إقامة المسافر في بلد هل ينقطع بها حكم السفر أو لا ينقطع .؟ حفظ
السائل : بسم الله الرّحمن الرّحيم .
يا شيخ لقد سمعنا عن فضيلتكم فتوى قد تداولها طلبة العلم وهي مسألة القصر في السّفر، والكثير من طلبة العلم يقولون إن الشيخ يقول: أنّ طلبة العلم إذا قدموا من بلدان من خارج المملكة أنّهم يقصرون الصّلاة مدّة بقائهم إذا صلّوا فرادى، فنريد الأدلّة على ذلك بالتّفصيل، جزاكم الله خيراً؟
الشيخ : هذه المسألة بارك الله فيك وهي إقامة المسافر في بلد هل ينقطع بها حكم السفر أو لا ينقطع؟
والعلماء مختلفون في هذه المسألة على أكثر من عشرين قولاً ذكرها النّووي في *المجموع شرح المهذب*، وذلك أن المسألة ليس فيها نص قاطع يفصل بين المختلفين، لذلك ذهب شيخ الإسلام -رحمه الله- وجماعة مِن أهل العلم إلى أنّ المسألة ترجع إلى الاستيطان أو السّفر، وأن حال الإنسان دائرة بين استيطان وسَفر فقط، ويلحق بالاستيطان الإقامة الدائمة التي لم تحدّد بعمل ولا زمن، وهذا القول هو الذي تطمئنّ إليه النّفس، وهو الذي تدلّ عليه ظواهر الأدلّة الشّرعيّة، لأنه لا يوجد في القرآن ولا في السّنّة حرف واحد يدلّ على تحديد المدّة التي تقطع حكم السّفر إذا نواها الإنسان، ومن كان عنده دليل في ذلك فليسعفنا به.
وأكبر دليل عندهم -عند الذين حدّدوا- هو أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أقام إقامات مختلفة، فمنهم من أخذ بالأدنى، ومنهم من أخذ بالأعلى، فابن عباس رضي الله عنهما مثلاً قال: ( إذا نوى المسافر تسعة عشر يوماً أو أكثر فإنه يتمّ، لأنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصّلاة، فإذا أقمنا هذه التسعة عشر يوماً قصرنا وإذا زدنا أتممنا ).
والإمام أحمد -رحمه الله-، والشافعي وأظن الإمام مالكًا يقولون: " إذا نوى أكثر من أربعة أيام أتم، وإذا نوى أربعة فما دونها قصر "، لكن اختلف الشافعي مع الإمام أحمد:
الشّافعي يقول: يوم الدّخول ويوم الخروج لا يحسب، فالأيّام تكون صافية أربعة، وبناء على هذا المذهب تكون الأيّام كم؟
السائل : ستّة.
الشيخ : ستّة: يوم الدّخول ويوم الخروج وأربعة صافية بينهما، والإمام أحمد يحسب يوم الدّخول ويوم الخروج فما هو الدّليل لهذا؟
الدّليل هو أنّ الرّسول عليه الصلاة والسلام في حجّة الوداع وهي آخر سفرة سافرها قدم مكة يوم الأحد الرابع من ذي الحجة، ومكث بها يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، وفي يوم الخميس ضحىً خرج إلى منى، وقد صحّ عنه عليه الصلاة والسلام أنّه كان في هذه المدّة يقصر الصّلاة، قال أنس رضي الله عنه: ( خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعني: إلى مكة في حجة الوداع، فلم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة، فسُئل: كم أقاموا في مكّة؟ قال: أقمنا بها عشراً ) ، لأنّه وصلها يوم الأحد الرّابع من ذي الحجّة وخرج في صباح الرّابع عشر من ذي الحجّة، فتكون الأيّام عشرة: أربعة قبل الخروج إلى المشاعر، والباقي في المشاعر.
ولكنّي أسألكم الآن هل هذا دليل على التّحديد أو دليل على عدم التّحديد؟
هو في الحقيقة دليل على عدم التّحديد وليس على التحديد، ليش؟
لأنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام لم يقل: من جلس أكثر من أربعة أيام فليتمّ، وإنّما كانت أربعة أيّام مصادَفة، وهو يعلم عليه الصّلاة والسّلام أنّ النّاس يقدُمون إلى مكّة للحجّ قبل اليوم الرّابع، يعني ليس كل الحجيج لا يقدم إلاّ في الرّابع فما بعده، أبداً، الحجّاج يقدمون في الرّابع، في الثّالث، في الثّاني، في الأوّل، في آخر ذي القعدة، بل يمكن من شواّل: (( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ )): أوّلها شوال، فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يعلم أنّ الناس يقدمون قبل اليوم الرّابع لم يقل للنّاس: من قدم قبل اليوم الرابع فليتمّ عُلم أن الإتمام لا يلزم، ولهذا لما صلى بمكة عام الفتح قال لأهلها: ( يا أهل مكّة أتمّوا فإنا قوم سفر )، ( وكان يصلّي ركعتين ويسلّم، ثمّ يقوم أهل مكّة فيتمّون ).
فالنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام يبلّغ البلاغ المبين، فإذا علمنا أنّه أقام في مكّة أربعة أيّام قبل الخروج إلى منى وستّة أيام بعد ذلك، وأقام في تبوك عشرين يومًا يقصر الصّلاة، وأقام في مكّة عام الفتح تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة، فهذه مدد مختلفة ولم يتغيّر فيها الحكم، وحينئذ نقول: العبرة بقطع السّفر، إذا نوى الإنسان قطع السّفر والإقامة المطلقة في هذا البلد صار مِن أهلها، ولزمه ما يلزم المقيم، وأمّا إذا قال: أنا لست من أهل هذا البلد لكنّي أَقمت لشغل فنقول إذن: أنت مسافر، لكن مع ذلك لا نُعفي هذا الرّجل الذي أقام في البلد، لا نعفيه من صلاة الجماعة، بل نلزمه بصلاة الجماعة والجمعة، إلاّ إذا فاتته فيصلّي ركعتين.
كذلك أيضًا لا نرى أن يفطر رمضان ولا يقضيه إلا بعد رمضان الثّاني، لا لأنّه غير مسافر، لكن لأنه لو ترك صيام رمضان في هذه السّنة، ثمّ في السّنة الأخرى، ثمّ في السّنة الثّالثة تضاعفت عليه الأيّام وربّما عجز وكسل.
ثمّ إنّ تأكيد الفطر في السّفر ليس كتأكيد القصر، القصر عند بعض العلماء واجب في السّفر، ولم يُحفظ أنّ النبي عليه الصلاة والسلام أتمّ يومًا من الأيّام وهو مسافر.
وأمّا الفطر فإنّ الصّحابة مع الرّسول عليه الصّلاة والسّلام يصومون ويفطرون، ولا يعيب الصّائم على المفطر ولا المفطر على الصّائم، والنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام صام، ولما قيل له: الناس قد شق عليهم، أفطر.
فلهذا نقول: الصّوم لهذا المسافر الذي أقام مدّة طويلة لا يؤخّر إلى رمضان الثّاني، بل يصومه لئلاّ تتراكم عليه الأشهر فيضعف أو يتهاون، نعم.