تفسير قوله تعالى : " كلا إذا دكت الأرض دكاً دكا " إلى قوله ".يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى" من سورة الفجر ؟ حفظ
الشيخ : الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الأخير في شهر صفر عام خمسة عشر وأربعمائة وألف، من اللقاء المعروف بـ " لقاء الباب المفتوح "، والذي يكون كل يوم خميس من كل أسبوع، وهذا اليوم هو اليوم السابع والعشرون من شهر صفر.
وكان من عادتنا أن نتكلم على تفسير شيء من آيات الله، وقد انتهينا إلى قوله تبارك وتعالى: (( كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ))
فيُذَكِّر اللهُ سبحانه وتعالى الناس َبيوم القيامة: (( كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً )) أي: دكاً بعد دك حتى لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، فتُدَكُّ الجبال، ولا بناء، ولا أشجار، تُمَدُّ الأرض كَما يمَد الأديم، يكون الناس عليها في مكان واحد، يُسْمِعُهُم الداعي، ويَنْفُذُهُم البصر، في هذا اليوم (( يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )) ولكن قد فات الأوان، إلاَّ أننا اليوم في مجال العمل، في زمن المهلة، يمكن للإنسان أن يكتسب لمستقره كما قال مؤمن آل فرعون: (( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار )) متاعٌ يتمتع به الإنسان كما يتمتع المسافر بمتاع السفر حتى ينتهي سفره، فهكذا الدنيا.
واعتبر يا أخي! اعتبر لما يُسْتَقْبَل بما مضى، كل ما مضى كأنه ساعة من نهار، كأننا الآن مخلوقون، فكذلك ما يُسْتَقْبَل سوف يمر بنا سريعاً، ويمضي جميعاً، وينتهي السفر إلى مكان آخر ليس مُسْتَقَرَّاً، إلى الأجداث إلى القبور، ومع هذا فإنها ليست محل استقرار، لقول الله تعالى: (( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ )).
سمع أعرابي رجلاً يقرأ هذه الآية فقال: والله ما الزائر بمقيم، ولا بد من مفارقةٍ لهذا المكان، وهذا استنباط قوي وفهم جيد، يؤيده الآيات الكثيرة الصريحة في ذلك، كما في قوله تعالى: (( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ )).
وذكَّر الله سبحانه وتعالى ما يكون في هذا اليوم فقال: (( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً )) أي: صفاً بعد صف.
(( وَجَاءَ رَبُّكَ )) وهذا المجيء هو مجيئُه هو عزَّ وجلَّ، لأن الفعل أُسنِد إلى الله، وكل فعل يسند إلى الله فهو قائم به لا بغيره، هذه هي القاعدة في اللغة العربية، والقاعدة في أسماء الله وصفاته: كل ما أسنده الله لنفسه فهو له نفسه لا لغيره.
وعلى هذا فالذي يأتي هو الله عزَّ وجلَّ، وليس كما حرفه أهل التعطيل، حيث قالوا: إنه جاء أمر الله، فإن هذا إخراجٌ للكلام عن ظاهره بلا دليل.
فنحن من عقيدتنا أن نجري كلام الله ورسوله على ظاهره، وأن لا نحرف فيه، ونقول: إن الله تعالى يجيء يوم القيامة هو نفسه، ولكن كيف هذا المجيء؟ هذا هو الذي لا علم لنا به، لا ندري كيف يجيء.
والسؤال عن مثل هذا بدعة، كما قال الإمام مالك رحمه الله حين سئل عن قوله تعالى: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )) كيف استوى؟ سائل يسأل كيف استوى يعني وشلون الاستواء؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرُّحَضاء -يعني: العرق- لشدة هذا السؤال على قلبه، لأنه سؤالٌ عظيم، سؤالُ متنطِّع، سؤالُ متعنِّتٍ أو مبتدعٍ يريد السوء، ثم رفع رأسه، وقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
الشاهد الكلمة الأخيرة: السؤال عنه بدعة واعتَبِرْ هذا في جميع صفات الله.
فلو سألَنا سائل قال: إن الله يقول: (( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ )) يعني: آدم، كيف خلقه، كيف خلقه بيده؟ نقول: هذا السؤال بدعة.
قال: أنا أريد العلم، لا أحب أن يخفى علي شيء من صفات ربي، فأريد أن أعلم كيف خَلَقَه! نقول: نحن نسألك أسئلة سهلة.
السؤال الأول: هل أنت أحرص على العلم من الصحابة رضي الله عنهم؟ إما أن يقول: نعم وإما أن يقول: لا، والمتوقع أن يقول: ايش؟ لا.
طيب هل الذي وجهت إليه السؤال أعلم بكيفية صفات الله عزَّ وجلَّ أم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ سيقول: الرسول، إذن: الصحابة أحرص منك على العلم، والمسئول الذي وجَّهوا إليه السؤال أعلم من الذي تسأله، ومع ذلك ما سألوا، لأنهم يلتزمون الأدب مع الله عزَّ وجلَّ، ويقولون بقلوبهم وربما بألسنتهم: إن الله أجل وأعظم من أن تحيط أفهامُنا وعقولُنا بكيفيات صفاته، والله عزَّ وجلَّ يقول في كتابه في الأمور المعقولة: (( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً )) وفي الأمور المحسوسة: (( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ )).
فنقول: يا أخي الزم الأدب، لا تسأل كيف خلق الله آدم بيده، فإن هذا بدعة.
وكذلك بقية الصفات، لو سأل: كيف عين الله عزَّ وجلَّ؟ قلنا له: هذا بدعة.
لو سأل: كيف اليد يد الله عزَّ وجلَّ؟ قلنا له: هذا بدعة، وعليك أن تلزم الأدب، وأن لا تسأل عن كيفية صفات الله عزَّ وجلَّ ، لما قال هنا في الآية الكريمة: (( وجاء ربك )) وسأل: كيف يجيء؟ ماذا نقول له؟ أجيبوا؟ نقول: هذا بدعة، هذه قاعدة التزموها، هذا السؤال بدعة، وكل إنسان يسأل عن كيفية صفات الله فهو مبتدع متنطع سائل عما لا يمكن الوصول إليه، فموقفنا من مثل هذه الآية (( وَجَاءَ رَبُّكَ )) أن نؤمن بأن الله يجيء، لكن على أي كيفية؟ الله أعلم.
طيب لو قال قائل: هل يحتمل أن يكون مجيئُه كمجيء الإنسان العادي، أو كمجيء الملِك إلى مكان الاحتفال؟ الجواب: لا، هذا نعلم أنه لا يكون، الدليل: قوله تعالى: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) فنحن نعلم النفي، ولا نعلم الإثبات، أي: نعلم أنه لا يمكن أن يأتي على كيفية إتيان البشر، ولكننا لا نثبت الكيفية، وهذا هو الواجب علينا.
وقوله: (( وَالْمَلَكُ )) أل هنا: للعموم، يعني: جميع الملائكة يأتون ينزلون ويحيطون بالخلق، تنزل ملائكة السماء الدنيا، ثم ملائكة السماء الثانية، وهلم جراً، يحيطون بالخلق إظهاراً للعظمة، وإلا فإن الخلق لا يمكن أن يفروا يميناً ولا شمالاً، لكن إظهاراً لعظمة الله وتهويلاً لهذا اليوم العظيم تنزل الملائكة يحيطون بالخلق.
وهذا اليوم يوم مشهود، يشهده الملائكة والإنس والجن والحشرات وكل شيء، (( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ )) فهو يوم عظيم لا ندركه الآن ولا نتصوره، لأنه أعظم مِمَّا يُتَصَوَّر.
الأمر الثالث مما به الإنذار في هذا اليوم، بعد أن عرفنا الأمر الأول، وهو: مجيء الله، ثم صفوف الملائكة، قال: (( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ )) جيء يومئذ ولم يذكر الجائي، لكن قد دلت السنة أنه يؤتى بالنار، تقاد بسبعين ألف زمام، كل زمام منها يقوده سبعون ألف مَلَك، وما أدراك ما قوة الملائكة! قوة ليست كقوة البشر، ولا كقوة الجن، بل هي أعظم وأعظم بكثير، ولهذا لما قال عفريت من الجن لسليمان: (( أَنَا آتِيكَ بِهِ )) بعرش بلقيس (( قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ )) فرآه مستقراً عنده، قال العلماء: لأن الرجل هذا دعا الله فحَمَلَتْه الملائكة، فجاءت به إلى سليمان في الشام من اليمن.
فقوة الملائكة عظيمة، وهم يجرون هذه النار بسبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك.
إذن: هي عظيمة نسأل الله العافية، ونسأل الله أن يجيرنا وإياكم منها.
هذه النار (( إِذَا رَأَتْهُم )) أي: رأت أهلها (( مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً )) وليس كزفير الطائرات، أو المعدات، زفير تنخلع منه القلوب والعياذ بالله (( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ )) وقال الله عزَّ وجلَّ: (( تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ )) تكاد تقطع من شدة الغيظ على أهلها والعياذ بالله، فلهذا أنذرنا الله تعالى منها.
فهذه ثلاثة أمور كلها إنذار: مجيء الرب جلَّ جلالُه، صفوف الملائكة، الثالث: الإتيان بجهنم.
(( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى )) يتذكر ويتعظ، لكن أنَّى له الاتعاظ، فات الأوان، انقطع الاتعاظ بحضور الأجل في الدنيا قبل أن يصل الإنسان إلى الآخرة، (( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ )).
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المتعظين بآياته، ونسأله تعالى أن يرزقنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ورزقاً طيباً واسعاً.
والآن إلى الأسئلة، ونبدأ باليمين، والسؤال واحد لكل واحد، ولا نقبل التعليق، ونمشي على القاعدة: أن من غير عنيزة فهم أحق.