تفسير أول سورة الأعلى إلى قوله تعالى : " والذي أخرج المرعى " . حفظ
الشيخ : الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنّنا نستفتح لقاءنا هذا الأسبوعي الثاني، من شهر رجب عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، والذي يتمّ في كلّ يوم خميس، نستفتحه بتفسير سورة: (( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )) لأنّه انتهى بنا المطاف في تفسير جزء النّبأ إلى هذه السّورة، واخترنا أن نفسّر السّور القصيرة في المفصّل لأنّها تقرأ كثيرا في الصّلوات على العامّة، والقرآن نزل لأمور ثلاثة:
الأمر الأوّل: التّعبد لله سبحانه وتعالى بتلاوته، الذي يترتّب عليه الأجر، فإنّ من قرأ حرفا من القرآن كان له به عشر حسنات.
والثاّني: التّدبّر لمعانيه.
والثالث: الاتّعاظ به، قال الله تعالى: (( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ))، ولا يمكن أن يتذكّر أحد بالقرآن إلاّ إذا عرف المعنى، لأنّ الذي لا يعرف المعنى بمنزلة الذي لا يقرأ، كما قال الله تعالى: (( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ )) أي: إلا قراءة.
لهذا ينبغي للمسلم أن يحرص على معرفة معنى القرآن حتّى ينتفع به، وحتّى يكون متّبعًا لآثار السّلف فإنّهم: " كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتّى يتعلّموها وما فيها من العلم والعمل ".
فنبدأ بأوّل سورة (( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )):
البسملة سبق الكلام عليها، وأنّها آية من كتاب الله مستقلّة، ليست من الفاتحة، ولا من البقرة، ولا من آل عمران، ولا من أيّ سورة في القرآن، لكنّها آية مستقلّة تتنزل في ابتداء كل سورة، ولهذا كان الصّحيح أنّ الفاتحة أوّل آية فيها (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )) والثّانية: (( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) والثالثة: (( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)) والرابعة: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) والخامسة: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ))، والسّادسة: (( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )) والسّابعة: (( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )) هذا هو القول الصّحيح الذي دلّت عليه سنّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
يقول الله تعالى: (( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )): والخطاب هنا للرّسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، والخطاب الموجّه للرّسول في القرآن الكريم على ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: أن يقوم الدّليل على أنّه خاصّ به فيختصّ به.
والثاني: أن يقوم الدّليل على أنّه عام، فيعمّ.
والثّالث: ألاّ يدلّ الدّليل على هذا ولا على هذا، فيكون خاصًّا به لفظاً، عامّا له وللأمّة حكمًا.
مثال الأوّل: قوله تبارك وتعالى: (( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ))، ومثاله أيضًا قوله تعالى: (( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً )) فإنّ هذا من المعلوم أنّه خاصّ بالنّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
ومثال الثّاني: الموجّه للرّسول عليه الصّلاة والسّلام وفيه قرينة تدلّ على العموم قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ )) فوجّه الخطاب أوّلا للرّسول عليه الصّلاة والسّلام قال: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ )) ولم يقل يا أيّها الذين آمنوا إذا طلقتم، قال: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ))، ولم يقل: يا أيها النبي إذا طلقت، قال: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ )) فدلّ هذا على أنّ الخطاب الموجّه للرّسول عليه الصّلاة والسّلام موجّه له وللأمّة.
وأمّا أمثلة الثّالث فهي كثيرة جدّا، يوجّه الله الخطاب للرّسول عليه الصّلاة والسّلام والمراد: الخطاب له لفظا وللعموم حكما.
هنا يقول الله عز وجل: (( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )): سبّح يعني: نزّه الله عن كلّ ما لا يليق بجلاله وعظمته، فإنّ التّسبيح يعني: التّنـزيه، إذا قلت: سبحان الله يعني أنّني أنـزّه الله عن كلّ سوء، عن كّل عيب، عن كلّ نقص، ولهذا كان من أسماء الله تعالى السّلام، القدوّس، لأنّه متنـزّه عن كل عيب.
ونحن نضرب لكم الأمثلة:
من صفات الله تعالى الحياة، هل في حياته نقص؟
لا، حياة المخلوق فيها نقص، أوّلًا: لأنّها مسبوقة بالعدم، فالإنسان ليس أزليّا.
وثانيا أنّها ملحوقة بالفناء، (( كُلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ )).
السّمع، سمع الله عزّ وجلّ فيه نقص؟
الجواب: لا، ليس فيه نقص، يسمع كلّ شيء، حتىّ إنّ المرأة التي جاءت تشتكي إلى النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم والتي ذكر الله تعالى قصّتها في سورة المجادلة، كانت تحدّث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعائشة في الحجرة يخفى عليها بعض حديثها، والله تعالى يقول في كتابه: (( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا )) ولهذا قالت عائشة: ( الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إنّ المرأة المجادلة لتشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنه ليخفى عليّ بعض حديثها ).
إذن معنى سبحان الله إيش؟
أنزّه الله عن كل عيب ونقص.
وقوله: (( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )) قال بعض المفسّرين إنّ قوله: (( اسم ربك )) يعني: مسمّى ربّك، لأنّ التّسبيح ليس للاسم بل لله نفسه، ولكن الصّحيح أنّ معناها سبّح ربّك ذاكرًا اسمه، يعني لا تسبّحه بالقلب فقط، بل سبّحه بالقلب واللّسان، وذلك بذكر اسمه تعالى، ويدلّ لهذا المعنى قوله تعالى: (( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ))، يعني: سبّح تسبيحًا مقرونا بالاسم، وذلك لأنّ تسبيح الله تعالى قد يكون بالقلب -بالعقيدة-، وقد يكون باللّسان، وقد يكون بهما جميعًا، والمقصود أن يسبّح بهما جميعًا بقلبه لافظًا بلسانه.
وقوله: (( رَبِّكَ )): الرّبّ معناه: الخالق المالك المدبّر لجميع الأمور، فالله تعالى هو الخالق، وهو المالك، وهو المدبّر لجميع الأمور، وهل المشركون يُقرّون بذلك؟
الجواب: نعم، يقرون بذلك، (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ))، (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )) وأخبر الله سبحانه وتعالى أنّهم إذا سئلوا: (( أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ )) فهم يقرّون بأنّ الله له الملك، وله التّدبير، وله الخلق، لكن يعبدون معه غيره من الجهل، كيف تقرّ بأنّ الله هو وحده الخالق المالك المدبّر للأمور كلّها وتعبد معه غيره؟!
إذن معنى الرب على هذا هو: الخالق المالك المدبّر لجميع الأمور، وكل إنسان يقرّ بذلك يلزمه ألاّ يعبد إلاّ الله، كما تدلّ عليه الآيات الكثيرة: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ )) قال اعبدوا ربكم الذي خلقكم يعني لا تعبدون غيره.
(( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )) الأعلى: من العلوّ، وعلوّ الله عزّ وجلّ نوعان:
علوّ صفة، وعلوّ ذات.
أمّا علوّ الصّفة: فإنّ أكمل الصّفات لله عزّ وجلّ، قال تعالى: (( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى )).
وأمّا علوّ الذّات: فهو أنّ الله تعالى فوق عباده مستوٍ على عرشه، والإنسان إذا قال يا الله أين يتّجه؟
إلى السّماء -إلى فوق- فالله جلّ وعلا فوق كلّ شيء مستوٍ على عرشه، إذن (( الْأَعْلَى )) إذا قرأتها فاستشعر بنفسك أنّ الله عال بصفاته وعالٍ بذاته، ولهذا كان الإنسان إذا سجد يقول: " سبحان ربّي الأعلى "، يتذكّر بسفوله هو لأنّه هو الآن نزل، أنزل شيء هو هذا، أشرف ما في الإنسان وأعلى ما فيه هو وجهه، ومع ذلك ينزلّه ويجعله في الأرض التي تداسُ بالأقدام، فكان من الحكمة أن يقول: " سبحان ربّي الأعلى " أي أنزّه ربّي الذي هو فوق كلّ شيء لأنّني نزلت أنا أسفل كلّ شيء، فتسبح الله الأعلى بصفاته والأعلى بذاته، وتشعر عندما تقول: سبحان ربي الأعلى، أن ربك تعالى فوق كل شيء، وأنه أكملُ كل شيء في الصفات.
ثم قال: (( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى )) خلق يعني: أوجد من العدم، كلّ المخلوقات أوجدها الله عزّ وجلّ، قال الله تبارك وتعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ )) سبحان الله! الله يقول: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ )) استمع: (( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ )) والله مثل عظيم، كلّ الذين تدعون من دون الله لا يخلقون ذباباً ولو اجتمعوا له، لو يجتمع جميع الآلهة الّتي تعبد من دون الله وجميع السّلاطين وجميع الرّؤساء وجميع المهندسين على أن يخلقوا ذباباً واحداً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، الآن ونحن في هذا العصر وقد تقدّمت الصّناعة هذا التّقدّم الهائل، لو اجتمع كلّ هؤلاء الخلق أن يخلقوا ذبابا ما استطاعوا، حتّى لو أنّهم كما يقولون صنعوا آدميّا آليّاً، ما يستطيعون أن يخلقوا ذباباً، هذا الآدميّ الآليّ ما هو إلاّ آلات تتحرّك فقط، لكن لا تجوع ولا تعطش، ولا تحترّ، ولا تبرد، ولا تتحرّك إلاّ بتحريك، الذّباب لا يمكن أن يخلقه كلّ من سوى الله، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الخالق، وبماذا يخلق؟
بكلمة واحدة، قال تعالى: (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ))، وقال تعالى: (( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )): كلمة واحدة.
الخلائق كلها تموت وتفنى وتأكلها الأرض وتأكلها السباع وتحرقها النّيران، وإذا كان يوم القيامة زجرها الله زجرة واحدة، اخرجي فتخرج، (( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ))، (( إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ )): كلّ العالم من إنس وجنّ، ووحوش وحشرات، وغيرها كلّها يوم القيامة تُحشر بكلمة واحدة.
إذن فالله عزّ وجلّ وحده هو الخالق، ولا أحد يخلق معه، والخلق لا يعسره ولا يعجزه وهو سهل عليه، ويكون بكلمة واحدة، وقوله: (( خَلَقَ فَسَوَّى )) يعني سوّى ما خلقه على أحسن صورة وعلى الصورة المناسبة، الإنسان مثلا قال الله تعالى في سورة الانفطار: (( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ))، (( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ))، لا يوجد في الخلائق شيء أحسن من خِلقة الإنسان، رأسه فوق، وقلبه في الصدر، وعلى هيئة تامّة، ولهذا أوّل ما يدخل في قوله: (( فَسَوَّى )) هو تسوية الإنسان.
(( الّذِي خَلَقَ فَسَوَّى )) كلّ شيء مسوّى على الوجه الذي يكون لائقاً به.
(( وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )): قدّر كل شيء عزّ وجلّ كما قال تعالى: (( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً )) قدره في حاله وفي مآله، وفي ذاته وفي صفاته، كلّ شيء له قدر محدود، الآجال محدودة، والأحوال محدودة، والأجسام محدودة، كلّ شيء مقدّر تقديرًا كما قال تعالى: (( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً )) وقوله: (( فَهَدَى )) يشمل الهداية الشّرعيّة والهداية الكونيّة.
الهداية الكونية: أنّ الله هدى كلّ شيء لما خُلِق له، قال فرعون لموسى: (( قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )): تجد أن كل مخلوق قد هداه الله تعالى لما يحتاج إليه، الطّفل الآن انظر إليه إذا خرج من بطن أمّه وأراد أن يرضع، هل فيه أحد يقول له: ارفع رأسك ارضع من الثدي؟ لا، ولو كان فيه أحد ما فهمه، لكن يهديه الله عزّ وجلّ إلى هذا الثدي يرتضع منه.
انظر إلى أدنى الحشرات، النّمل مثلا، أين تضع بيوتها؟
لا تضع بيوتها إلاّ في مكان مرتفع من الأرض على ربوة من الأرض، لماذا؟
تخشى من السّيول تدخل بيوتها فتفسدها، وأيضاً إذا جاء المطر وكان في جحورها أو في بيوتها طعام من الحبوب تخرج به إذا طلعت الشّمس تنشره، لماذا؟
لئلا يعفن، وهي قبل أن تدّخره تأكل أطرافها أطراف الحبّة، لئلاّ تنبت فتفسد عليها، هذا شيء مشاهد مجرّب فمن الذي هداها لذلك؟!
هداها الله عزّ وجلّ، هذه هداية كونيّة، أنّه هدى كلّ مخلوق لما يحتاج إليه.
أما الهداية الشّرعية: وهي الأهمّ بالنّسبة لبني آدم فهي أيضا بيّنها الله عزّ وجلّ على وجه تقوم به الحجّة، حتى الكفار قد هداهم الله يعني بيّن لهم قال الله تعالى: (( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى )) والعياذ بالله، استحبّوا الكفر على الإيمان.
والهداية الشرعية هي المقصودة من حياة بني آدم: (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ))، وإنما أخبرنا الله بذلك، لأجل أن نلجأ إليه في جميع أمورنا، إذا علمنا أنّه هو الخالق بعد العدم، وأصابنا مرض إلى من نلجأ؟
إلى الله، الجأ إلى الله لأنّ الذي خلقك وأوجدك من العدم، وهو قادر على أن يصحّح بدنك، إذن الجأ إلى ربّك اعتمد عليه، ولا حرج أن تتناول ما أباح لك من الدّواء، لكن مع اعتقاد أنّ هذا الدّواء مثلاً سبب من الأسباب جعله الله عزّ وجلّ، وإذا شفيت بهذا السّبب فمن الذي شفاك؟
الله عزّ وجلّ، هو الذي جعل هذا الدّواء سببًا لشفائك، ولو شاء لجعل هذا الدّواء سببا لهلاكك.
فإذا علمنا أنّ الله هو الخالق فنحن نلجأ في أمورنا كلّها إلى الله عزّ وجلّ، إذا علمنا أنّه هو الهادي فإنّنا نستهدي بهدايته، بشريعته، حتّى نصل إلى ما أعدّ لنا ربّنا عزّ وجلّ من الكرامة، نسأل الله تعالى أن يهدينا وإيّاكم صراطه المستقيم، وأن يحلّنا وإيّاكم دار كرامته، مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيّين، والصّدّيقين، والشّهداء، والصّالحين، وإلى هنا ينتهي الكلام على هذه الآيات الكريمة.
وأحثّكم مرّة أخرى على تعلّم معاني آيات القرآن إذا شئتم أن تنتفعوا به حقيقة فعليكم بمعرفة معناه، لكن من أين؟
من العلماء الموثوقين، أو من تفاسير العلماء الموثوقين، لأنّ الناس تكلّموا في كلام الله وبحثوا في معانيه، لكن منهم من هُدي إلى الّصراط المستقيم، ومنهم من حصل له انحراف لسبب من الأسباب إمّا لقصور علمه، أو فهمه أو سوء نيّته، لأنّ الإنسان قد يحرم الصّواب بسبب سوء النّيّة والعياذ بالله. الآن نبدأ بالأسئلة.
أما بعد: فإنّنا نستفتح لقاءنا هذا الأسبوعي الثاني، من شهر رجب عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، والذي يتمّ في كلّ يوم خميس، نستفتحه بتفسير سورة: (( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )) لأنّه انتهى بنا المطاف في تفسير جزء النّبأ إلى هذه السّورة، واخترنا أن نفسّر السّور القصيرة في المفصّل لأنّها تقرأ كثيرا في الصّلوات على العامّة، والقرآن نزل لأمور ثلاثة:
الأمر الأوّل: التّعبد لله سبحانه وتعالى بتلاوته، الذي يترتّب عليه الأجر، فإنّ من قرأ حرفا من القرآن كان له به عشر حسنات.
والثاّني: التّدبّر لمعانيه.
والثالث: الاتّعاظ به، قال الله تعالى: (( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ))، ولا يمكن أن يتذكّر أحد بالقرآن إلاّ إذا عرف المعنى، لأنّ الذي لا يعرف المعنى بمنزلة الذي لا يقرأ، كما قال الله تعالى: (( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ )) أي: إلا قراءة.
لهذا ينبغي للمسلم أن يحرص على معرفة معنى القرآن حتّى ينتفع به، وحتّى يكون متّبعًا لآثار السّلف فإنّهم: " كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتّى يتعلّموها وما فيها من العلم والعمل ".
فنبدأ بأوّل سورة (( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )):
البسملة سبق الكلام عليها، وأنّها آية من كتاب الله مستقلّة، ليست من الفاتحة، ولا من البقرة، ولا من آل عمران، ولا من أيّ سورة في القرآن، لكنّها آية مستقلّة تتنزل في ابتداء كل سورة، ولهذا كان الصّحيح أنّ الفاتحة أوّل آية فيها (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )) والثّانية: (( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) والثالثة: (( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)) والرابعة: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) والخامسة: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ))، والسّادسة: (( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )) والسّابعة: (( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )) هذا هو القول الصّحيح الذي دلّت عليه سنّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
يقول الله تعالى: (( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )): والخطاب هنا للرّسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، والخطاب الموجّه للرّسول في القرآن الكريم على ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: أن يقوم الدّليل على أنّه خاصّ به فيختصّ به.
والثاني: أن يقوم الدّليل على أنّه عام، فيعمّ.
والثّالث: ألاّ يدلّ الدّليل على هذا ولا على هذا، فيكون خاصًّا به لفظاً، عامّا له وللأمّة حكمًا.
مثال الأوّل: قوله تبارك وتعالى: (( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ))، ومثاله أيضًا قوله تعالى: (( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً )) فإنّ هذا من المعلوم أنّه خاصّ بالنّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
ومثال الثّاني: الموجّه للرّسول عليه الصّلاة والسّلام وفيه قرينة تدلّ على العموم قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ )) فوجّه الخطاب أوّلا للرّسول عليه الصّلاة والسّلام قال: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ )) ولم يقل يا أيّها الذين آمنوا إذا طلقتم، قال: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ))، ولم يقل: يا أيها النبي إذا طلقت، قال: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ )) فدلّ هذا على أنّ الخطاب الموجّه للرّسول عليه الصّلاة والسّلام موجّه له وللأمّة.
وأمّا أمثلة الثّالث فهي كثيرة جدّا، يوجّه الله الخطاب للرّسول عليه الصّلاة والسّلام والمراد: الخطاب له لفظا وللعموم حكما.
هنا يقول الله عز وجل: (( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )): سبّح يعني: نزّه الله عن كلّ ما لا يليق بجلاله وعظمته، فإنّ التّسبيح يعني: التّنـزيه، إذا قلت: سبحان الله يعني أنّني أنـزّه الله عن كلّ سوء، عن كّل عيب، عن كلّ نقص، ولهذا كان من أسماء الله تعالى السّلام، القدوّس، لأنّه متنـزّه عن كل عيب.
ونحن نضرب لكم الأمثلة:
من صفات الله تعالى الحياة، هل في حياته نقص؟
لا، حياة المخلوق فيها نقص، أوّلًا: لأنّها مسبوقة بالعدم، فالإنسان ليس أزليّا.
وثانيا أنّها ملحوقة بالفناء، (( كُلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ )).
السّمع، سمع الله عزّ وجلّ فيه نقص؟
الجواب: لا، ليس فيه نقص، يسمع كلّ شيء، حتىّ إنّ المرأة التي جاءت تشتكي إلى النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم والتي ذكر الله تعالى قصّتها في سورة المجادلة، كانت تحدّث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعائشة في الحجرة يخفى عليها بعض حديثها، والله تعالى يقول في كتابه: (( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا )) ولهذا قالت عائشة: ( الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إنّ المرأة المجادلة لتشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنه ليخفى عليّ بعض حديثها ).
إذن معنى سبحان الله إيش؟
أنزّه الله عن كل عيب ونقص.
وقوله: (( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )) قال بعض المفسّرين إنّ قوله: (( اسم ربك )) يعني: مسمّى ربّك، لأنّ التّسبيح ليس للاسم بل لله نفسه، ولكن الصّحيح أنّ معناها سبّح ربّك ذاكرًا اسمه، يعني لا تسبّحه بالقلب فقط، بل سبّحه بالقلب واللّسان، وذلك بذكر اسمه تعالى، ويدلّ لهذا المعنى قوله تعالى: (( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ))، يعني: سبّح تسبيحًا مقرونا بالاسم، وذلك لأنّ تسبيح الله تعالى قد يكون بالقلب -بالعقيدة-، وقد يكون باللّسان، وقد يكون بهما جميعًا، والمقصود أن يسبّح بهما جميعًا بقلبه لافظًا بلسانه.
وقوله: (( رَبِّكَ )): الرّبّ معناه: الخالق المالك المدبّر لجميع الأمور، فالله تعالى هو الخالق، وهو المالك، وهو المدبّر لجميع الأمور، وهل المشركون يُقرّون بذلك؟
الجواب: نعم، يقرون بذلك، (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ))، (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )) وأخبر الله سبحانه وتعالى أنّهم إذا سئلوا: (( أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ )) فهم يقرّون بأنّ الله له الملك، وله التّدبير، وله الخلق، لكن يعبدون معه غيره من الجهل، كيف تقرّ بأنّ الله هو وحده الخالق المالك المدبّر للأمور كلّها وتعبد معه غيره؟!
إذن معنى الرب على هذا هو: الخالق المالك المدبّر لجميع الأمور، وكل إنسان يقرّ بذلك يلزمه ألاّ يعبد إلاّ الله، كما تدلّ عليه الآيات الكثيرة: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ )) قال اعبدوا ربكم الذي خلقكم يعني لا تعبدون غيره.
(( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )) الأعلى: من العلوّ، وعلوّ الله عزّ وجلّ نوعان:
علوّ صفة، وعلوّ ذات.
أمّا علوّ الصّفة: فإنّ أكمل الصّفات لله عزّ وجلّ، قال تعالى: (( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى )).
وأمّا علوّ الذّات: فهو أنّ الله تعالى فوق عباده مستوٍ على عرشه، والإنسان إذا قال يا الله أين يتّجه؟
إلى السّماء -إلى فوق- فالله جلّ وعلا فوق كلّ شيء مستوٍ على عرشه، إذن (( الْأَعْلَى )) إذا قرأتها فاستشعر بنفسك أنّ الله عال بصفاته وعالٍ بذاته، ولهذا كان الإنسان إذا سجد يقول: " سبحان ربّي الأعلى "، يتذكّر بسفوله هو لأنّه هو الآن نزل، أنزل شيء هو هذا، أشرف ما في الإنسان وأعلى ما فيه هو وجهه، ومع ذلك ينزلّه ويجعله في الأرض التي تداسُ بالأقدام، فكان من الحكمة أن يقول: " سبحان ربّي الأعلى " أي أنزّه ربّي الذي هو فوق كلّ شيء لأنّني نزلت أنا أسفل كلّ شيء، فتسبح الله الأعلى بصفاته والأعلى بذاته، وتشعر عندما تقول: سبحان ربي الأعلى، أن ربك تعالى فوق كل شيء، وأنه أكملُ كل شيء في الصفات.
ثم قال: (( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى )) خلق يعني: أوجد من العدم، كلّ المخلوقات أوجدها الله عزّ وجلّ، قال الله تبارك وتعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ )) سبحان الله! الله يقول: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ )) استمع: (( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ )) والله مثل عظيم، كلّ الذين تدعون من دون الله لا يخلقون ذباباً ولو اجتمعوا له، لو يجتمع جميع الآلهة الّتي تعبد من دون الله وجميع السّلاطين وجميع الرّؤساء وجميع المهندسين على أن يخلقوا ذباباً واحداً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، الآن ونحن في هذا العصر وقد تقدّمت الصّناعة هذا التّقدّم الهائل، لو اجتمع كلّ هؤلاء الخلق أن يخلقوا ذبابا ما استطاعوا، حتّى لو أنّهم كما يقولون صنعوا آدميّا آليّاً، ما يستطيعون أن يخلقوا ذباباً، هذا الآدميّ الآليّ ما هو إلاّ آلات تتحرّك فقط، لكن لا تجوع ولا تعطش، ولا تحترّ، ولا تبرد، ولا تتحرّك إلاّ بتحريك، الذّباب لا يمكن أن يخلقه كلّ من سوى الله، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الخالق، وبماذا يخلق؟
بكلمة واحدة، قال تعالى: (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ))، وقال تعالى: (( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )): كلمة واحدة.
الخلائق كلها تموت وتفنى وتأكلها الأرض وتأكلها السباع وتحرقها النّيران، وإذا كان يوم القيامة زجرها الله زجرة واحدة، اخرجي فتخرج، (( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ))، (( إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ )): كلّ العالم من إنس وجنّ، ووحوش وحشرات، وغيرها كلّها يوم القيامة تُحشر بكلمة واحدة.
إذن فالله عزّ وجلّ وحده هو الخالق، ولا أحد يخلق معه، والخلق لا يعسره ولا يعجزه وهو سهل عليه، ويكون بكلمة واحدة، وقوله: (( خَلَقَ فَسَوَّى )) يعني سوّى ما خلقه على أحسن صورة وعلى الصورة المناسبة، الإنسان مثلا قال الله تعالى في سورة الانفطار: (( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ))، (( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ))، لا يوجد في الخلائق شيء أحسن من خِلقة الإنسان، رأسه فوق، وقلبه في الصدر، وعلى هيئة تامّة، ولهذا أوّل ما يدخل في قوله: (( فَسَوَّى )) هو تسوية الإنسان.
(( الّذِي خَلَقَ فَسَوَّى )) كلّ شيء مسوّى على الوجه الذي يكون لائقاً به.
(( وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )): قدّر كل شيء عزّ وجلّ كما قال تعالى: (( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً )) قدره في حاله وفي مآله، وفي ذاته وفي صفاته، كلّ شيء له قدر محدود، الآجال محدودة، والأحوال محدودة، والأجسام محدودة، كلّ شيء مقدّر تقديرًا كما قال تعالى: (( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً )) وقوله: (( فَهَدَى )) يشمل الهداية الشّرعيّة والهداية الكونيّة.
الهداية الكونية: أنّ الله هدى كلّ شيء لما خُلِق له، قال فرعون لموسى: (( قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )): تجد أن كل مخلوق قد هداه الله تعالى لما يحتاج إليه، الطّفل الآن انظر إليه إذا خرج من بطن أمّه وأراد أن يرضع، هل فيه أحد يقول له: ارفع رأسك ارضع من الثدي؟ لا، ولو كان فيه أحد ما فهمه، لكن يهديه الله عزّ وجلّ إلى هذا الثدي يرتضع منه.
انظر إلى أدنى الحشرات، النّمل مثلا، أين تضع بيوتها؟
لا تضع بيوتها إلاّ في مكان مرتفع من الأرض على ربوة من الأرض، لماذا؟
تخشى من السّيول تدخل بيوتها فتفسدها، وأيضاً إذا جاء المطر وكان في جحورها أو في بيوتها طعام من الحبوب تخرج به إذا طلعت الشّمس تنشره، لماذا؟
لئلا يعفن، وهي قبل أن تدّخره تأكل أطرافها أطراف الحبّة، لئلاّ تنبت فتفسد عليها، هذا شيء مشاهد مجرّب فمن الذي هداها لذلك؟!
هداها الله عزّ وجلّ، هذه هداية كونيّة، أنّه هدى كلّ مخلوق لما يحتاج إليه.
أما الهداية الشّرعية: وهي الأهمّ بالنّسبة لبني آدم فهي أيضا بيّنها الله عزّ وجلّ على وجه تقوم به الحجّة، حتى الكفار قد هداهم الله يعني بيّن لهم قال الله تعالى: (( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى )) والعياذ بالله، استحبّوا الكفر على الإيمان.
والهداية الشرعية هي المقصودة من حياة بني آدم: (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ))، وإنما أخبرنا الله بذلك، لأجل أن نلجأ إليه في جميع أمورنا، إذا علمنا أنّه هو الخالق بعد العدم، وأصابنا مرض إلى من نلجأ؟
إلى الله، الجأ إلى الله لأنّ الذي خلقك وأوجدك من العدم، وهو قادر على أن يصحّح بدنك، إذن الجأ إلى ربّك اعتمد عليه، ولا حرج أن تتناول ما أباح لك من الدّواء، لكن مع اعتقاد أنّ هذا الدّواء مثلاً سبب من الأسباب جعله الله عزّ وجلّ، وإذا شفيت بهذا السّبب فمن الذي شفاك؟
الله عزّ وجلّ، هو الذي جعل هذا الدّواء سببًا لشفائك، ولو شاء لجعل هذا الدّواء سببا لهلاكك.
فإذا علمنا أنّ الله هو الخالق فنحن نلجأ في أمورنا كلّها إلى الله عزّ وجلّ، إذا علمنا أنّه هو الهادي فإنّنا نستهدي بهدايته، بشريعته، حتّى نصل إلى ما أعدّ لنا ربّنا عزّ وجلّ من الكرامة، نسأل الله تعالى أن يهدينا وإيّاكم صراطه المستقيم، وأن يحلّنا وإيّاكم دار كرامته، مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيّين، والصّدّيقين، والشّهداء، والصّالحين، وإلى هنا ينتهي الكلام على هذه الآيات الكريمة.
وأحثّكم مرّة أخرى على تعلّم معاني آيات القرآن إذا شئتم أن تنتفعوا به حقيقة فعليكم بمعرفة معناه، لكن من أين؟
من العلماء الموثوقين، أو من تفاسير العلماء الموثوقين، لأنّ الناس تكلّموا في كلام الله وبحثوا في معانيه، لكن منهم من هُدي إلى الّصراط المستقيم، ومنهم من حصل له انحراف لسبب من الأسباب إمّا لقصور علمه، أو فهمه أو سوء نيّته، لأنّ الإنسان قد يحرم الصّواب بسبب سوء النّيّة والعياذ بالله. الآن نبدأ بالأسئلة.