هل صحيح من يقول إن الإنكار على الولاة علنا من منهج السلف ويستدل بإنكار أبي سعيد الخدري على مروان بن الحكم حين قدم الخطبة على الصلاة وبحديث "سيكون ولاة ظلمة فمن نابذهم فقد سلم أو برء" وبحديث "سيد الشهداء رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله " وكيف الجمع بين هذه النصوص وبين الحديث"من أراد أن ينصح لذي سلطان فلينصحه سرا ولا يبده علانية".؟ حفظ
السائل : فضيلة الشيخ هناك من يقول: إن الإنكار على الولاة علناً من منهج السلف، ويستشهد بحديث أبي سعيد الخدري في إنكاره على مروان بن الحكم حينما قدم الخطبة على الصلاة، وبقوله عليه الصلاة والسلام فيما معناه في أنه ( سيكون هناك ولاة ظلمة فمن نابذهم فقد سلم أو برئ )، وحديث ( سيد الشهداء رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ) فهل هذا الكلام صحيح؟ وكيف الجمع بين هذه الآثار الصحيحة وبين قوله عليه الصلاة والسلام: ( من أراد أن ينصح لذي سلطان فلينصحه سرًّا ولا يبده علانية ) نرجو التفصيل في هذه المسألة، حيث أن كثير من شباب الصحوة يجهل الحكم الصحيح في هذه المسألة، وبخاصة أن هناك من الدعاة من يقول: إن الإنكار على الولاة علناً من منهج السلف، مما يجعل الشباب يثور ويظن أن عدم الإنكار علناً دليل المداهنة في الدين وغير ذلك، ولما لهذه المسألة من خطورة، نرجو التفصيل وجزاكم الله خيراً؟
الشيخ : هذا السؤال مهم، وجوابه أهم منه في الواقع، ولا شك أن إنكار المنكر واجب على كل قادر عليه، لقول الله تبارك وتعالى: (( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) واللام في قوله: (( ولتكن )) لام الأمر، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم ) أي: كما لعن بني إسرائيل الذين قال الله عنهم: (( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ )).
ولكن يجب أن نعلم أن الأوامر الشرعية في مثل هذه الأمور لها محال، ولا بد من استعمال الحكمة، فإذا رأينا أن الإنكار علناً يزول به المنكر ويحصل به الخير فلننكر علناً، وإذا رأينا أن الإنكار علناً لا يزول به الشر أقول إذا رأينا أن الإنكار علناً يزول به الشر ويحصل به الخير فالحكمة أن ننكر علنا ، وإذا رأينا أن الإنكار علناً لا يزول به الشر ولا يحصل به الخير بل يزداد ضغط الولاة على المنكرين وأهل الخير، فإن الخير أن ننكر سراً، وبهذا تجتمع الأدلة، فتكون الأدلة الدالة على أن الإنكار يكون علناً فيما إذا كنا نتوقع فيه ايش؟ المصلحة، وهي حصول الخير وزوال الشر، والنصوص الدالة على أن الإنكار يكون سراً فيما إذا كان إعلان الإنكار يزداد به الشر ولا يحصل به الخير.
وأقول لكم: إنه لم يضل من ضل من هذه الأمة إلا بسبب أنهم يأخذون بجانب من النصوص ويدعون جانباً، سواء كان في العقيدة أو في معاملة الحكام أو في معاملة الناس أو في غير ذلك، ونحن نضرب لكم أمثالاً حتى يتضح للحاضرين وللسامعين: مثلاً: الخوارج والمعتزلة رأوا النصوص الوعيد التي فيها الوعيد على بعض الذنوب الكبيرة فأخذوا بهذه النصوص، ونسوا نصوص الوعد التي تفتح باب الرجاء، فمثلاً قالوا: إذا قتل الإنسان مؤمناً عمداً فإنه يكون كافراً -على رأي الخوارج- مباح الدم مخلد في النار، وعلى رأي المعتزلة يقولون: إذا قتله خرج من الإسلام لكن لا يدخل الكفر ، لأننا لا نستطيع أن نجزم بأنه كافر، فنقول: خرج من الإسلام وكان في منزله بين الإسلام وبين الكفر ولكنه مخلد في النار، ثم نسوا آيات الوعد ونصوص الوعد الدالة على أن الله سبحانه وتعالى يخرج من النار من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من الإيمان.
ثم قابلهم آخرون وقالوا: الإنسان مهما عمل من المعاصي التي دون الكفر فإنه مؤمن كامل الإيمان ولا يدخل النار أبداً، وقالوا: إن قوله تعالى: (( مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ )) هذه في الكافر إذا قتل مؤمناً، فالآن لماذا ضل هؤلاء وهؤلاء؟ لأنهم أخذوا بجانب واحد من النصوص.
كذلك مثلاً في صفات الله عز وجل بعض الناس قال: الله عز وجل لا يمكن أن يجيء بنفسه، ولا يمكن أن ينزل إلى السماء الدنيا، وليس له وجه، وليس له يدان، لماذا؟ قالوا: لأن الله قال: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) وأنت إذا أثبت هذه الأمور مثَّلت الله، معلوم هذا؟
طيب قابلهم أناس آخرون قالوا: إن الله تعالى أثبت له وجهاً، وأثبت له يدين، وأثبت أنه ينزل، وأنه يجيء، فوجهه كوجوهنا، ويده كأيدينا، ونزوله كنزولنا، ومجيئه كمجيئنا، لأننا لا نعقل من المجيء واليد والوجه لا نعقل إلا ما نشاهد، والله خاطبنا بما يمكن إدراكه، فيكون مجيء الله ووجه الله ويد الله ونزول الله مثل ما يثبت لنا.
إذن: هؤلاء في طرف وهؤلاء في طرف، وكلهم ضالون، لأن كل واحد أخذ بجانب، فنحن نقول: إن الله تعالى له وجه وله يدان ويجيء وينزل لكن ليس كأيدينا ولا كوجوهنا وحاشاه من ذلك عز وجل، لأنه (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السميع البصير ))
كذلك أيضاً في مسألة مناصحة الولاة، من الناس من يريد أن يأخذ بجانب من النصوص وهو إعلان النكير على ولاة الأمور، مهما تمخض عنه من المفاسد، ومنهم من يقول: لا يمكن أن نعلن مطلقاً، والواجب أن نناصح ولاة الأمور سراً كما جاء في النص الذي ذكره السائل، ونحن نقول: النصوص لا يكذب بعضها بعضاً، ولا يصادم بعضها بعضاً، فيكون الإنكار معلناً متى؟ عند المصلحة، والمصلحة هي أن يزول الشر ويحل الخير، ويكون سراً إذا كان إعلان الإنكار لا يخدم المصلحة، لا يزول به الشر ولا يحل به الخير.
وأنتم تعلمون -بارك الله فيكم- أن ولاة الأمور لا يمكن أن يرضوا جميع الناس أبداً، حتى إمام المسجد إمام المسجد ، هل هو مرضي كل الجماعة؟ لا، بعضهم يقول: تبكر! وبعضهم يقول: ... بعضهم يقول تطول! وبعضهم يقول: تقصر! وفي الشتاء يتنازعون واللي يقول صل في الشمس واللي يصلي في الظلال لا يحصل الاتفاق، فإذا أعلن النكير على ولاة الأمور استغله من يكرهه وجعل من الحبة قبة وثارت الفتنة، وما ضر الناس إلا مثل هذا الأمر، الخوارج كانوا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه على جيش الشام، ولما تصالح معهم مع جيش الشام حقناً لدماء المسلمين ثاروا ضده، وقالوا: أنت كافر، كفروا علي بن أبي طالب -والعياذ بالله- ليش؟ لأن رعاع الناس وغوغاء الناس لا يمكن ضبطهم أبداً. وإعلان النكير على ولاة الأمور