تفسير قوله تعالى : " فعال لما يريد .... " إلى قوله :" والله من ورائهم محيط ". حفظ
الشيخ : الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الأول من شهر جمادى الثانية، عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، والذي يتم كل أسبوع في يوم الخميس.
لقاؤنا هذا نفتتحه بالكلام على آيات من كتاب الله عز وجل في سورة البروج من قوله تبارك وتعالى: (( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ))، لأنّ ما سبق قد تكلمنا عليه.
فقوله تبارك وتعالى: (( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ )) هذا وصف لله سبحانه وتعالى أنه الفعّال لما يريد، فكلّ ما أراده فإنه يفعله، لا يمنعه شيء من ذلك، لأن له ملك السماوات والأرض، ومالك السماوات والأرض لا أحد يمنعه مِن أن يفعل في ملكه ما شاء، وهذا كقوله تبارك وتعالى: (( وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ))، فالخلق مهما كانوا لا يستطيعون أن يفعلوا ما شاءوا، بل قد يريدون الشيء إرادة جازمة وبكلّ قلوبهم، ويتمنّون أن يفعلوه ولكنّهم لا يحصل لهم هذا، يحول بينهم وبينه قدر الله عز وجل.
أما الرب تبارك وتعالى فإنه فعال لما يريد.
وفي الآية الكريمة إثبات إرادة الله سبحانه وتعالى، وهو كذلك، فإنّه تعالى له الإرادة الكاملة التامة في خلقه حتى فيما يتعلق بأفعال الخلق لا يكون فعلٌ من الناس إلا بإرادة الله كما قال الله تعالى: (( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )) فعلّق مشيئتهم بمشيئته سبحانه وتعالى.
وقال جلَّ وعَلا: (( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ))، فهو سبحانه وتعالى إرادته شاملةٌ لِمَا يكون من فعله، ولِمَا يكون من فعل العباد، فأنا مثلاً لو تكلّمت بكلامي هذا أو بغيره أو بما سبقه، فكلّ كلامي كائن بإرادة الله، لو شاء الله ما تكلمتُ، وإذا شاء الله أن أتكلم تكلمتُ، فتنبعث من قلبي إرادة للكلام فأتكلّم، ولهذا قال: (( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ )).
ثمّ قال عزّ وجلّ: (( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ )): والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم، أو لكلّ من يصحّ أن يتوجه إليه الخطاب.
والاستفهام للتنبيه، لأن الشيء إذا جاء باستفهام انتبه له الإنسان أكثر، فالله عز وجل يقول: (( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ))، فالجنود: جمع جند، وهو هنا مُبْهَم، لكنه فسره بقوله: (( فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ )) يعني: هل أتاك خبرهم؟
والجواب: نعم، أتانا خبرهم، قصّ الله سبحانه وتعالى علينا من نبأ فرعون، وقصّ علينا من نبأ ثمود ما فيه العبرة لمن كان قلبه حياً أو ألقى السّمع وهو شَهيد.
ذكر الله تعالى قصة فرعون في آيات كثيرة في القرآن الكريم وفي سور متعدّدة، وذلك لأنّ قصّة فرعون مقدّمة بين يدي رسالة موسى صلّى الله عليه وسلّم، وموسى كما هو معروف مبعوث إلى اليهود، إلى بني إسرائيل، فكان الله سبحانه وتعالى يقصّ من نبإ موسى ما لم يقصّ من نبأ غيره لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سوف يكون مهاجره إلى المدينة، والمدينة فيها ثلاث قبائل من اليهود ساكنة فيها، فكان النبي عليه الصلاة والسّلام يعلم من نبئهم الشيء الكثير من أجل أن يكون على استعدادٍ لمناظرتهم ومجادلتهم بالحقّ، حتى لا يخفى عليه من أمرهم شيء، فرعون ملك مصر، وهل هو عَلَم شخص أو عَلَم وصف؟
بمعنى: هل إنّ فرعون اسم للجبّار العنيد الذي بُعِث إليه موسى، أو أنه وصف لكل مَن مَلَك مصر وهو كافر؟
يعني: هل هو علم وصف أو علم شخص؟
من العلماء من يقول: إنه علم شخص يعني: أنه الذي أُرْسِل إليه موسى وهو جبار عنيد يسمى فرعون.
ومنهم مَن قال: إنه علم وصف لكل مَن مَلَك مصر كافراً، كما يقال كسرى لكلّ مَن مَلَك بلاد الفرس، وقيصر لكلّ مَن مَلَك بلاد الرّوم، والنجاشي لكل مَن مَلَك الحبشة ، وما أشبه ذلك والخلاف في هذا ليس بذاك المهم، لكن المهم أن فرعون قصته معروفة.
كان جباراً عنيداً متكبراً، يَدَّعي أنه الرب، ويستهزئ بموسى، وبما جاء به من الآيات، ويتحداه، ويقول له صراحة وجهاً لوجه: (( إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً ))، ويفتخر ويقول لقومه: (( أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ )) وماذا كانت النتيجة؟
كانت النتيجة أن كفر به أخص الناس بكيده وهم السَّحَرة، فإنّ السَّحَرة لمـّا جمعوا كلّ ما عندهم من السحر، وجاءوا لمقابلة موسى عليه الصّلاة والسّلام حيث إنّ موسى أتى بآية تشبه السحر ولكنها ليست بسحر بل هي آية من آيات الله، وهي أنه يضع العصا التي بيده -عصا من خشب-، فإذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى، فقال الناس: هذا سحر، فجُمِع السَّحَرة كلّهم أكبرُ السَّحَرة وأحذقهم بالسحر جُمِعُوا في وقت حدَّده موسى، حيث قال له فرعون: (( فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً )) أي: مكاناً مستوياً منبسطاً حتى يشاهد الناس ما يشاهدون من السحر وأعمال السَّحَرة ، فقال لهم: (( مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ )): ويوم الزينة يوم عيدهم، ويوم العيد كما تعلمون يكثر فيه تجمع الناس، ويهنئ بعضُهم بعضاً بأعيادهم، فاجتمعوا كما واعدهم موسى يوم الزينة، وحُشِر الناس، ومتى حُشروا؟
لم يُحشروا في الليل، أو في آخر النهار، أو في أول النهار، بل حُشروا ضحى في رابعة النهار.
ولَمَّا حشروا ألقى السَّحَرة كل ما يكيدون من كيد وسحر (( فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ))، لأنه شاهد شيئاً عظيماً، فأوحى الله إليه أن يلقيَ العصا، فألقى العصا فإذا هي تلقف ما يأفكون، حينئذ علم السَّحَرة أنّ موسى صادق وأنّه ليس بساحر، لأنّه لو كان ساحراً ما غلبهم بسحره، فآمنوا بالله وكفروا بـفرعون، (( وقَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ))، وتحدّوا فرعون، وفي النّهاية -نهاية فرعون- أغرقه الله عز وجل بالماء الذي كان يفتخر به بالأمس، كان يقول: (( وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ))، والأنهار مياه، فأهلكه الله بجنس ما كان يفتخر به.
أمّا ثمود فإن الله تعالى قد أعطاهم قدرة وقوة، وأترفهم، حتى كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، ويتّخذون من السّهول قصوراً، وكانت لهم قوة وصرامة، فأُهْلِكوا حين كَذَّبوا نبيهم صالحا صلى الله عليه وسلم أُهْلِكوا برجفة وصيحة، صيح بِهم، وارتجفت بهم الأرض، فهَلَكوا عن آخرهم، (( فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ )) والعياذ بالله.
فالله عز وجل يقول: (( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ))، وماذا كان من نبئهم، وفي هذا التنبيه فائدتان:
الفائدة الأولى: تسليةُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتقويتُه، وأن الذي نصر الرسل من قبله سوف ينصره، ولا شكَّ أن هذا يقوِّي العزيمة، ويوجب أن يندفع الإنسان فيما كُلِّف به من تبليغ الرسالة.
والثانية: تهديدُ قريش الذين كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنهم ليسوا أشد قوة من فرعون وثمود، ومع ذلك أهلكهم الله سبحانه وتعالى، فيكون في ذكر هذا فائدتان:
الفائدة الأولى تسلية الرّسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
والفائدة الثانية تهديد قريش الذين كذّبوا الرّسول عليه الصّلاة والسّلام.
ثمّ قال تعالى: (( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ )): هذا الإضراب للانتقال من موضوع إلى آخر، والذين كفروا يعني: بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في تكذيب، " في ": للظرفية، كأن هؤلاء منغمسون في التكذيب، والتكذيب محيط بهم من كل جانب، وهذا أبلغ من قوله: (( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ )) في هذا الموضع، و (( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ )) في موضع آخر تكون أبلغ، لأنّ القرآن الكريم قد يأتي بالكلمتين مختلفتين في موضعين، وتكون كلّ واحدة في موضعها أبلغ من الأخرى، إذ أنّ القرآن مشتمل على غاية البلاغة.
(( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ )):
(( وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ )) أي: غالِبُهم ومحيطٌ بهم، ومهما فروا فإن الله تعالى مدركهم لا محالة، فهو محيط بهم علماً وقدرةً وسلطاناً، ولَنْ يُفْلِتوا من الله سبحانه وتعالى إذا أراد بهم سوءاً، كما قال تعالى: (( وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ )).
ثم قال تعالى: (( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ )) وسنتكلم عليها إن شاء الله في اللقاء القادم، لأنه مهم، ونذكر المناسبة بين ختمه لهذه السورة بهاتين الآيتين، وبين ابتدائها بالسماء ذات البروج، وما ذكر فيها من العبر والقصص.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، إنه على كل شيء قدير .
والآن إلى الأسئلة.