رحمة الله تعالى أوسع، ما أكثر ما يعفو الله من الذّنوب! ما أكثر ما يستر الله من العيوب! ما أكثر ما يدفع الله من النّقم! وما أكثر ما يجري من النّعم! لكن إذا أخذ الظالم لم يُفْلِته، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنّ الله ليُمْلِي للظّالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه )، وتلا قوله تعالى: (( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ))، وعلى هذا فنقول: (( بَطْشَ رَبِّكَ ))، أي: فيمن يستحق البطش، أمّا من لا يستحقه فإنّ الله تعالى يعامله بالرّحمة، ويعامله بالكرم، ويعامله بالجود، ورحمة الله تعالى سبقت غضبه.
(( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ )) أي: إنّ الأمر إليه ابتداءً وإعادة، وهذا كقوله تعالى: (( وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ )) فهو الذي بدأ الأشياء، وإليه تنتهي الأشياء، الأشياء منه وإليه في كل شيء، الخلق من الله وإليه، الشرائع من الله وإليه، كلّ الأمور من الله وإليه، ولهذا قال: (( يُبْدِئُ )) ولم يذكر ما الذي يبدؤه، فمعناه أنه يبدئ كل شيء، ويعيد كل شيء، فكل الأمر بيده عزَّ وجلَّ.
فأنت اعرف أصلك من أين أنت وأنك ابتدأت من عدم، واعرف منتهاك وغايتك، وأن غايتك إلى الله عزَّ وجلَّ.
(( إنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد* وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ )):
وَهُوَ الْغَفُورُ يعني: ذا المغفرة، والمغفرةُ: سَتْرُ الذنب والعفوُ عنه، فليست المغفرةُ سترَ الذنب فقط بل سترُه وعدمُ المؤاخذة عليه، كما جاء في الحديث الصحيح: ( إنّ الله يخلو بعبده المؤمن يوم القيامة ويقرره بذنوبه، حتى يقر بها ويعترف، فيقول الله عزَّ وجلَّ: قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ).
ذنوبنا كثيرة: ذنوب قلبية، وذنوب قولية، وذنوب فعلية، ما أكثرها! لكن الله تعالى ولله الحمد يسترها، ويُذكر: " أن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد منهم ذنباً وَجَدَهُ مكتوباً على باب بيته "، فضيحةً وعاراً والعياذ بالله، لكننا نحن ولله الحمد قد ستر الله علينا، فنتوب إلى الله، ونستغفر من الذنوب، فتمحى آثارها نهائياً، ولهذا قال: (( وَهُوَ الْغَفُورُ )): أي الساتر لذنوب عباده، المتجاوز عنها.
(( الْوَدُودُ )): مأخوذة من الودّ، والودّ: هو خالص المحبة، فهو جلَّ وعَلا ودود. وما معنى ودود؟ هل معناه أنه محبوبٌ، أو أنه حابٌّ؟
الجواب: يشمل الوجهين جميعاً، قال الله تبارك وتعالى: (( يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )) ، فهو جلَّ وعَلا وادٌّ يحبّ الأعمال، ويحبّ الأشخاص، ويحبّ الأمكنة.
وهو كذلك أيضاً محبوبٌ يحبّه أولياؤه: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ))، فكلّما كان الإنسان أتبع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أحبّ إلى الله، فهو جلَّ وعَلا وادٌّ وهو أيضاً مودود، أي: أنه يُحِبُّ ويُحَبُّ.
يُحِبُّ سبحانه وتعالى الأعمال، ويحبّ العاملين، ويحبّ الأشخاص، بمعنى: أنّ محبّة الله قد تتعلّق بشخص معيّن، مثل قول الرّسول عليه الصّلاة والسّلام في يوم خيبر قال: ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه، فبات الناس، ثم غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: يشتكي عينيه، فدعا به، فأتى، فبَصَق في عينيه، فبرأ كأن لم يكن به وجع -في الحال-، ثم أعطاه الراية، وقال: انفِذ على رِسلك، حتى تنـزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام ).
الشاهد قوله: ( يحب اللهَ ورسولَه ويحبه اللهُ ورسولُه ): فهنا أثبت أن الله يحب هذا الرجل بعينه، وهو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
ولما بعث رجلاً على سريّة صار يقرأ لهم في الصلاة، ويختم القراءة ب: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) فلمّا رجعوا إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخبروه بذلك، لأنّ عمله هذا غير معروف، أنّ الإنسان كلما قرأ في الصلاة يجعل آخر قراءته: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) ، ( فقال: سلوه: لأي شيء كان يصنع ذلك! فسألوه، فقال: إنها صفة الله، وأنا أحبّ أن أقرأها، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أخبروه أن الله يحبّه ) فهنا تجدون محبة الله قد علِّقت بشخص معين.
وقد تكون محبة الله معلقة بمعينين بأوصافهم، مثل قوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ))، (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ))، (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ))، هذا ليس فيه شخص معين، لكن فيه شخص موصوف بصفة.
كذلك يحبّ الله سبحانه وتعالى الأماكن، فأحبّ البقاع إلى الله مساجدها، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام: ( أن مكة أحب البقاع إلى الله )، فهذه المحبة متعلقة بالأماكن.
فالله تعالى يُحِبُّ ويُحَبُّ، ولهذا قال: (( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ )).
ثم بيَّن عَظَمَته وتمامَ سلطانه بقوله: (( ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ )): ذُو الْعَرْشِ أي: صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى عليه الله عز وجل، وهو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها. وقد جاء في الأثر: ( أنّ السّماوات السّبع والأرضين السّبع بالنّسبة للكرسيّ كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسيّ كفضل الكرسيّ على هذه الحلقة ): إذن الكرسيّ لا أَحَدَ يُقَدِّر سعته، وإذا كنّا نشاهد من المخلوقات المشهودة الآن التّبايُن العظيم في أحجامها، أَطلعني رجل على صورة الشّمس وهي مصوّرة وصورة الأرض، فوجدتُ أنّ الأرض بالنّسبة لهذه الشمس كنقطة غير كبيرة في تبسي واسع كبير، وأنها لا تنسب إلى الشّمس إطلاقاً، ما هي شيء، فإذا كان هذا في الأشياء المشهودة التي تدرَك بالتليسكوب وغيره، فما بالك بالأشياء الغائبة عنا؟! لأنّ ما غاب عنّا أعظم ممّا نشاهد، قال الله تعالى: (( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً )).
فالحاصل أنّ العرشَ الذي هو سقف المخلوقات كلها عرشٌ عظيم، استوى عليه الرحمن جلَّ وعَلا، كـما قـال تعالى: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )).
وقوله: (( ذو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ )) هذه فيها قراءتان: المجِيدِ والمجِيدُ:
فعلى القراءة الأولى تكون وصفاً للعرش، وعلى الثّانية تكون وصفا للرّبّ عزّ وجلّ، وكلاهما صحيح فالعرشُ مجيدٌ، وكذلك الربُّ عزّ وجلّ مجيدٌ، ونحن نقول في التّشهد: إنك حميدٌ مجيد.
(( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ )): كلّ ما يريده فإنّه يفعله عزّ وجلّ لأنّه تامّ السّلطان لا أحد يمانعه، ولا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه: (( وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ )).
فكلّ ما يريده فإنه يفعله، لكن ملوك الدّنيا وإن عَظُمَت ملكيتهم لا يفعلون كلّ ما يريدون، ما أكثر ما يريدون ثم يوجد مانع يمنع! أمّا الرّبّ فهو ذو السّلطان الأعظم، الذي لا يَرُدُّ ما أراده شيءٌ: (( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ))، وفي هذا دليل على أنّ جميع ما وقع في الكون فإنّه بإرادة الله عزّ وجلّ، لأنّ الله هو الذي خلقه، فيكون واقعاً بإرادته.
ولكن اعلموا أنّ الله لا يريد شيئاً إلا لحكمة، فكلّ ما يقع من أفعال الله فإنّه لحكمة عظيمة قد نعلمها وقد لا نعلمها.
ونتوقف عند هذه الآية الكريمة، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا وإيّاكم ممّن يتلون كتابه حق تلاوته، وأن يرزقنا فَهمه، ويعيننا على العمل به، إنه جواد كريم. والآن إلى الأسئلة فيما بقي من الوقت.
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الأخير من شهر جمادى الأولى، عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، الذي يتم في كل خميس من كل أسبوع، نبدأ هذا اللقاء بما كنا نبدأ به أولاً من تفسير القرآن الكريم.
وقد وصلنا إلى قوله تعالى في سورة البروج: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ )):
الذين آمنوا: هم الذين آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فإن هذا هو الإيمان كما فسّره النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم حين سأله جبريل عن الإيمان، فقال: ( أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره ).
وأما قوله: (( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )) فالمراد: عملوا الأعمال الصّالحة، والأعمال الصّالحة هي التي بنيت على الإخلاص لله، واتباع شريعة الله، فمَن عمل عملاً أشرك به مع الله غيره فعملُه مردودٌ عليه، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يرويه عن ربّه أنّه تعالى قال: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركَه ).
وأمّا المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فإنّ مَن عمل عملاً ليس على شريعة الله فإنّه باطل مردود، لقول النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، وبناءً على ذلك تكون عبادة المرائي الذي يعبد الله لكن يرائي الناس، أي: يُظْهِر العبادة ليراه الناس فيمدحوه، هو لا يريد التقرّب إلى الناس، بل يريد التّقرّب إلى الله، لكن يريد أن يمدحه الناس على تقربه إلى الله وعبادته لله، فهذا مُرائي وعمله مردود أيضاً.
كذلك مَن تكلم بكلام قرآنٍ، أو ذِكْرٍ، ورفع صوته ليسمعه النّاس فيمدحوه على ذكره لله، فهذا أيضاً مُراءئي، وعمله مردود عليه لأنه أشرك فيه مع الله غيره، أراد أن يمدحه الناس على عبادة الله.
أما من تعبّد للنّاس، فهذا مشركٌ شركاً أكبر، يعني من قام يصلّي أمام شخص تعظيماً له لا لله، وركع للشّخص وسجد للشّخص فهذا مشرك شركاً أكبر مخرج عن الملة.
وكذلك أيضا مَن ابتدع في دين الله ما ليس منه، كما لو رتَّب أذكاراً معيّنة في وقت معيّن، فإنّ ذلك لا يُقْبَل منه حتّى ولو كان ذكرَاً لله، ولو كان تسبيحاً أو تحميداً، أو تكبيراً أو تهليلاً لكنه رتبه على وجه لم ترد به السنة، فإن ذلك ليس مقبولاً عند الله عزَّ وجلَّ، لأنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، فالمهمّ أنّ الله اشترط مع الإيمان العمل الصّالح.
وبهذا نعرف أنّه لا ينبغي لنا أن نركّز دائماً على العقيدة، ونقول: نحن على عقيدة إسلاميّة، وعلى كذا، وعلى كذا، ولم نذكر العمل، لأنّ مجرّد العقيدة لا يكفي، لا بد من العمل، فينبغي عندما نذكر أننا على العقيدة الإسلامية أن نقول: ونعمل العمل الصالح، لأن الله يقرن دائماً بين الإيمان المتضمن للعقيدة وبين العمل الصالح حتى لا يخلو الإنسان من عمل صالح.
أما مجرد العقيدة فلا ينفع، فلو أن إنساناً يقول: أنا مؤمن بالله، لكنه لا يعمل، أين الإيمان بالله؟! ولهذا كان القول الرّاجح من أقوال العلماء: أنّ تارك الصّلاة كافر كفراً مخرجًا عن الملة، وقد بينا أدلّة ذلك في رسالة لنا صغيرة، وكذلك أيضا يمر علينا في *نور على الدرب* أسئلة حول هذا الموضوع، ونبيّن الأدلّة بما يغني عن إعادتها هنا.
(( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ )) لَهُمْ: يعني عند الله.
(( جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ )): وذلك بعد البعث، فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهذا قال الله تعالى: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )).
وقال الله في الحديث القدسي: ( أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )، لأن فيها من النعيم ما لا يتصوره الإنسان، والله تعالى يذكر فيها أي في الجنات نخلاً، ورماناً، وفاكهةً، ولحمَ طير، وعسلاً، ولبناً، وماءً، وخمراً، لكن لا تظنوا أنّ حقائق هذه الأشياء كحقائق ما في الدنيا، أبداً، لأنها لو كانت حقائقها كحقائق ما في الدنيا لكنا نعلم ما أخفي لنا من هذا، ولكنّها أعظم وأعظم بكثير ممّا تتصوّره، فالرّمّان وإن كنّا نعرف معنى الرّمّان ونعرف أنّه على شكل معيّن، وطعم معيّن، وذو حبّات معيّنة، لكن ليس الرّمّان الذي في الآخرة كهذا، هو أعظم بكثير، لا من جهة الحجم، ولا من جهة اللون، ولا من جهة المذاق، لكن كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء " فقط، أما الحقائق فهي غير معلومة.
وقوله: (( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ )) قال العلماء: من تحتها: أي: من تحت أشجارها وقصورها، وإلا فهي على السطح فوق، ثم هذه الأنهار جاء في الأحاديث أنها لا تحتاج إلى حفر، ولا تحتاج إلى بناء أخدود، وفي هذا يقول ابن القيم في النونية:
" أنهارها في غير أخدود جـرت *** سبحان ممسكها عن الفيضانِ ".
الأنهار المعروف عندنا أنها تحتاج إلى حفر أو إلى أخدود تمنع من تسرب الماء يميناً وشمالاً لكن في الجنة لا تحتاج إلى أخدود، تجري حيث شاء الإنسان، يعني يوجّهها كما شاء، بدون حفر وبدون إقامة أخدود.
والأنهار هنا وفي آيات كثيرة مجملة، لكنها فُصِّلت في سورة القتال، سورة محمد قال: (( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً )).
(( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ )): (( ذَلِكَ )): المشار إليه الجنات وما فيها من النعيم.
(( الْفَوْزُ الْكَبِيرُ )) يعني الذي به النجاة من كل مرهوب، وحصول كل مطلوب، لأنّ الفوز هو عبارة عن حصول المطلوب، وزوال المكروه. والجنة كذلك، فيها كلّ مطلوب، وقد زال عنها كلّ مرهوب، فلا يذوقون فيها الموت، ولا المرض، ولا السّقم، ولا الهمّ، ولا النّصب، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
ثمّ قال تعالى: (( إن بطش ربك لشديد* إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ )):
بَطْشَ: يعني أخذه العقاب شديد، كما قال تعالى: (( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )).
فبَطْشُ الله يعني: انتقامُه وأخذُه شديدٌ عظيم، ولكنه لمن يستحق ذلك، أمّا من لا يستحق ذلك فإن رحمة الله تعالى أوسع، ما أكثر ما يعفو الله من الذّنوب! ما أكثر ما يستر الله من العيوب! ما أكثر ما يدفع الله من النّقم! وما أكثر ما يجري من النّعم! لكن إذا أخذ الظالم لم يُفْلِته، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنّ الله ليُمْلِي للظّالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه )، وتلا قوله تعالى: (( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ))، وعلى هذا فنقول: (( بَطْشَ رَبِّكَ ))، أي: فيمن يستحق البطش، أمّا من لا يستحقه فإنّ الله تعالى يعامله بالرّحمة، ويعامله بالكرم، ويعامله بالجود، ورحمة الله تعالى سبقت غضبه.
(( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ )) أي: إنّ الأمر إليه ابتداءً وإعادة، وهذا كقوله تعالى: (( وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ )) فهو الذي بدأ الأشياء، وإليه تنتهي الأشياء، الأشياء منه وإليه في كل شيء، الخلق من الله وإليه، الشرائع من الله وإليه، كلّ الأمور من الله وإليه، ولهذا قال: (( يُبْدِئُ )) ولم يذكر ما الذي يبدؤه، فمعناه أنه يبدئ كل شيء، ويعيد كل شيء، فكل الأمر بيده عزَّ وجلَّ.
فأنت اعرف أصلك من أين أنت وأنك ابتدأت من عدم، واعرف منتهاك وغايتك، وأن غايتك إلى الله عزَّ وجلَّ.
(( إنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد* وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ )):
وَهُوَ الْغَفُورُ يعني: ذا المغفرة، والمغفرةُ: سَتْرُ الذنب والعفوُ عنه، فليست المغفرةُ سترَ الذنب فقط بل سترُه وعدمُ المؤاخذة عليه، كما جاء في الحديث الصحيح: ( إنّ الله يخلو بعبده المؤمن يوم القيامة ويقرره بذنوبه، حتى يقر بها ويعترف، فيقول الله عزَّ وجلَّ: قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ).
ذنوبنا كثيرة: ذنوب قلبية، وذنوب قولية، وذنوب فعلية، ما أكثرها! لكن الله تعالى ولله الحمد يسترها، ويُذكر: " أن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد منهم ذنباً وَجَدَهُ مكتوباً على باب بيته "، فضيحةً وعاراً والعياذ بالله، لكننا نحن ولله الحمد قد ستر الله علينا، فنتوب إلى الله، ونستغفر من الذنوب، فتمحى آثارها نهائياً، ولهذا قال: (( وَهُوَ الْغَفُورُ )): أي الساتر لذنوب عباده، المتجاوز عنها.
(( الْوَدُودُ )): مأخوذة من الودّ، والودّ: هو خالص المحبة، فهو جلَّ وعَلا ودود. وما معنى ودود؟ هل معناه أنه محبوبٌ، أو أنه حابٌّ؟
الجواب: يشمل الوجهين جميعاً، قال الله تبارك وتعالى: (( يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )) ، فهو جلَّ وعَلا وادٌّ يحبّ الأعمال، ويحبّ الأشخاص، ويحبّ الأمكنة.
وهو كذلك أيضاً محبوبٌ يحبّه أولياؤه: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ))، فكلّما كان الإنسان أتبع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أحبّ إلى الله، فهو جلَّ وعَلا وادٌّ وهو أيضاً مودود، أي: أنه يُحِبُّ ويُحَبُّ.
يُحِبُّ سبحانه وتعالى الأعمال، ويحبّ العاملين، ويحبّ الأشخاص، بمعنى: أنّ محبّة الله قد تتعلّق بشخص معيّن، مثل قول الرّسول عليه الصّلاة والسّلام في يوم خيبر قال: ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه، فبات الناس، ثم غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: يشتكي عينيه، فدعا به، فأتى، فبَصَق في عينيه، فبرأ كأن لم يكن به وجع -في الحال-، ثم أعطاه الراية، وقال: انفِذ على رِسلك، حتى تنـزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام ).
الشاهد قوله: ( يحب اللهَ ورسولَه ويحبه اللهُ ورسولُه ): فهنا أثبت أن الله يحب هذا الرجل بعينه، وهو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
ولما بعث رجلاً على سريّة صار يقرأ لهم في الصلاة، ويختم القراءة ب: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) فلمّا رجعوا إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخبروه بذلك، لأنّ عمله هذا غير معروف، أنّ الإنسان كلما قرأ في الصلاة يجعل آخر قراءته: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) ، ( فقال: سلوه: لأي شيء كان يصنع ذلك! فسألوه، فقال: إنها صفة الله، وأنا أحبّ أن أقرأها، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أخبروه أن الله يحبّه ) فهنا تجدون محبة الله قد علِّقت بشخص معين.
وقد تكون محبة الله معلقة بمعينين بأوصافهم، مثل قوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ))، (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ))، (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ))، هذا ليس فيه شخص معين، لكن فيه شخص موصوف بصفة.
كذلك يحبّ الله سبحانه وتعالى الأماكن، فأحبّ البقاع إلى الله مساجدها، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام: ( أن مكة أحب البقاع إلى الله )، فهذه المحبة متعلقة بالأماكن.
فالله تعالى يُحِبُّ ويُحَبُّ، ولهذا قال: (( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ )).
ثم بيَّن عَظَمَته وتمامَ سلطانه بقوله: (( ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ )): ذُو الْعَرْشِ أي: صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى عليه الله عز وجل، وهو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها. وقد جاء في الأثر: ( أنّ السّماوات السّبع والأرضين السّبع بالنّسبة للكرسيّ كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسيّ كفضل الكرسيّ على هذه الحلقة ): إذن الكرسيّ لا أَحَدَ يُقَدِّر سعته، وإذا كنّا نشاهد من المخلوقات المشهودة الآن التّبايُن العظيم في أحجامها، أَطلعني رجل على صورة الشّمس وهي مصوّرة وصورة الأرض، فوجدتُ أنّ الأرض بالنّسبة لهذه الشمس كنقطة غير كبيرة في تبسي واسع كبير، وأنها لا تنسب إلى الشّمس إطلاقاً، ما هي شيء، فإذا كان هذا في الأشياء المشهودة التي تدرَك بالتليسكوب وغيره، فما بالك بالأشياء الغائبة عنا؟! لأنّ ما غاب عنّا أعظم ممّا نشاهد، قال الله تعالى: (( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً )).
فالحاصل أنّ العرشَ الذي هو سقف المخلوقات كلها عرشٌ عظيم، استوى عليه الرحمن جلَّ وعَلا، كـما قـال تعالى: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )).
وقوله: (( ذو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ )) هذه فيها قراءتان: المجِيدِ والمجِيدُ:
فعلى القراءة الأولى تكون وصفاً للعرش، وعلى الثّانية تكون وصفا للرّبّ عزّ وجلّ، وكلاهما صحيح فالعرشُ مجيدٌ، وكذلك الربُّ عزّ وجلّ مجيدٌ، ونحن نقول في التّشهد: إنك حميدٌ مجيد.
(( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ )): كلّ ما يريده فإنّه يفعله عزّ وجلّ لأنّه تامّ السّلطان لا أحد يمانعه، ولا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه: (( وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ )).
فكلّ ما يريده فإنه يفعله، لكن ملوك الدّنيا وإن عَظُمَت ملكيتهم لا يفعلون كلّ ما يريدون، ما أكثر ما يريدون ثم يوجد مانع يمنع! أمّا الرّبّ فهو ذو السّلطان الأعظم، الذي لا يَرُدُّ ما أراده شيءٌ: (( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ))، وفي هذا دليل على أنّ جميع ما وقع في الكون فإنّه بإرادة الله عزّ وجلّ، لأنّ الله هو الذي خلقه، فيكون واقعاً بإرادته.
ولكن اعلموا أنّ الله لا يريد شيئاً إلا لحكمة، فكلّ ما يقع من أفعال الله فإنّه لحكمة عظيمة قد نعلمها وقد لا نعلمها.
ونتوقف عند هذه الآية الكريمة، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا وإيّاكم ممّن يتلون كتابه حق تلاوته، وأن يرزقنا فَهمه، ويعيننا على العمل به، إنه جواد كريم. والآن إلى الأسئلة فيما بقي من الوقت.