تفسير قوله تعالى : " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت .. " إلى آخر سورة الغاشية . حفظ
الشيخ : الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو المجلس الحادي والستون من المجالس المعبر عنها بـ " لقاء الباب المفتوح " والتي تتم كل خميس من كل أسبوع، وهذا هو اليوم الرابع عشر من شهر المحرم عام خمسة عشر وأربعمائة وألف، نبدؤه كالعادة بما تيسر من تفسير كلام الله عز وجل.
وقد انتهينا في الدرس الماضي إلى قول الله تعالى: (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ )).
لما قرر الله عز وجل في هذه السورة حديث الغاشية وهي: يوم القيامة، وبين أن الناس ينقسمون إلى قسمين: وجوه خاشعة (( عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً ))، ووجوه ناعمة (( لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ )) وبين جزاء هؤلاء وهؤلاء، قال: (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ )).
وهذا الاستفهام للتوبيخ، أي: أن الله يوبخ هؤلاء الذين أنكروا ما أخبر الله به عن يوم القيامة وعن الثواب والعقاب، أنكر عليهم إعراضهم عن النظر في آيات الله تعالى التي بين أيديهم، وبدأ بالإبل، لأن أكثر ما يلابس الناس في ذلك الوقت الإبل، فهم يركبونها، ويحلبونها، ويأكلون لحمها، وينتفعون من أوبارها إلى غير ذلك من المنافع، فقال: (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ )) وهي الأباعر (( كَيْفَ خُلِقَتْ )) يعني: كيف خلقها الله عز وجل بهذا الجسم الكبير المتحمل، تجد البعير تمشي المسافات الطويلة التي لا يبلغها الإنسان إلا بشق الأنفس وهي متحملة، وتجد البعير أيضاً يحمل الأثقال وهو بارك ثم يقوم في حمله لا يحتاج إلى مساعدة، والعادة أن الحيوان لا يكاد يقوم إذا حُمِّل وهو بارك، لكن هذه الإبل أعطاها الله عز وجل قوة وقدرة من أجل مصلحة الإنسان، لأن الإنسان لا يمكن أن يحمل عليها وهي قائمة لطولها، لكن الله تعالى يسر له الحمل عليها وهي باركة ثم تقوم بحملها، وكما قال الله تعالى في سورة يس: (( وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ )) منافعها كثيرة لا تحصى، وأهلها الذين يمارسونها أعلم منا بذلك، فلهذا قال: (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ )) ولم يذكر سواها من الحيوان كالغنم والبقر والظباء وغيرها، لأنها كما قلت لكم هي أعم الحيوانات نفعاً وأكثرها مصلحة للعباد.
(( وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ )) يعني: وينظرون إلى السماء كيف رفعت بما فيها من النجوم والشمس والقمر وغيرها من الآيات العظيمة التي لم يتبين كثير منها إلا الآن.
ولا نقول: إن هذه الآيات السماوية هي كل الآيات، بل لعل هناك آيات كبيرة عظيمة لا ندركها حتى الآن.
وقوله: (( كَيْفَ رُفِعَتْ )) أي: رفعت هذا الارتفاع العظيم، ومع هذا فليس لها عمد، مع أن العادة أن السقوف لا تكون إلا على عمد، لكن هذا السقف العظيم المحفوظ قام على غير عمد (( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا )).
(( أفلا ينظرون إلى .. )) (( وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ )) هذه الجبال العظيمة التي تحمل الصخور والقطع المتجاورات المتباينات، فالجبال مكونة من أحجار كثيرة وأنواع كثيرة فيها المعادن المتنوعة وهي متجاورة، ومع ذلك تجد مثلاً هذا الخط في وسط الصخر تجده يشتمل على معادن لا توجد فيما قرب منه من هذا الصخر، ويعرف هذا أهل الجيولوجيا كيف نصب الله هذه الجبال العظيمة، ونصبها جل وعلا بهذا الارتفاع لتكون رواسي في الأرض لئلا تميد بالناس، لولا أن الله عز وجل خلق هذه الجبال لمادت الأرض بأهلها، لأن الأرض في وسط الماء، الماء محيط بها من كل جانب، وما ظنك بكرة تجعلها في وسط ماء؟ سوف تتحرك وتضطرب وتتدحرج أحياناً وتنقلب أحياناً، لكن الله جعل هذه الجبال رواسي تمسك الأرض كما تمسك الأطناب الخيمة، وهي راسية ثابتة على ما يحصل من الأرض من الأعاصير العظيمة التي تهدم البنايات التي بناها الآدميون، لكن هذه الجبال لا تتزحزح راسية ولو جاءت الأعاصير العظيمة، بل إن من فوائدها أنها تحجب الأعاصير العظيمة البالغة التي تنطلق من البحار أو من غير البحار لئلا تعصف بالناس وهذا شيء مشاهد، تجد الذين في سفوح الجبال وتحتها في الأرض تجدهم في مأمن من أعاصير الرياح العظيمة التي تأتي من خلف الجبل، فهي فيها فوائد عظيمة وهي رواسي لو أن الخلق اجتمعوا على أن يضعوا سلسلة مثل هذه السلسلة من الجبال ما استطاعوا إلى هذا سبيلاً، مهما بلغت صناعتهم وقوتهم وقدرتهم وطال أمدهم، فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذه الجبال.
وقد قال بعض العلماء: إن هذه الجبال راسية في الأرض بمقدار علوها في السماء، يعني مثلاً: أن الجبل له جرثومة وجذر في داخل الأرض في عمق يساوي ارتفاعه في السماء، وليس هذا ببعيد أن يمكن الله لهذا الجبل في الأرض حتى يكون بقدر ما هو في السماء لئلا تزعزعه الرياح، ولهذا يقول عز وجل: (( أَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ))
يقول عز وجل: (( وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ )) كيف سطح الله هذه الأرض الواسعة وجعلها سطحاً واسعاً ليتمكن الناس من العيش فيه بالزراعة والبناء وغير هذا، فما ظنكم لو كانت الأرض صبباً غير مسطحة يعني مثل الجبال يرقى عليها ويصعد لكانت شاقة ولما استقر الناس عليها، لكن الله عز وجل جعلها سطحاً ممهداً للخلق.
وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الأرض ليست كروية بل سطح ممتد، لكن هذا الاستدلال فيه نظر، لأن هناك آيات تدل على أن الأرض كروية، والواقع شاهد بذلك، فيقول عز وجل: (( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ )) والتكوير : التدوير، ومعلوم أن الليل والنهار يتعاقبان على الأرض، فإذا كانا مكورين لزم أن تكون الأرض مكورة، وقال الله تبارك وتعالى: (( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ )) فقال: (( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ )) وقد جاء في الحديث أنها يوم القيامة تمد مد الأديم أي: مد الجلد، حتى لا يكون فيها جبال ولا أودية ولا أشجار ولا بناء، يذرها الرب عز وجل قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، فقوله: (( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ )) متى تنشق السماء؟ كلنا يعرف أنها لا تنشق إلا يوم القيامة وأنها الآن غير منشقة.
إذن: قوله: (( وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ )) يعني: يوم القيامة فهي إذن الآن غير ممدودة، إذن فما هي؟ هي مكورة.
والواقع المحسوس المتيقن الآن أنها كروية لا شك، والدليل على هذا أنك لو سرت في خط مستقيم من هنا من المملكة متجهاً غرباً لأتيت من ناحية الشرق ولا ... تدور على الأرض ثم تأتي إلى النقطة التي انطلقت منها، وكذلك بالعكس لو سرت متجهاً نحو المشرق وجدتك راجعاً إلى النقطة التي قمت منها من نحو المغرب.
إذن فهي الآن أمر لا شك فيه أنها كروية، فإذا قال الإنسان: إذا كانت كما زعمت كروية كيف تثبت المياه مياه البحار عليها وهي كروية؟ نقول في الجواب عن ذلك: الذي أمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه يمسك البحار أن تفيض على الناس فتغرقهم، والله على كل شيء قدير.
قال بعض أهل العلم: نعم (( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ )) أي: حبست ومنعت من أن تفيض على الناس، كالشيء الذي يسجر: يربط.
وعلى كل حال القدرة الإلهية لا يمكن لنا أن نعارض فيها، نقول: قدرة الله عز وجل أمسكت هذه البحار أن تفيض على أهل الأرض فتغرقهم وإن كانت الأرض كروية.
ثم قال عز وجل لما بين هذه الآيات الأربع: الإبل، والسماء، والجبال، والأرض قال لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( فَذَكِّرْ )) أمره الله أن يذكر ولم يخصص أحداً بالتذكير، أي: لم يقل: ذكر فلاناً وفلاناً، فالتذكير عام، لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث إلى الناس كافة، ذكر كل أحد في كل حال وفي كل مكان، فذكر النبي عليه الصلاة والسلام وذكر خلفاؤه من بعده الذين خلفوه في أمته في العلم والعمل والدعوة.
ذكروا، ولكن هذه الذكرى هل ينتفع بها كل الناس؟ الجواب: لا، (( إِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )) أما غير المؤمن فإن الذكرى تقيم عليه الحجة لكن لا تنفعه، لا تنفع الذكرى إلا المؤمن، ونقول: إذا رأيت قلبك لا يتذكر بالذكرى فاتهمه بإيش؟ بعدم الإيمان بعدم الإيمان، لأن الله يقول: (( ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )) فإذا ذكرت ولم تجد من قلبك تأثراً وانتفاعاً فاتهم نفسك، واعلم أن فيك نقص إيمان، لأنه لو كان إيمانك كاملاً لانتفعت بالذكرى التي لا بد أن تنفع المؤمن.
(( إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ )) أي: أن محمداً عليه الصلاة والسلام ليس إلا مذكراً مبلغاً، وأما الهداية فبيد من؟ بيد الله (( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )) وقد قام صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالذكرى والتذكير إلى آخر رمق في حياته، حتى إنه في آخر حياته يقول: ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم ) حتى جعل يغرغر بها عليه الصلاة والسلام، فذكر صلوات الله وسلامه عليه منذ بعث، وقيل له: (( قُمْ فَأَنْذِرْ )) إلى أن توفاه الله، لم يأل جهداً في التذكير في كل موقع في كل زمان على ما أصابه من الأذى من قومه ومن غير قومه، والذي قرأ منكم التاريخ السيرة النبوية يعرف ما جرى له من أهل مكة من قومه الذين هم أقرب الناس إليه، والذين كانوا يعرفونه ويسمونه بالأمين يلقبونه بذلك ويثقون به حتى حكموه في وضع الحجر الأسود في الكعبة حينما هدموا الكعبة ووصلوا إلى حد الحجر، قالوا: من ينصب الحجر؟ فتنازعوا بينهم، كل قبيلة تقول: نحن الذين نتولى وضع الحجر في مكانه، حتى جاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحكموه فيما بينهم، وأمر أن يوضع رداء، وأن تمسك كل طائفة من هذه القبيلة
أن يمسك كل واحد من هذه القبائل بطرف من هذا الرداء حتى يرفعوه، فإذا حاذوا محله أخذه هو بيده الكريمة ونصبه في مكانه، فكانوا يسمونه الأمين، لكن لما أكرمه الله تعالى بالنبوة انقلبت المعايير، فصاروا يقولون: ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون، وكذاب، ورموه بكل سب، فالرسول عليه الصلاة والسلام يذكر وليس عليه إلا التذكير.
ومن هنا نأخذ أننا نحن لا يجب علينا أن نهدي الخلق، ولا يمكننا أن نهدي الخلق أبداً، لا يمكن أن نهدي أقرب الناس إلينا (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )) فلا نجزع إذا ذكرنا إنساناً ووجدناه يعاند أو يخاصم أو يقول: ما عليك مني.
أو أنا أعمل ما شئت أو ما أشبه ذلك.
قال الله تعالى لنبيه: (( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )) لا تهلك نفسك إذا لم يؤمنوا، إيمانهم لهم وكفرهم ليس عليك، ولهذا قال: (( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ )) يعني: ليس لك سلطة ولا سيطرة عليهم، لمن السلطة والسيطرة؟ لله رب العالمين، أنت عليك البلاغ بلغ، عليك أن يعمل الناس بذلك؟ لا، هذا إلى الله عز وجل، والسلطان والسيطرة لله.
(( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ )) قال العلماء: إلا هنا بمعنى: لكن، يعني: أن الاستثناء في الآية منقطع وليس بمتصل، والفرق بين المتصل والمنقطع أن المتصل يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه، والمنقطع يكون أجنبياً منه، فمثلاً لو قلنا: إنه متصل لكان معنى الآية: لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فأنت عليهم مسيطر، وليس الأمر كذلك، بل المعنى: لكن من تولى وكفر بعد أن ذكرته فيعذبه الله العذاب الأكبر، فمن تولى وكفر بعد أن بلغه الوحي النازل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سيعذب (( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ )).
طيب التولي يعني: الإعراض، فلا يتجه للحق ولا يقبل الحق ولا يسمع الحق، حتى لو سمعه بإذنه لم يسمعه بقلبه كما قال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ )) أي: لا ينقادون.
فهنا يقول عز وجل: (( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ )) تولى: أعرض، كفر: أي: استكبر، ولم يقبل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام (( فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ )) َيُعذِّبه الْعذاب الأكبَرَ يعني: يوم القيامة، قال الله تعالى: (( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ )) والعذاب الأكبر يوم القيامة، وهنا قال: الأكبر ولم يذكر المفضل عليه، يعني: لم يقل: الأكبر من كذا، فهو قد بلغ الغاية في الكبر والمشقة والإهانة -والعياذ بالله- كل من تولى وكفر فإن الله يعذبه العذاب الأكبر.
هل هناك عذاب أصغر؟ نقول: نعم، في عذاب أصغر في الدنيا، قد يبتلى المتولي المعرض بأمراض في بدنه في عقله، في أهله، في ماله، في مجتمعه، وكل هذا بالنسبة لعذاب النار عذاب أصغر، لكن العذاب الأكبر إنما يكون يوم القيامة
ولهذا قال بعدها: (( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ )) يعني إلينا إيابهم أي: مرجعهم، فالرجوع إلى الله مهما فر الإنسان فإنه راجع إلى ربه عز وجل لو طالت به الحياة راجع إلى الله، ولهذا قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ )) استعد يا أخي لهذه الملاقاة، لأنك سوف تلاقي ربك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ) مباشرة بدون مترجم يكلمه الله يوم القيامة ( فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه - يعني: عن اليسار- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ) كلنا سيخلو به ربه عز وجل يوم القيامة يقرره بذنوبه يقول: فعلت كذا في يوم كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا أقر واعترف قال الله تعالى: ( قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ) وكم من ذنوب سترها الله عز وجل، كم من ذنوب اقترفناها لم يعلم بها أحد، ولكن الله تعالى علم بها، موقفنا من هذه الذنوب أن نستغفر الله عز وجل، وأن نكثر من الأعمال الصالحة المكفرة للسيئات، حتى نلقى الله عز وجل ونحن على ما يرضيه سبحانه وتعالى.
(( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ )) نحاسبهم، قال العلماء: وكيفية الحساب ليس مناقشة يناقش الإنسان، لأنه لو يناقش هلك، لو يناقشك الله عز وجل عن الحساب هلكت، أو ناقشك في نعمة من النعم كالبصر، لا يمكن أن تجد أي شيء تعمله يقابل نعمة البصر، نعمة النفَس، النفس الذي يخرج ويدخل بدون أي مشقة وبدون أي عناء، فالإنسان يتكلم وينام ويأكل ويشرب، ومع ذلك لا يحس بالنفس ولا يعرف قدر النفس إلا إذا أصيب بما يمنع النفس، وحينئذ يذكر نعمة الله، لكن ما دام في عافية فهو عنده شيء طبيعي، لكن لو أنه أصيب بكتم النفس لعرف قدر النعمة، فلو نوقش لهلك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـعائشة: ( من نوقش الحساب هلك أو قال: عذب )، لكن كيفية الحساب؟ أما المؤمن فإن الله تعالى يخلو به بنفسه ليس عندهما أحد ويقرره بذنوبه، فعلت كذا فعلت كذا فعلت كذا، حتى إذا أقر بها قال الله تعالى: ( قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ) .
أما الكفار فلا يحاسبون هذا الحساب، لأنه ما لهم حسنات تمحو سيئاتهم، لكنها تحصى عليهم أعمالهم ويُقررون بها أمام العالم ويخزون بها، وينادى على رءوس الأشهاد (( هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ )) نعوذ بالله من الخذلان.
وبهذا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة، وهي إحدى السورتين اللتين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في المجامع الكبيرة، فقد كان يقرأ في صلاة العيدين: (( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )) و(( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ )) وكذلك في صلاة الجمعة، ويقرأ أحياناً في العيدين (( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ )) و(( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ )) وفي الجمعة: سورة الجمعة والمنافقين، ينوع مرة في هذه ومرة في هذه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن تكون وجوههم ناعمة لسعيها راضية، وأن يتولانا بعنايته في الدنيا والآخرة إنه على كل شيء قدير.
والآن إلى دور الأسئلة، وكما بلغنا من قبل السؤال واحد لكل شخص وليس فيه تعقيب.
أما بعد:
فهذا هو المجلس الحادي والستون من المجالس المعبر عنها بـ " لقاء الباب المفتوح " والتي تتم كل خميس من كل أسبوع، وهذا هو اليوم الرابع عشر من شهر المحرم عام خمسة عشر وأربعمائة وألف، نبدؤه كالعادة بما تيسر من تفسير كلام الله عز وجل.
وقد انتهينا في الدرس الماضي إلى قول الله تعالى: (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ )).
لما قرر الله عز وجل في هذه السورة حديث الغاشية وهي: يوم القيامة، وبين أن الناس ينقسمون إلى قسمين: وجوه خاشعة (( عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً ))، ووجوه ناعمة (( لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ )) وبين جزاء هؤلاء وهؤلاء، قال: (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ )).
وهذا الاستفهام للتوبيخ، أي: أن الله يوبخ هؤلاء الذين أنكروا ما أخبر الله به عن يوم القيامة وعن الثواب والعقاب، أنكر عليهم إعراضهم عن النظر في آيات الله تعالى التي بين أيديهم، وبدأ بالإبل، لأن أكثر ما يلابس الناس في ذلك الوقت الإبل، فهم يركبونها، ويحلبونها، ويأكلون لحمها، وينتفعون من أوبارها إلى غير ذلك من المنافع، فقال: (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ )) وهي الأباعر (( كَيْفَ خُلِقَتْ )) يعني: كيف خلقها الله عز وجل بهذا الجسم الكبير المتحمل، تجد البعير تمشي المسافات الطويلة التي لا يبلغها الإنسان إلا بشق الأنفس وهي متحملة، وتجد البعير أيضاً يحمل الأثقال وهو بارك ثم يقوم في حمله لا يحتاج إلى مساعدة، والعادة أن الحيوان لا يكاد يقوم إذا حُمِّل وهو بارك، لكن هذه الإبل أعطاها الله عز وجل قوة وقدرة من أجل مصلحة الإنسان، لأن الإنسان لا يمكن أن يحمل عليها وهي قائمة لطولها، لكن الله تعالى يسر له الحمل عليها وهي باركة ثم تقوم بحملها، وكما قال الله تعالى في سورة يس: (( وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ )) منافعها كثيرة لا تحصى، وأهلها الذين يمارسونها أعلم منا بذلك، فلهذا قال: (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ )) ولم يذكر سواها من الحيوان كالغنم والبقر والظباء وغيرها، لأنها كما قلت لكم هي أعم الحيوانات نفعاً وأكثرها مصلحة للعباد.
(( وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ )) يعني: وينظرون إلى السماء كيف رفعت بما فيها من النجوم والشمس والقمر وغيرها من الآيات العظيمة التي لم يتبين كثير منها إلا الآن.
ولا نقول: إن هذه الآيات السماوية هي كل الآيات، بل لعل هناك آيات كبيرة عظيمة لا ندركها حتى الآن.
وقوله: (( كَيْفَ رُفِعَتْ )) أي: رفعت هذا الارتفاع العظيم، ومع هذا فليس لها عمد، مع أن العادة أن السقوف لا تكون إلا على عمد، لكن هذا السقف العظيم المحفوظ قام على غير عمد (( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا )).
(( أفلا ينظرون إلى .. )) (( وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ )) هذه الجبال العظيمة التي تحمل الصخور والقطع المتجاورات المتباينات، فالجبال مكونة من أحجار كثيرة وأنواع كثيرة فيها المعادن المتنوعة وهي متجاورة، ومع ذلك تجد مثلاً هذا الخط في وسط الصخر تجده يشتمل على معادن لا توجد فيما قرب منه من هذا الصخر، ويعرف هذا أهل الجيولوجيا كيف نصب الله هذه الجبال العظيمة، ونصبها جل وعلا بهذا الارتفاع لتكون رواسي في الأرض لئلا تميد بالناس، لولا أن الله عز وجل خلق هذه الجبال لمادت الأرض بأهلها، لأن الأرض في وسط الماء، الماء محيط بها من كل جانب، وما ظنك بكرة تجعلها في وسط ماء؟ سوف تتحرك وتضطرب وتتدحرج أحياناً وتنقلب أحياناً، لكن الله جعل هذه الجبال رواسي تمسك الأرض كما تمسك الأطناب الخيمة، وهي راسية ثابتة على ما يحصل من الأرض من الأعاصير العظيمة التي تهدم البنايات التي بناها الآدميون، لكن هذه الجبال لا تتزحزح راسية ولو جاءت الأعاصير العظيمة، بل إن من فوائدها أنها تحجب الأعاصير العظيمة البالغة التي تنطلق من البحار أو من غير البحار لئلا تعصف بالناس وهذا شيء مشاهد، تجد الذين في سفوح الجبال وتحتها في الأرض تجدهم في مأمن من أعاصير الرياح العظيمة التي تأتي من خلف الجبل، فهي فيها فوائد عظيمة وهي رواسي لو أن الخلق اجتمعوا على أن يضعوا سلسلة مثل هذه السلسلة من الجبال ما استطاعوا إلى هذا سبيلاً، مهما بلغت صناعتهم وقوتهم وقدرتهم وطال أمدهم، فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذه الجبال.
وقد قال بعض العلماء: إن هذه الجبال راسية في الأرض بمقدار علوها في السماء، يعني مثلاً: أن الجبل له جرثومة وجذر في داخل الأرض في عمق يساوي ارتفاعه في السماء، وليس هذا ببعيد أن يمكن الله لهذا الجبل في الأرض حتى يكون بقدر ما هو في السماء لئلا تزعزعه الرياح، ولهذا يقول عز وجل: (( أَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ))
يقول عز وجل: (( وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ )) كيف سطح الله هذه الأرض الواسعة وجعلها سطحاً واسعاً ليتمكن الناس من العيش فيه بالزراعة والبناء وغير هذا، فما ظنكم لو كانت الأرض صبباً غير مسطحة يعني مثل الجبال يرقى عليها ويصعد لكانت شاقة ولما استقر الناس عليها، لكن الله عز وجل جعلها سطحاً ممهداً للخلق.
وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الأرض ليست كروية بل سطح ممتد، لكن هذا الاستدلال فيه نظر، لأن هناك آيات تدل على أن الأرض كروية، والواقع شاهد بذلك، فيقول عز وجل: (( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ )) والتكوير : التدوير، ومعلوم أن الليل والنهار يتعاقبان على الأرض، فإذا كانا مكورين لزم أن تكون الأرض مكورة، وقال الله تبارك وتعالى: (( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ )) فقال: (( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ )) وقد جاء في الحديث أنها يوم القيامة تمد مد الأديم أي: مد الجلد، حتى لا يكون فيها جبال ولا أودية ولا أشجار ولا بناء، يذرها الرب عز وجل قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، فقوله: (( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ )) متى تنشق السماء؟ كلنا يعرف أنها لا تنشق إلا يوم القيامة وأنها الآن غير منشقة.
إذن: قوله: (( وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ )) يعني: يوم القيامة فهي إذن الآن غير ممدودة، إذن فما هي؟ هي مكورة.
والواقع المحسوس المتيقن الآن أنها كروية لا شك، والدليل على هذا أنك لو سرت في خط مستقيم من هنا من المملكة متجهاً غرباً لأتيت من ناحية الشرق ولا ... تدور على الأرض ثم تأتي إلى النقطة التي انطلقت منها، وكذلك بالعكس لو سرت متجهاً نحو المشرق وجدتك راجعاً إلى النقطة التي قمت منها من نحو المغرب.
إذن فهي الآن أمر لا شك فيه أنها كروية، فإذا قال الإنسان: إذا كانت كما زعمت كروية كيف تثبت المياه مياه البحار عليها وهي كروية؟ نقول في الجواب عن ذلك: الذي أمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه يمسك البحار أن تفيض على الناس فتغرقهم، والله على كل شيء قدير.
قال بعض أهل العلم: نعم (( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ )) أي: حبست ومنعت من أن تفيض على الناس، كالشيء الذي يسجر: يربط.
وعلى كل حال القدرة الإلهية لا يمكن لنا أن نعارض فيها، نقول: قدرة الله عز وجل أمسكت هذه البحار أن تفيض على أهل الأرض فتغرقهم وإن كانت الأرض كروية.
ثم قال عز وجل لما بين هذه الآيات الأربع: الإبل، والسماء، والجبال، والأرض قال لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( فَذَكِّرْ )) أمره الله أن يذكر ولم يخصص أحداً بالتذكير، أي: لم يقل: ذكر فلاناً وفلاناً، فالتذكير عام، لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث إلى الناس كافة، ذكر كل أحد في كل حال وفي كل مكان، فذكر النبي عليه الصلاة والسلام وذكر خلفاؤه من بعده الذين خلفوه في أمته في العلم والعمل والدعوة.
ذكروا، ولكن هذه الذكرى هل ينتفع بها كل الناس؟ الجواب: لا، (( إِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )) أما غير المؤمن فإن الذكرى تقيم عليه الحجة لكن لا تنفعه، لا تنفع الذكرى إلا المؤمن، ونقول: إذا رأيت قلبك لا يتذكر بالذكرى فاتهمه بإيش؟ بعدم الإيمان بعدم الإيمان، لأن الله يقول: (( ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )) فإذا ذكرت ولم تجد من قلبك تأثراً وانتفاعاً فاتهم نفسك، واعلم أن فيك نقص إيمان، لأنه لو كان إيمانك كاملاً لانتفعت بالذكرى التي لا بد أن تنفع المؤمن.
(( إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ )) أي: أن محمداً عليه الصلاة والسلام ليس إلا مذكراً مبلغاً، وأما الهداية فبيد من؟ بيد الله (( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )) وقد قام صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالذكرى والتذكير إلى آخر رمق في حياته، حتى إنه في آخر حياته يقول: ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم ) حتى جعل يغرغر بها عليه الصلاة والسلام، فذكر صلوات الله وسلامه عليه منذ بعث، وقيل له: (( قُمْ فَأَنْذِرْ )) إلى أن توفاه الله، لم يأل جهداً في التذكير في كل موقع في كل زمان على ما أصابه من الأذى من قومه ومن غير قومه، والذي قرأ منكم التاريخ السيرة النبوية يعرف ما جرى له من أهل مكة من قومه الذين هم أقرب الناس إليه، والذين كانوا يعرفونه ويسمونه بالأمين يلقبونه بذلك ويثقون به حتى حكموه في وضع الحجر الأسود في الكعبة حينما هدموا الكعبة ووصلوا إلى حد الحجر، قالوا: من ينصب الحجر؟ فتنازعوا بينهم، كل قبيلة تقول: نحن الذين نتولى وضع الحجر في مكانه، حتى جاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحكموه فيما بينهم، وأمر أن يوضع رداء، وأن تمسك كل طائفة من هذه القبيلة
أن يمسك كل واحد من هذه القبائل بطرف من هذا الرداء حتى يرفعوه، فإذا حاذوا محله أخذه هو بيده الكريمة ونصبه في مكانه، فكانوا يسمونه الأمين، لكن لما أكرمه الله تعالى بالنبوة انقلبت المعايير، فصاروا يقولون: ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون، وكذاب، ورموه بكل سب، فالرسول عليه الصلاة والسلام يذكر وليس عليه إلا التذكير.
ومن هنا نأخذ أننا نحن لا يجب علينا أن نهدي الخلق، ولا يمكننا أن نهدي الخلق أبداً، لا يمكن أن نهدي أقرب الناس إلينا (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )) فلا نجزع إذا ذكرنا إنساناً ووجدناه يعاند أو يخاصم أو يقول: ما عليك مني.
أو أنا أعمل ما شئت أو ما أشبه ذلك.
قال الله تعالى لنبيه: (( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )) لا تهلك نفسك إذا لم يؤمنوا، إيمانهم لهم وكفرهم ليس عليك، ولهذا قال: (( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ )) يعني: ليس لك سلطة ولا سيطرة عليهم، لمن السلطة والسيطرة؟ لله رب العالمين، أنت عليك البلاغ بلغ، عليك أن يعمل الناس بذلك؟ لا، هذا إلى الله عز وجل، والسلطان والسيطرة لله.
(( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ )) قال العلماء: إلا هنا بمعنى: لكن، يعني: أن الاستثناء في الآية منقطع وليس بمتصل، والفرق بين المتصل والمنقطع أن المتصل يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه، والمنقطع يكون أجنبياً منه، فمثلاً لو قلنا: إنه متصل لكان معنى الآية: لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فأنت عليهم مسيطر، وليس الأمر كذلك، بل المعنى: لكن من تولى وكفر بعد أن ذكرته فيعذبه الله العذاب الأكبر، فمن تولى وكفر بعد أن بلغه الوحي النازل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سيعذب (( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ )).
طيب التولي يعني: الإعراض، فلا يتجه للحق ولا يقبل الحق ولا يسمع الحق، حتى لو سمعه بإذنه لم يسمعه بقلبه كما قال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ )) أي: لا ينقادون.
فهنا يقول عز وجل: (( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ )) تولى: أعرض، كفر: أي: استكبر، ولم يقبل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام (( فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ )) َيُعذِّبه الْعذاب الأكبَرَ يعني: يوم القيامة، قال الله تعالى: (( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ )) والعذاب الأكبر يوم القيامة، وهنا قال: الأكبر ولم يذكر المفضل عليه، يعني: لم يقل: الأكبر من كذا، فهو قد بلغ الغاية في الكبر والمشقة والإهانة -والعياذ بالله- كل من تولى وكفر فإن الله يعذبه العذاب الأكبر.
هل هناك عذاب أصغر؟ نقول: نعم، في عذاب أصغر في الدنيا، قد يبتلى المتولي المعرض بأمراض في بدنه في عقله، في أهله، في ماله، في مجتمعه، وكل هذا بالنسبة لعذاب النار عذاب أصغر، لكن العذاب الأكبر إنما يكون يوم القيامة
ولهذا قال بعدها: (( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ )) يعني إلينا إيابهم أي: مرجعهم، فالرجوع إلى الله مهما فر الإنسان فإنه راجع إلى ربه عز وجل لو طالت به الحياة راجع إلى الله، ولهذا قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ )) استعد يا أخي لهذه الملاقاة، لأنك سوف تلاقي ربك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ) مباشرة بدون مترجم يكلمه الله يوم القيامة ( فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه - يعني: عن اليسار- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ) كلنا سيخلو به ربه عز وجل يوم القيامة يقرره بذنوبه يقول: فعلت كذا في يوم كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا أقر واعترف قال الله تعالى: ( قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ) وكم من ذنوب سترها الله عز وجل، كم من ذنوب اقترفناها لم يعلم بها أحد، ولكن الله تعالى علم بها، موقفنا من هذه الذنوب أن نستغفر الله عز وجل، وأن نكثر من الأعمال الصالحة المكفرة للسيئات، حتى نلقى الله عز وجل ونحن على ما يرضيه سبحانه وتعالى.
(( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ )) نحاسبهم، قال العلماء: وكيفية الحساب ليس مناقشة يناقش الإنسان، لأنه لو يناقش هلك، لو يناقشك الله عز وجل عن الحساب هلكت، أو ناقشك في نعمة من النعم كالبصر، لا يمكن أن تجد أي شيء تعمله يقابل نعمة البصر، نعمة النفَس، النفس الذي يخرج ويدخل بدون أي مشقة وبدون أي عناء، فالإنسان يتكلم وينام ويأكل ويشرب، ومع ذلك لا يحس بالنفس ولا يعرف قدر النفس إلا إذا أصيب بما يمنع النفس، وحينئذ يذكر نعمة الله، لكن ما دام في عافية فهو عنده شيء طبيعي، لكن لو أنه أصيب بكتم النفس لعرف قدر النعمة، فلو نوقش لهلك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـعائشة: ( من نوقش الحساب هلك أو قال: عذب )، لكن كيفية الحساب؟ أما المؤمن فإن الله تعالى يخلو به بنفسه ليس عندهما أحد ويقرره بذنوبه، فعلت كذا فعلت كذا فعلت كذا، حتى إذا أقر بها قال الله تعالى: ( قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ) .
أما الكفار فلا يحاسبون هذا الحساب، لأنه ما لهم حسنات تمحو سيئاتهم، لكنها تحصى عليهم أعمالهم ويُقررون بها أمام العالم ويخزون بها، وينادى على رءوس الأشهاد (( هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ )) نعوذ بالله من الخذلان.
وبهذا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة، وهي إحدى السورتين اللتين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في المجامع الكبيرة، فقد كان يقرأ في صلاة العيدين: (( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )) و(( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ )) وكذلك في صلاة الجمعة، ويقرأ أحياناً في العيدين (( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ )) و(( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ )) وفي الجمعة: سورة الجمعة والمنافقين، ينوع مرة في هذه ومرة في هذه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن تكون وجوههم ناعمة لسعيها راضية، وأن يتولانا بعنايته في الدنيا والآخرة إنه على كل شيء قدير.
والآن إلى دور الأسئلة، وكما بلغنا من قبل السؤال واحد لكل شخص وليس فيه تعقيب.