تفسير قوله تعالى : [ بل الذين كفروا في تكذيب ] إلى نهاية سورة البروج. حفظ
الشيخ : الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الثاني في هذا الشهر، شهر جمادى الثانية عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، والذي يتم في كل خميس من كل أسبوع، وقد حصل بهذا اللقاء ولله الحمد خير كثير، حيث انتفع الناس به، من الحاضرين الذين يستمعون ، ومِن الذين يسمعونه عبر الشريط.
ولا شك أن هذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده في هذا الزمن الذي ضعفت فيه الهمم، وقلَّ فيه الطّالبون للعلم، لكن جاء الله تعالى بهذه الوسائل ولله الحمد، الوسائل العظيمة الكثيرة السّهلة، فيستطيع الإنسان أن ينتفع بالعلم وهو يمشي في سيارته، أو وهو يأكل يتغدى أو يتعشى، أو وهو يشرب القهوة، أو في أي حال.
ولقاؤنا هذا اليوم يشتمل على تفسير بقية سورة البروج: (( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ))، وعلى ما يرد من أسئلة نجيب عليها بتوفيق الله سبحانه وتعالى.
انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى في سورة البروج: (( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ )):
قوله: (( الَّذِينَ كَفَرُوا )): يشمل كلّ من كفر بالله ورسوله، سواء كان من المشركين، أو من اليهود، أو من النّصارى، أو غيرهم، وذلك لأنّ اليهود والنصارى الآن وبعد بعثة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ليسوا على دين، ولا تنفعهم أديانهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، فمن لم يؤمن به فليس على شيء من دينه، بل إنّه سبق لنا أنّ مَن لم يؤمن برسول واحد من الرسل فهو كافر بجميع الرسل، يعني: مثلا مَن لم يؤمن بنوح أنه رسول، ولو آمن بغيره من الأنبياء فإنه مكذب لجميع الأنبياء، والدليل على هذا قوله تعالى: (( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ))، فبين الله أنّ هؤلاء كذّبوا جميع الرّسل مع أنّهم لم يكذّبوا إلاّ رسولاً واحداً، إذْ أنّه ليس قبل نوح رسول.
كذلك الذي كذّب بمحمّد صلّى الله عليه وسلم فهو مكذِّب لغيره من الرسل، فإذا ادَّعت اليهود أنّهم على دين، وأنّهم يتّبعون التّوراة التي جاء بها موسى، نقول لهم أنتم كافرون بِموسى، كافرون بالتوراة.
وإذا ادَّعت النّصارى الذين يُسَمُّون أنفسهم اليوم بالمسيحيين أنهم مؤمنون بعيسى، قلنا لهم: كذبتم، أنتم كافرون بعيسى لأنكم كافرون بمحمد عليه الصلاة والسلام. والعجب أن هؤلاء اليهود والنصارى يكفرون بمحمّد عليه الصّلاة والسّلام مع أنهم: (( يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ))، (( يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ))، لكن العناد والكبرياء والحسد مَنَعَهم أن يؤمنوا بمحمّد عليه الصّلاة والسّلام، (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ )).
فالحاصل أنّ قوله تعالى: (( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا )) يشمل كل من كفر بمحمد حتى من اليهود والنصارى، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة -يعني: أمة الدعوة- يهوديٌ ولا نصراني، ثم لا يؤمن بما جئتُ به إلا كان من أصحاب النار ).
كلّ الكفّار في تكذيب، وقال: (( فِي تَكْذِيبٍ )) فجعل التكذيب كالظرف لهم، يعني: أنه محيط بهم من كل جانب والعياذ بالله.
قال تعالى: (( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا في تَكْذِيب* وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ )) أي: أن الله تعالى محيط بهم من كل جانب، لا يشذُّون عنه، لا عن علمه، ولا سلطانه، ولا عقابه، ولكنه عز وجل قد يُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِته.
(( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ )):
(( بَلْ هُوَ )) أي: ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام.
(( قُرْآنٌ مَجِيدٌ )) أي: ذو عَظَمة ومجد.
ووَصْفُ القرآن بأنّه مجيد لا يعني أنّ المجد وصفٌ للقرآن نفسِه فقط، بل هو وصف للقرآن ولِمَن تحمَّل هذا القرآن فحمله، وقام بواجبه مِن تلاوته حقّ تلاوته، فإنّه سيكون له المجد والعزة والرفعة.
وقوله تعالى: (( فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ )) يعني بذلك: اللوح المحفوظ عند الله عزّ وجلّ الذي هو أمّ الكتاب، كما قال الله تبارك وتعالى: (( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ )).
هذا اللوح لو سألنا سائل: من أي مادّة هو؟ ماذا نقول؟
نقول: الله أعلم، فلو قال: هل هو من خشب؟ أو من حديد؟ أو من زجاج؟ أو من ذهب؟ أو من فضة؟
لقلنا: لا ندري، هو لوح كتب الله فيه مقادير كل شيء، ومن جملة ما كَتَبَ فيه أن هذا القرآن سينزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فهو في لوح محفوظ. قال العلماء: محفوظ لا يناله أحد، محفوظٌ عن التّغيير والتّبديل، والتبديل والتغيير إنما يكون في الكتب الأخرى، لأنّ الكتابة من الله عزّ وجلّ أنواع، وأرجو أن تنتبهوا لهذا:
النوع الأول: الكتابة في اللوح المحفوظ، وهذه الكتابة لا تُبَدَّل ولا تُغَيَّر، ولهذا سماه الله لوحاً محفوظاً، لا يمكن أن يُبَدَّل أو يُغَيَّر ما فيه، لأنه هو النهائي.
الثاني: الكتابة على بني آدم وهم في بطون أمّهاتهم، لأنّ الإنسان في بطن أمّه إذا تمّ له أربعة أشهر بعث الله إليه ملكاً موكَّلاً بالأرحام، فينفخ فيه الرّوح بإذن الله، لأنّ الجسد عبارة عن قطعة من اللحم، إذا نفخت فيه الرّوح صار إنساناً، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقِه، وأجله، وعمله، وشقيّ أو سعيد.
هناك كتابة أخرى حوليّة، كلّ سنة وهي الكتابة التي تكون في ليلة القدر، فإن الله سبحانه وتعالى يقدّر في هذه اللّيلة ما يكون في تلك السّنة، قال الله تبارك وتعالى: (( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ))، فيكتب في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة.
هناك كتابة رابعة وهي: كتابة الصحف التي في أيدي الملائكة، وهذه الكتابة تكون بعد العمل، والكتابات الثلاث السابقة كلّها تكون قبل العمل، لكن الكتابة الأخيرة هذه تكون بعد العمل، يُكتَب على الإنسان ما يعمل من قول بلسانه، أو فعل بجوارحه، أو اعتقاد بقلبه، فإنّ الملائكة الموكّلين بحفظ بني آدم أي بحفظ أعمالهم يكتبون، قال الله تعالى: (( كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ )).
فهذه الكتابة الأخيرة تختلف عن الكتابات الثلاث السابقة، لأنها كتابةُ ما بعد العمل حتى يُكتَب على الإنسان ما عمل، فإذا كان يوم القيامة فإنه يُعطَى هذا الكتاب، كما قال الله تعالى: (( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )) يعني: تُعطَى الكتاب، ويقال: أنت اقرأ، وحاسب نفسك، قال بعض السلف: " لقد أنصفَك مَن جعلك حسيباً على نفسك "، وهذا صحيح، أيُّ إنصاف أبلغ من أن يقال لشخص: تفضَّل، هذا ما عملت، حاسِب نفسك! أليس هذا هو الإنصاف؟!
أكبر إنصاف هو هذا، فيوم القيامة تعطى هذا الكتاب منشوراً مفتوحاً أمامك ليس مغلقاً، تقرأ ويتبين لك أنّك عملت في يوم كذا، في مكان كذا كذا وكذا، فهو شيء مضبوط لا يتغير، وإذا أنكرت فهناك مَن يشهد عليك: (( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ )) يقول اللسان: نطقت بكذا.
(( وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) تقول اليد: بطشت، وتقول الرجل: مشيت، بل يقول الجلد أيضاً، فالجلود تشهد بما لمست: (( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )).
المهمّ الآن أنّ اللوح المحفوظ هو هذا اللّوح الذي كتب الله فيه مقادير كل شيء، وهو محفوظ من التغيير، محفوظ من أن يناله أحد، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كَتَب فيه، وقلنا: إنه محفوظ لأنه لا يتغير، وما بأيدي الملائكة يتغير، وقلنا إنّ الكتابات أربعة:
اللوح المحفوظ، والثانية كتابة الأجنة، والثالثة: الكتابة الحولية، تكون في ليلة القدر، والرابعة: كتابة الأعمال بعد وقوعها، وتكون هذه بأيدي الملائكة، عن اليمين واحد من الملائكة، وعن الشمال واحد، يسجّلان على الإنسان كلَّ ما يقول، نحن الآن نسجّل في الشّريط فلا يفوت شيء من كلامنا، حتى النّفس يدرك بهذا الشريط، فالملائكة أيضاً يكتبون كل شيء: (( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )): ومن قول هذه يقول علماء البلاغة: إنّ النّكرة في سياق النفي تفيد العموم، أيْ: أنَّ أيَّ قول تقوله فعندك رقيب عتيد حاضر لا يغيب عنك، ويذكر أن الإمام أحمد رحمه الله كان مريضاً، وكان يئنّ في مرضه من شدة المرض، فدخل عليه أحد أصحابه، وقال: " يا أبا عبد الله إن طاوساً -وهو رجل من التابعين معروف- يقول: إن الملائكة تكتُب على الإنسان حتى أنين المرض "، حتى أنينه في مرضه، " فأمسك رحمه الله عن الأنين "، فالأمر ليس بالأمر الهين، نسأل الله تعالى أن يتولاّنا وإيّاكم بعفوه ومغفرته.
وإلى هنا ينتهي الكلام على هذه السّورة العظيمة، التي ابتدأها الله تعالى بالقسم بالسّماء ذات البروج، وأنهاها بقوله: (( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ))، فمن تمسّك بهذا القرآن العظيم فله المجد والعزّة والكرامة والرّفعة، ولهذا ننصح أمّتنا الإسلامية بادئين بأفراد شعوبها أن يتمسّكوا بالقرآن العظيم، ونوجِّه الدّعوة على وجهٍ أوكد وأوكد إلى ولاة أمورها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، وألاّ يغرّهم البهرج المزخرف الذي يَرِدُ من الأمم الكافرة التي تضع القوانين المخالفة للشريعة، المخالفة للعدل، المخالفة لإصلاح الخلق، أن يضعوها هذه القوانين موضع التنفيذ، ثم ينبذوا كتاب الله وسنة رسوله وراء ظهورهم، فإنّ هذا والله سبب التأخر، ولا أظنّ أحداً يتصور الآن أنّ أمّة بهذا العدد الهائل تكون متأخّرة هذا التأخر، وكأنها إمارة في قرية بالنسبة للدول الكافرة، لكن سبب ذلك لا شكّ معلوم، وهو: أنّنا تركنا ما به عزّتنا وكرامتنا وهو التّمسّك بهذا القرآن العظيم، وذهبنا نلهث وراء أنظمة بائدة، فاسدة، مخالفة للعدل، مبنيّة على الظلم والجور، فنحن نناشد ولاة أمورنا، وأقصد بولاة أمورنا: ولاة أمور المسلمين جميعاً، لأننا أمة واحدة، وإن تفرقت بنا البلدان، واختلفت مِنَّا الألسن: أناشدهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن يرجعوا رجوعاً حقيقياً إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يستتبّ لهم الأمن والاستقرار، وتحصل لهم العزة والمجد والرفعة، وتطيعهم شعوبهم، ولا يكون في قلوب شعوبهم عليهم شيء، وذلك لأن الإنسان إذا أصلح ما بينه وبين ربه أصلح الله ما بينه وبين الناس، فإذا كان ولاّة الأمور يريدون أن تُذْعِن لهم الشعوب وأن يطيعوا الله فيهم، فليطيعوا الله أولاً حتى تطيعهم أممهم، وإلاّ فليس من المعقول أن يعصوا الملك الأكبر، وهو الله عز وجل، ثم يريدون أن تطيعهم شعوبهم، هذا بعيد، بل كلّما بعُد القلب عن الله بَعُد الناس عن صاحبهم، نسأل الله العافية، وكلما قَرُب من الله قَرُب الناس منه.
فنسأل الله أن يعيد لهذه الأمة الإسلامية مجدها وكرامتها، وأن يذل أعداء المسلمين في كل مكان، ونسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، وأن يعينهم على ما أصابهم من هؤلاء النّصارى الذين لا يريدون أن تقوم للمسلمين قائمة في أيّ مكان، ونسأل الله أن يذلّ النصارى واليهود، وأن يكبتهم، وأن يردّهم على أعقابهم خائبين، وكذلك كلّ عدوّ للمسلمين، إنه على كل شيء قدير.
والآن نأخذ الأسئلة، ولكلّ واحد سؤال فقط مرّة على اليمين ومرّة على الشّمال حرصا على إقامة العدل.
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الثاني في هذا الشهر، شهر جمادى الثانية عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، والذي يتم في كل خميس من كل أسبوع، وقد حصل بهذا اللقاء ولله الحمد خير كثير، حيث انتفع الناس به، من الحاضرين الذين يستمعون ، ومِن الذين يسمعونه عبر الشريط.
ولا شك أن هذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده في هذا الزمن الذي ضعفت فيه الهمم، وقلَّ فيه الطّالبون للعلم، لكن جاء الله تعالى بهذه الوسائل ولله الحمد، الوسائل العظيمة الكثيرة السّهلة، فيستطيع الإنسان أن ينتفع بالعلم وهو يمشي في سيارته، أو وهو يأكل يتغدى أو يتعشى، أو وهو يشرب القهوة، أو في أي حال.
ولقاؤنا هذا اليوم يشتمل على تفسير بقية سورة البروج: (( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ))، وعلى ما يرد من أسئلة نجيب عليها بتوفيق الله سبحانه وتعالى.
انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى في سورة البروج: (( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ )):
قوله: (( الَّذِينَ كَفَرُوا )): يشمل كلّ من كفر بالله ورسوله، سواء كان من المشركين، أو من اليهود، أو من النّصارى، أو غيرهم، وذلك لأنّ اليهود والنصارى الآن وبعد بعثة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ليسوا على دين، ولا تنفعهم أديانهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، فمن لم يؤمن به فليس على شيء من دينه، بل إنّه سبق لنا أنّ مَن لم يؤمن برسول واحد من الرسل فهو كافر بجميع الرسل، يعني: مثلا مَن لم يؤمن بنوح أنه رسول، ولو آمن بغيره من الأنبياء فإنه مكذب لجميع الأنبياء، والدليل على هذا قوله تعالى: (( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ))، فبين الله أنّ هؤلاء كذّبوا جميع الرّسل مع أنّهم لم يكذّبوا إلاّ رسولاً واحداً، إذْ أنّه ليس قبل نوح رسول.
كذلك الذي كذّب بمحمّد صلّى الله عليه وسلم فهو مكذِّب لغيره من الرسل، فإذا ادَّعت اليهود أنّهم على دين، وأنّهم يتّبعون التّوراة التي جاء بها موسى، نقول لهم أنتم كافرون بِموسى، كافرون بالتوراة.
وإذا ادَّعت النّصارى الذين يُسَمُّون أنفسهم اليوم بالمسيحيين أنهم مؤمنون بعيسى، قلنا لهم: كذبتم، أنتم كافرون بعيسى لأنكم كافرون بمحمد عليه الصلاة والسلام. والعجب أن هؤلاء اليهود والنصارى يكفرون بمحمّد عليه الصّلاة والسّلام مع أنهم: (( يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ))، (( يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ))، لكن العناد والكبرياء والحسد مَنَعَهم أن يؤمنوا بمحمّد عليه الصّلاة والسّلام، (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ )).
فالحاصل أنّ قوله تعالى: (( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا )) يشمل كل من كفر بمحمد حتى من اليهود والنصارى، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة -يعني: أمة الدعوة- يهوديٌ ولا نصراني، ثم لا يؤمن بما جئتُ به إلا كان من أصحاب النار ).
كلّ الكفّار في تكذيب، وقال: (( فِي تَكْذِيبٍ )) فجعل التكذيب كالظرف لهم، يعني: أنه محيط بهم من كل جانب والعياذ بالله.
قال تعالى: (( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا في تَكْذِيب* وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ )) أي: أن الله تعالى محيط بهم من كل جانب، لا يشذُّون عنه، لا عن علمه، ولا سلطانه، ولا عقابه، ولكنه عز وجل قد يُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِته.
(( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ )):
(( بَلْ هُوَ )) أي: ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام.
(( قُرْآنٌ مَجِيدٌ )) أي: ذو عَظَمة ومجد.
ووَصْفُ القرآن بأنّه مجيد لا يعني أنّ المجد وصفٌ للقرآن نفسِه فقط، بل هو وصف للقرآن ولِمَن تحمَّل هذا القرآن فحمله، وقام بواجبه مِن تلاوته حقّ تلاوته، فإنّه سيكون له المجد والعزة والرفعة.
وقوله تعالى: (( فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ )) يعني بذلك: اللوح المحفوظ عند الله عزّ وجلّ الذي هو أمّ الكتاب، كما قال الله تبارك وتعالى: (( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ )).
هذا اللوح لو سألنا سائل: من أي مادّة هو؟ ماذا نقول؟
نقول: الله أعلم، فلو قال: هل هو من خشب؟ أو من حديد؟ أو من زجاج؟ أو من ذهب؟ أو من فضة؟
لقلنا: لا ندري، هو لوح كتب الله فيه مقادير كل شيء، ومن جملة ما كَتَبَ فيه أن هذا القرآن سينزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فهو في لوح محفوظ. قال العلماء: محفوظ لا يناله أحد، محفوظٌ عن التّغيير والتّبديل، والتبديل والتغيير إنما يكون في الكتب الأخرى، لأنّ الكتابة من الله عزّ وجلّ أنواع، وأرجو أن تنتبهوا لهذا:
النوع الأول: الكتابة في اللوح المحفوظ، وهذه الكتابة لا تُبَدَّل ولا تُغَيَّر، ولهذا سماه الله لوحاً محفوظاً، لا يمكن أن يُبَدَّل أو يُغَيَّر ما فيه، لأنه هو النهائي.
الثاني: الكتابة على بني آدم وهم في بطون أمّهاتهم، لأنّ الإنسان في بطن أمّه إذا تمّ له أربعة أشهر بعث الله إليه ملكاً موكَّلاً بالأرحام، فينفخ فيه الرّوح بإذن الله، لأنّ الجسد عبارة عن قطعة من اللحم، إذا نفخت فيه الرّوح صار إنساناً، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقِه، وأجله، وعمله، وشقيّ أو سعيد.
هناك كتابة أخرى حوليّة، كلّ سنة وهي الكتابة التي تكون في ليلة القدر، فإن الله سبحانه وتعالى يقدّر في هذه اللّيلة ما يكون في تلك السّنة، قال الله تبارك وتعالى: (( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ))، فيكتب في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة.
هناك كتابة رابعة وهي: كتابة الصحف التي في أيدي الملائكة، وهذه الكتابة تكون بعد العمل، والكتابات الثلاث السابقة كلّها تكون قبل العمل، لكن الكتابة الأخيرة هذه تكون بعد العمل، يُكتَب على الإنسان ما يعمل من قول بلسانه، أو فعل بجوارحه، أو اعتقاد بقلبه، فإنّ الملائكة الموكّلين بحفظ بني آدم أي بحفظ أعمالهم يكتبون، قال الله تعالى: (( كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ )).
فهذه الكتابة الأخيرة تختلف عن الكتابات الثلاث السابقة، لأنها كتابةُ ما بعد العمل حتى يُكتَب على الإنسان ما عمل، فإذا كان يوم القيامة فإنه يُعطَى هذا الكتاب، كما قال الله تعالى: (( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )) يعني: تُعطَى الكتاب، ويقال: أنت اقرأ، وحاسب نفسك، قال بعض السلف: " لقد أنصفَك مَن جعلك حسيباً على نفسك "، وهذا صحيح، أيُّ إنصاف أبلغ من أن يقال لشخص: تفضَّل، هذا ما عملت، حاسِب نفسك! أليس هذا هو الإنصاف؟!
أكبر إنصاف هو هذا، فيوم القيامة تعطى هذا الكتاب منشوراً مفتوحاً أمامك ليس مغلقاً، تقرأ ويتبين لك أنّك عملت في يوم كذا، في مكان كذا كذا وكذا، فهو شيء مضبوط لا يتغير، وإذا أنكرت فهناك مَن يشهد عليك: (( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ )) يقول اللسان: نطقت بكذا.
(( وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) تقول اليد: بطشت، وتقول الرجل: مشيت، بل يقول الجلد أيضاً، فالجلود تشهد بما لمست: (( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )).
المهمّ الآن أنّ اللوح المحفوظ هو هذا اللّوح الذي كتب الله فيه مقادير كل شيء، وهو محفوظ من التغيير، محفوظ من أن يناله أحد، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كَتَب فيه، وقلنا: إنه محفوظ لأنه لا يتغير، وما بأيدي الملائكة يتغير، وقلنا إنّ الكتابات أربعة:
اللوح المحفوظ، والثانية كتابة الأجنة، والثالثة: الكتابة الحولية، تكون في ليلة القدر، والرابعة: كتابة الأعمال بعد وقوعها، وتكون هذه بأيدي الملائكة، عن اليمين واحد من الملائكة، وعن الشمال واحد، يسجّلان على الإنسان كلَّ ما يقول، نحن الآن نسجّل في الشّريط فلا يفوت شيء من كلامنا، حتى النّفس يدرك بهذا الشريط، فالملائكة أيضاً يكتبون كل شيء: (( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )): ومن قول هذه يقول علماء البلاغة: إنّ النّكرة في سياق النفي تفيد العموم، أيْ: أنَّ أيَّ قول تقوله فعندك رقيب عتيد حاضر لا يغيب عنك، ويذكر أن الإمام أحمد رحمه الله كان مريضاً، وكان يئنّ في مرضه من شدة المرض، فدخل عليه أحد أصحابه، وقال: " يا أبا عبد الله إن طاوساً -وهو رجل من التابعين معروف- يقول: إن الملائكة تكتُب على الإنسان حتى أنين المرض "، حتى أنينه في مرضه، " فأمسك رحمه الله عن الأنين "، فالأمر ليس بالأمر الهين، نسأل الله تعالى أن يتولاّنا وإيّاكم بعفوه ومغفرته.
وإلى هنا ينتهي الكلام على هذه السّورة العظيمة، التي ابتدأها الله تعالى بالقسم بالسّماء ذات البروج، وأنهاها بقوله: (( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ))، فمن تمسّك بهذا القرآن العظيم فله المجد والعزّة والكرامة والرّفعة، ولهذا ننصح أمّتنا الإسلامية بادئين بأفراد شعوبها أن يتمسّكوا بالقرآن العظيم، ونوجِّه الدّعوة على وجهٍ أوكد وأوكد إلى ولاة أمورها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، وألاّ يغرّهم البهرج المزخرف الذي يَرِدُ من الأمم الكافرة التي تضع القوانين المخالفة للشريعة، المخالفة للعدل، المخالفة لإصلاح الخلق، أن يضعوها هذه القوانين موضع التنفيذ، ثم ينبذوا كتاب الله وسنة رسوله وراء ظهورهم، فإنّ هذا والله سبب التأخر، ولا أظنّ أحداً يتصور الآن أنّ أمّة بهذا العدد الهائل تكون متأخّرة هذا التأخر، وكأنها إمارة في قرية بالنسبة للدول الكافرة، لكن سبب ذلك لا شكّ معلوم، وهو: أنّنا تركنا ما به عزّتنا وكرامتنا وهو التّمسّك بهذا القرآن العظيم، وذهبنا نلهث وراء أنظمة بائدة، فاسدة، مخالفة للعدل، مبنيّة على الظلم والجور، فنحن نناشد ولاة أمورنا، وأقصد بولاة أمورنا: ولاة أمور المسلمين جميعاً، لأننا أمة واحدة، وإن تفرقت بنا البلدان، واختلفت مِنَّا الألسن: أناشدهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن يرجعوا رجوعاً حقيقياً إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يستتبّ لهم الأمن والاستقرار، وتحصل لهم العزة والمجد والرفعة، وتطيعهم شعوبهم، ولا يكون في قلوب شعوبهم عليهم شيء، وذلك لأن الإنسان إذا أصلح ما بينه وبين ربه أصلح الله ما بينه وبين الناس، فإذا كان ولاّة الأمور يريدون أن تُذْعِن لهم الشعوب وأن يطيعوا الله فيهم، فليطيعوا الله أولاً حتى تطيعهم أممهم، وإلاّ فليس من المعقول أن يعصوا الملك الأكبر، وهو الله عز وجل، ثم يريدون أن تطيعهم شعوبهم، هذا بعيد، بل كلّما بعُد القلب عن الله بَعُد الناس عن صاحبهم، نسأل الله العافية، وكلما قَرُب من الله قَرُب الناس منه.
فنسأل الله أن يعيد لهذه الأمة الإسلامية مجدها وكرامتها، وأن يذل أعداء المسلمين في كل مكان، ونسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، وأن يعينهم على ما أصابهم من هؤلاء النّصارى الذين لا يريدون أن تقوم للمسلمين قائمة في أيّ مكان، ونسأل الله أن يذلّ النصارى واليهود، وأن يكبتهم، وأن يردّهم على أعقابهم خائبين، وكذلك كلّ عدوّ للمسلمين، إنه على كل شيء قدير.
والآن نأخذ الأسئلة، ولكلّ واحد سؤال فقط مرّة على اليمين ومرّة على الشّمال حرصا على إقامة العدل.