تفسير قوله تعالى: " وجوه يومئذٍٍ ناعمة " إلى قوله: "وزرابي مبثوثة "من سورة الغاشية . حفظ
الشيخ : أما بعد: فهذا هو اللقاء " لقاء الباب المفتوح " الموفي ستين لقاءً من ابتدائه، وهو اللقاء الثاني من شهر محرم عام خمسة عشر وأربعمائة وألف، وهو اليوم السابع من الشهر، في هذا اللقاء نتكلم على قول الله تبارك وتعالى: (( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً )) إلى آخره.
قسم الله سبحانه وتعالى الناس يوم القيامة إلى قسمين:
القسم الأول: وجوه عاملة خاشعة ناصبة، وسبق الكلام على ذلك.
القسم الثاني: وجوه ناعمة، أي: ناعمة بما أعطاها الله عز وجل من السرور والثواب الجزيل، لأنها علمت ذلك وهي في قبورها، فإن الإنسان في قبره يُنَعّم، يفتح له بابٌ إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، فهي ناعمة.
(( لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ )) أي: لعملها الذي عملته في الدنيا راضية، لأنها وصلت به إلى هذا النعيم وهذا السرور وهذا الفرح، فهي راضية لسعيها بخلاف الوجوه الأولى فإنها غاضبة والعياذ بالله غير راضية على ما قدمت.
(( فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ )) الجنة: هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل لأوليائه يوم القيامة، فيها ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، قال الله تبارك وتعالى: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))، وقال الله تبارك وتعالى: (( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ )) (( وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ )) إلى قوله: (( أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ))، وقال الله تعالى: (( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )) فهم في جنة عالية، العلو ضد السفول، فهي فوق السماوات السبع.
ومن المعلوم أنه في يوم القيامة تزول السماوات السبع والأرضون، ولا يبقى إلا الجنة والنار، فهي عالية، وأعلاها ووسطها الفردوس الذي فوقه عرش الرب جل وعلا.
(( لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً )) أي: لا تسمع في هذه الجنة قولة لاغية، أو نفساً لاغية، بل كل ما فيها جد، كل ما فيها سلام، كل ما فيها تسبيح، تحميد، تهليل، تكبير، يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس أي: أنه لا يشق عليهم ولا يتأثرون به فهم دائماً في ذكر لله عز وجل وتسبيح وأنسٍ وسرور، يأتي بعضهم إلى بعض يزور بعضهم بعضاً، في حبور لا نظير له، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
(( فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ )) وهذه العين بين الله عز وجل أنها أنهار (( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً )) جارية أي: تجري حيث أراد أهلها، لا تحتاج إلى حفر ساقية ولا إلى إقامة أخدود كما قال ابن القيم رحمه الله: " أنهارها في غير أخدود جرت *** سبحان ممسكها عن الفيضان ".
(( فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ )) انظر للتقابل: (( فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ )) عالية، يجلسون عليها، يتفكهون (( هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ))
(( وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ )) الأكواب جمع كوب وهو الكأس ونحوه ((مَوْضُوعَة )) يعني: ليست مرفوعة عنهم، بل هي موضوعة لهم متى شاءوا شربوا فيها من هذه الأنهار الأربعة التي سبق ذكرها.
قال تعالى: (( وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ )) النمارق: جمع نمرقة، وهي الوسادة أو ما يُتكأ عليه، مصفوفة على أحسن وجه، تلتذ العين بها قبل أن يلتذذ البدن بالاتكاء إليها.
(( وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ )) الزرابي: أعلى أنواع الفرش (( مَبْثُوثَةٌ )) منشورة في كل مكان، ولا تظنوا أن هذه النمارق، وهذه الأكواب، وهذه السرر، وهذه الزرابي لا تظنوا أنها تشبه ما في الدنيا، لأنها لو كانت تشبه ما في الدنيا لكنا نعلم نعيم الآخرة، ونعلم حقيقته، لكنها لا تشبهه، لقول الله تعالى: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) إنما الأسماء واحدة والحقائق مختلفة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ليس في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط " فنحن لا نعلم حقيقة هذه النعم المذكورة في الجنة، وإن كنا نشاهد ما يوافقها في الاسم في الدنيا، لكن هناك فرق بين هذا وهذا.
ثم قال تعالى: (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ )) ويكون إن شاء الله الكلام عليه في لقاء مقبل، والآن إلى الأسئلة ونبدأ من اليمين، والقاعدة عندنا أننا لا نستمع إلا إلى سؤال واحد ولا تعليق عليه أيضاً، حتى يكون العدل بين الإخوة الحاضرين وكل واحد يناله ما يشاء الله من السؤال، نعم .