تفسير قوله تعالى : " يقول يا ليتني قدمت لحياتي ..... "إلى آخر سورة الفجر . حفظ
الشيخ : أما بعد: فهذا هو اللقاء الثامن والستون نعم
وعليكم السلام هلا الله يحييك خير ... لكن صل معنا الظهر
السائل : ...
الشيخ : نعم
أما بعد: فهذا هو اللقاء الثامن والستون من اللقاء الأسبوعي الذي يتم في كل يوم خميس، وهذا اليوم هو: الخميس الرابع من شهر ربيع الأول عام خمسة عشر وأربعمائة وألف.
ونحن من عادتنا أن نتكلم على ما يسر الله -لا تفتح الباب عشان الإخوان برة يسمعون افتحه مرة نهائي- كان من عادتنا أن نتكلم على ما يسر الله عزَّ وجلَّ من تفسير القرآن الكريم، وقد انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى: (( يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثَقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ )) وهذا هو آخر سورة الفجر.
يقول الله عزَّ وجلَّ: (( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى )) يعني: إذا جاء الله يوم القيامة وجاءت الملائكة صفوفاً صفوفاً وأحاطوا بالخلق، وحصلت الأهوال والأفزاع يتذكر الإنسان يتذكر أنه وُعِد بهذا اليوم، وأنه أُعْلِم به مِن قِبَل الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنذروا وخوَّفوا، ولكن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن ولو جاءته كل آية والعياذ بالله.
حينئذٍ يتذكر، لكن يقول الله عزَّ وجلَّ: (( وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى )) أنى تكون له الذكرى في هذا اليوم الذي رأى فيه ما أُخْبِر عنه يقيناً؟ والإيمان عن مشاهدةٍ لا ينفع، والإيمان عن المشاهدةٍ لا ينفع لأن كل إنسان يؤمن بما شاهد، الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب: (( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ )) ويصدق بما أخبرت به الرسل عن الله عزَّ وجلَّ وعن اليوم الآخر، في ذلك اليوم يتذكر الإنسان، ولكن قال الله عزَّ وجلَّ: (( وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى )) أي: بعيدٌ أن ينتفع بهذه الذكرى التي حصلت منه حين شاهد الحق.
(( يَقُولُ )) الإنسان (( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )) يتمنى أنه قدم لحياته، وما هي حياته؟ أتظنون أنه يريد حياة الدنيا؟ لا والله، الحياة الدنيا انتهت وانقضت، وليست الحياة الدنيا حياةً في الواقع، الواقع أنها هموم وأكدار، كل صَفْوٍ يعقبه كَدَر، كل عافية يتبعها مرض، كل اجتماع يعقبه تفرُّق، انظروا ما حصل! أين الآباء؟ أين الإخوان؟ أين الأبناء؟ أين الأزواج؟ هل هذه حياة؟ أبداً، ولهذا قال بعض الشعراء الحكماء:
" لا طيب للعيش ما دامت مُنَغَّصَةً *** لَذَّاتُه بادِّكارِ الموتِ والهرمِ "
" لا طيب للعيش ما دامت مُنَغَّصَةً *** لَذَّاتُه بادِّكارِ الموتِ والهرمِ "
كل إنسان يتذكر أن مآله أحد أمرين: إما الموت، وإما الهرم.
نحن نعرف أناساً كانوا شباباً في عنفوان الشباب، عُمِّروا، لكن رجعوا إلى أرذل العمر، يَرِقُّ لهم الإنسان إذا رآهم في حالة بؤس، حتى وإن كان عندهم من الأموال ما عندهم، وعندهم من الأهل ما عندهم لكنهم في حالة بؤس.
وهكذا كل إنسان، إما أن يموت مبكراً، وإما أن يُعَمَّر فيُرَد إلى أرذل العمر، فهل هذه حياة؟ الحياة هي ما بيَّنه الله عزَّ وجلَّ: (( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) يعني: لَهِيَ الحياة التامة لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
يقول هذا: (( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )) يتمنى، لكن مع الأسف أنَّى له الذكرى.
قال تعالى: (( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثَقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ )) يعني: في هذ اليوم لا أحد يعذب عذابه، ولا أحد يوثق وثاقه، والمعلوم أن هذا الكافر، المؤمن يأتينا ذكر المؤمن إن شاء الله، الكافر لا يعذب أحد عذابه في ذلك اليوم، وأخبركم لماذا؟ لأنه يلقى على أهل النار في الموقف العطش الشديد، فينظرون إلى النار كأنها السراب، والسراب هو ما يشاهده الإنسان في أيام الصيف في عزة الحر من البقاع حتى يخيل إليه أنه الأخ
الطالب : ...
الشيخ : ماء، ينظرون إلى النار كأنها سراب وهم عطاش، فيتهافتون عليها، يذهبون إليها سراعًا يريدون أي شيء؟ يريدون الشرب، فإذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها: (( ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا )) قد قامت عليكم الحجة، فيوبخونهم قبل أن يدخلوا النار، والتوبيخ عذاب قلبي وألم نفسي، قبل أن يذوقوا ألم النار والعياذ بالله، أعاذني الله وإياكم منها، في النار يوبخهم الجبار عز وجل توبيخًا أعظم من هذا يقولون: (( ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قومًا ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون )) يقول الله تعالى وهو أرحم الراحمين: (( اخسئوا فيها ولا تكلمون )) أبلغ من هذا الإذلال والعياذ بالله (( اخسئوا فيها ولا تكلمون )) يقوله أرحم الراحمين، فمن يرحمهم بعد الرحمن؟ لا راحم لهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ( أهون أهل النار عذابًا من عليه نعلان يغلي منهما دماغه، ولا يرى أن أحدًا أهون منه )، ولا يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا، يرى أنه أشد الناس عذابًا وهو أهونهم عذابًا وعليه نعلان يغلي منهما دماغه، النعلان في أسفل البدن والدماغ في أعلاه، فإذا كان أعلى البدن يغلي من أسفله، فالوسط من باب أشد، أجارنا الله وإياكم من النار.
(( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثَقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ )) لأنهم والعياذ بالله يوثقون: (( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ )) أدخلوه في هذه السلسلة، تُغَلُّ أيديهم نسأل الله العافية، ولا أحد يتصور الآن ما هم فيه من البؤس والشقاء والعذاب، والله إن الإنسان أحياناً يتمنى أنه لَمْ يُخْلَق خوفاً من النار، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ( ليت أمي لم تلدني، ليتني شجرة تُعْضَد ) لأن الإنسان ما يدري أولاً ما هو عليه الآن! هل هو على صواب أو على خطأ؟ هل في عباداته رياء؟ هل في عباداته بدعة؟ ثم لا يري أيضا -وهو أخطر- لا يري ماذا يُخْتَم له به: ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها ) مَن الذي يأمن عند الموت أن يُصَدَّ ويُضَلَّ، ويأتيه الشيطان يقول: أنا أبوك، اترك يا بُنَيَّ الإسلام، وكن نصرانياً أو يهودياً؟ لأن بعض الناس والعياذ بالله عند الموت يُفْتَن، تُعْرَض عليه الأديان، ويقال له: اختر النصارى، أو اختر اليهود، أعرض عن الإسلام، ولهذا: ومن فتنة المحيا والممات. من الذي يأمن؟ أسأل الله أن يحسن لي ولكم الخاتمة، من الذي يأمن؟ إذن: على الإنسان أن يستعد.
(( يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثَقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ )).
ثم ختم الله تعالى هذه السورة بما يبهج القلب، ويشرح الصدر، فقال: (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ )) اللهم اجعل نفوسنا مطمئنة.
(( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ))
(( ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ )) يقال هذا القول للإنسان عند النزع في آخر لحظة من الدنيا، يقال لروحه: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رحمةٍ من الله ورضوان، فتستبشر تفرح، ويسهُل خروجُها من البدن، لأنها بُشِّرت بما هو أنعم ِبمَّا في الدنيا كلها، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( لَمَوضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها ) سوط الإنسان: العصا القصير، موضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وليست دنياك أنت، الدنيا من أولها إلى آخرها، بما فيها من النعيم، والمُلْك، والرفاهية، وغيرها، موضع سوط خير من الدنيا وما فيها، فكيف بمن ينظر في مُلْك مسيرته ألفَي عام، ألفين سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، نعيمٌ لا يمكن أن ندركه بنفوسنا ولا بتصورنا: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))
معنى المطمئنة؟ المطمئنة يعني: المؤمنة الآمنة المؤمنة الآمنة، لأنك لا تجد أطمن نفس مِن نفْس المؤمن أبداً، المؤمن يا إخواني نفسُه طيبة مطمئنة، ولهذا تعجب الرسول صلى الله عليه وسلم من المؤمن قال: ( عجباً لأمر المؤمن إن أمرَه كلَّه خير، إن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له ) هو مطمئنٌ ماشي مع الله بقضائه وقدره، لا يسخط عند المصائب، ولا يبطر عند النعم، بل هو شاكر عند النعم، صابر عند البلاء، فتجده مطمئناً.
لكن الكافر، أو ضعيف الإيمان لا يطمئن، إذا أصابه البلاء جَزع وسخِط، ورأى أنه مظلوم مِن قِبَل الله والعياذ بالله، حتى إن بعضهم ينتحر ما يصبر ما يطمئن، يكون دائماً في قلق، ينظر مثلا إلى نفسه وإذا هو قليل المال ، قليل العيال، ليس عنده زوجة، ليس له قوم يحمونه، فيقول: أنا لستُ في نعمة، لأن فلاناً عنده مال، عنده زوجات، عنده أولاد، عنده قبيلة تحميه، أنا ليس عندي ، فلا يرى لله عليه نعمة لا يرى لله عليه نعمة ، لأنه ضعيف الإيمان، وليس بمطمئن، دائماً في قلق.
ولهذا نجد الناس الآن يذهبون إلى كل مكان ليُرَفِّهوا عن أنفسهم، ليزيلوا عنها الألم والتعب، لكن لا يزيل ذلك عنك إلا إيش؟ إلا الإيمان الإيمان الحقيقي، هو الذي يؤدي إلى الطمأنينة.
فالنفس المطمئنة: هي المؤمنة ايش؟ الآمنة، مؤمنة في الدنيا، آمنة من عذاب الله يوم القيامة، اللهم اجعل نفوسنا هكذا.
يا إخواني قال بعض السلف كلمة عجيبة، قال: " لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لَجالَدُونا عليه بالسيوف " هل تجدون أنعم في الدنيا من الملوك وأبنائهم؟ اجيبوا؟ لا، لا يوجد أحدٌ أنعم منهم في الظاهر يعني في نعمة الجسد أو نعمة الجسد، لكن قلوبهم ليست كقلوب المؤمنين، المؤمن الذي ليس عليه إلا ثوبٌ مُرَقَّع، وكوخٌ لا يحميه من المطر ولا من الحر ولكنه مؤمن، دنياهُ ونعيمُه في الدنيا أفضل من الملوك وأبناء الملوك، لأن قلبَه مستنير بنور الله بنور الإيمان.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حُبس وأوذي في الله عزَّ وجلَّ، فلما أُدْخِل الحبس وأغلقوا عليه الباب قال رحمه الله: (( فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ )) يقول هذا تَحَدُّثاً بنعمة الله لا افتخاراً، ثم قال: ما يصنع أعدائي بي؟ -أيَّ شيءٍ يصنعون؟ إن جنتي في صدري ما هي الجنة؟ الإيمان، والعلم، واليقين، وإن حبسي خلوة، ونفيي -إن نفَوه من البلد- سياحة، وقتلي شهادة، سبحان الله! هذا اليقين، هذه الطمأنينة.
الإنسان لو أُدخل الحبس عندنا قام يُخَمِّس ويُسَدِّس،: ما مستقبلي؟ ما مستقبل أولادي؟ أهلي؟ قومي؟ لكن هذا يقول: جنتي في صدري، وصَدَقَ، ولعل هذا هو السر في قوله تبارك وتعالى: (( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى )) يعني: في الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، معلوم الجنة ما فيها موت لا أولى ولا ثانية، لكن لَمَّا كان نعيم القلب ممتداً من الدنيا إلى دخول الجنة صارت كأن الدنيا والآخرة كلها جنة، وليس فيها إلا موتة واحدة، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، وأن يجمعنا وإياكم وإخوانَنا المسلمين الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في الجنة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إنه على كل شيء قدير.
يقول تعالى: (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً )) (( رَاضِيَةً )) بما أعطاك الله من النعيم (( مَرْضِيَّةً )) عند الله عزَّ وجلَّ، كما قال الله تعالى: (( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )).
(( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي )) أي: ادخلي في عبادي الصالحين مِن جملتهم، لأن الصالحين عباد الله هم خير طبقات البشر، البشر طبقاتهم ثلاث: مُنْعَمٌ عليهم، ومغضوبٌ عليهم، وضالُّون.
كل هذه الطبقات مذكورةٌ في سورة ما هي؟ سورة الفاتحة: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )).
وأنا بسألكم هل أنتم عندما تقرأون هذه الآية: هل أحدكم يشعر بأن الذين أنعم الله عليهم هم: النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، ويشعر بأنه يسأل الله أن يهديه صراط هؤلاء؟ أكثر الناس لا يشعر، أكثر الناس يقرؤها هكذا، لكن ما يشعر أن هذا تاريخ، يعني تشير إلى تاريخ الأمم، وأن الطبقة الثانية المغضوب عليهم هم اليهود وأشباه اليهود مِن كل مَن عَلِم الحق وخالفة، كل مَن عَلِم الحق وخالفَه، كل من علم الحق وخالفه ففيه شَبَهٌ من اليهود، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله قال: " مَن فَسَدَ مِن علمائنا ففيه شَبَهٌ مِن اليهود ".
الضالون من؟ النصارى، هم الذين جهلوا الحق، أرادوه لكن عُمُوا عنه -والعياذ بالله- ما اهتدوا إليه.
قال ابن عيينة: " وكل مَن فَسَدَ مِن عُبَّادنا ففيه شَبَهٌ مِن النصارى " لأنهم العُبَّاد يريدون الخير ويريدون العبادة لكن ما عندهم علم، فهم ضالون.
فأقول يا إخواني الناس طبقات ثلاث: المُنْعَمُ عليهم، والمغضوبُ عليهم، والضالُّون.
وهنا يقول: (( ادْخُلِي فِي عِبَادِي )) من العباد؟ المراد أيّ الطبقات؟ الطبقة الأولى: المُنْعَم عليهم.
(( وَادْخُلِي جَنَّتِي )) جنتُه التي أعدها الله عزَّ وجلَّ لأوليائه -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها- أضافها الله إلى نفسه تشريفاً لها وتعظيماً، وإعلاماً للخلق بعنايته بها جلَّ وعَلا.
والله سبحانه وتعالى قد خلقها خلقاً غير خلق الدنيا، خَلَقَ لنا في الدنيا فاكهة ونخل ورمان، في الجنة أيضاً فاكهة ونخل ورمان، أتظنون أن ما في الجنة كالذي في الدنيا؟ أبداً لا يمكن، لأن الله يقول: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ )) ولو كان ما في الجنة كالذي في الدنيا لكنا نعلم.
إذن: هو مثله في الاسم، لكن ليس مثله في الحقيقة، ولا في الكيفية، ولهذا قال: (( وَادْخُلِي جَنَّتِي )) فأضافها إلى نفسه للدلالة على شرفها وعناية الله بها، وهذا يوجب للإنسان أن يرغب فيها غاية الرغبة، كما أنه يرغب في بيوت الله، اللي هي المساجد، لأن الله أضافها إلى نفسه، فكذلك يرغب في هذه الدار التي أضافها إلى نفسه، والأمر يسير، قال رجلٌ للرسول صلى الله عليه وسلم: ( دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال: لقد سألت عن عظيم ) -وهو صحيحٌ عظيم، (( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )) ولكن- وإنه ليسير على مَن يسره الله عليه -اللهم يسرنا لليسرى- ( إنه ليسير على مَن يسره الله عليه تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة ) وذَكَرَ الحديث.
المهم أن الدين والحمد لله يسير وسهل، لكن النفوس الأمارة بالسوء هي التي تحول بيننا وبين ديننا والشهوات والشبهات.
(( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )).
(( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )).
والآن إلى الأسئلة، ونبدأ باليمين، ومن عادتنا أن السؤال واحد لكل واحد، وأنه لا تعقيب على الجواب إلا إذا كان الجواب خطأً. نعم
وعليكم السلام هلا الله يحييك خير ... لكن صل معنا الظهر
السائل : ...
الشيخ : نعم
أما بعد: فهذا هو اللقاء الثامن والستون من اللقاء الأسبوعي الذي يتم في كل يوم خميس، وهذا اليوم هو: الخميس الرابع من شهر ربيع الأول عام خمسة عشر وأربعمائة وألف.
ونحن من عادتنا أن نتكلم على ما يسر الله -لا تفتح الباب عشان الإخوان برة يسمعون افتحه مرة نهائي- كان من عادتنا أن نتكلم على ما يسر الله عزَّ وجلَّ من تفسير القرآن الكريم، وقد انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى: (( يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثَقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ )) وهذا هو آخر سورة الفجر.
يقول الله عزَّ وجلَّ: (( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى )) يعني: إذا جاء الله يوم القيامة وجاءت الملائكة صفوفاً صفوفاً وأحاطوا بالخلق، وحصلت الأهوال والأفزاع يتذكر الإنسان يتذكر أنه وُعِد بهذا اليوم، وأنه أُعْلِم به مِن قِبَل الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنذروا وخوَّفوا، ولكن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن ولو جاءته كل آية والعياذ بالله.
حينئذٍ يتذكر، لكن يقول الله عزَّ وجلَّ: (( وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى )) أنى تكون له الذكرى في هذا اليوم الذي رأى فيه ما أُخْبِر عنه يقيناً؟ والإيمان عن مشاهدةٍ لا ينفع، والإيمان عن المشاهدةٍ لا ينفع لأن كل إنسان يؤمن بما شاهد، الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب: (( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ )) ويصدق بما أخبرت به الرسل عن الله عزَّ وجلَّ وعن اليوم الآخر، في ذلك اليوم يتذكر الإنسان، ولكن قال الله عزَّ وجلَّ: (( وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى )) أي: بعيدٌ أن ينتفع بهذه الذكرى التي حصلت منه حين شاهد الحق.
(( يَقُولُ )) الإنسان (( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )) يتمنى أنه قدم لحياته، وما هي حياته؟ أتظنون أنه يريد حياة الدنيا؟ لا والله، الحياة الدنيا انتهت وانقضت، وليست الحياة الدنيا حياةً في الواقع، الواقع أنها هموم وأكدار، كل صَفْوٍ يعقبه كَدَر، كل عافية يتبعها مرض، كل اجتماع يعقبه تفرُّق، انظروا ما حصل! أين الآباء؟ أين الإخوان؟ أين الأبناء؟ أين الأزواج؟ هل هذه حياة؟ أبداً، ولهذا قال بعض الشعراء الحكماء:
" لا طيب للعيش ما دامت مُنَغَّصَةً *** لَذَّاتُه بادِّكارِ الموتِ والهرمِ "
" لا طيب للعيش ما دامت مُنَغَّصَةً *** لَذَّاتُه بادِّكارِ الموتِ والهرمِ "
كل إنسان يتذكر أن مآله أحد أمرين: إما الموت، وإما الهرم.
نحن نعرف أناساً كانوا شباباً في عنفوان الشباب، عُمِّروا، لكن رجعوا إلى أرذل العمر، يَرِقُّ لهم الإنسان إذا رآهم في حالة بؤس، حتى وإن كان عندهم من الأموال ما عندهم، وعندهم من الأهل ما عندهم لكنهم في حالة بؤس.
وهكذا كل إنسان، إما أن يموت مبكراً، وإما أن يُعَمَّر فيُرَد إلى أرذل العمر، فهل هذه حياة؟ الحياة هي ما بيَّنه الله عزَّ وجلَّ: (( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) يعني: لَهِيَ الحياة التامة لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
يقول هذا: (( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )) يتمنى، لكن مع الأسف أنَّى له الذكرى.
قال تعالى: (( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثَقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ )) يعني: في هذ اليوم لا أحد يعذب عذابه، ولا أحد يوثق وثاقه، والمعلوم أن هذا الكافر، المؤمن يأتينا ذكر المؤمن إن شاء الله، الكافر لا يعذب أحد عذابه في ذلك اليوم، وأخبركم لماذا؟ لأنه يلقى على أهل النار في الموقف العطش الشديد، فينظرون إلى النار كأنها السراب، والسراب هو ما يشاهده الإنسان في أيام الصيف في عزة الحر من البقاع حتى يخيل إليه أنه الأخ
الطالب : ...
الشيخ : ماء، ينظرون إلى النار كأنها سراب وهم عطاش، فيتهافتون عليها، يذهبون إليها سراعًا يريدون أي شيء؟ يريدون الشرب، فإذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها: (( ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا )) قد قامت عليكم الحجة، فيوبخونهم قبل أن يدخلوا النار، والتوبيخ عذاب قلبي وألم نفسي، قبل أن يذوقوا ألم النار والعياذ بالله، أعاذني الله وإياكم منها، في النار يوبخهم الجبار عز وجل توبيخًا أعظم من هذا يقولون: (( ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قومًا ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون )) يقول الله تعالى وهو أرحم الراحمين: (( اخسئوا فيها ولا تكلمون )) أبلغ من هذا الإذلال والعياذ بالله (( اخسئوا فيها ولا تكلمون )) يقوله أرحم الراحمين، فمن يرحمهم بعد الرحمن؟ لا راحم لهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ( أهون أهل النار عذابًا من عليه نعلان يغلي منهما دماغه، ولا يرى أن أحدًا أهون منه )، ولا يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا، يرى أنه أشد الناس عذابًا وهو أهونهم عذابًا وعليه نعلان يغلي منهما دماغه، النعلان في أسفل البدن والدماغ في أعلاه، فإذا كان أعلى البدن يغلي من أسفله، فالوسط من باب أشد، أجارنا الله وإياكم من النار.
(( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثَقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ )) لأنهم والعياذ بالله يوثقون: (( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ )) أدخلوه في هذه السلسلة، تُغَلُّ أيديهم نسأل الله العافية، ولا أحد يتصور الآن ما هم فيه من البؤس والشقاء والعذاب، والله إن الإنسان أحياناً يتمنى أنه لَمْ يُخْلَق خوفاً من النار، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ( ليت أمي لم تلدني، ليتني شجرة تُعْضَد ) لأن الإنسان ما يدري أولاً ما هو عليه الآن! هل هو على صواب أو على خطأ؟ هل في عباداته رياء؟ هل في عباداته بدعة؟ ثم لا يري أيضا -وهو أخطر- لا يري ماذا يُخْتَم له به: ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها ) مَن الذي يأمن عند الموت أن يُصَدَّ ويُضَلَّ، ويأتيه الشيطان يقول: أنا أبوك، اترك يا بُنَيَّ الإسلام، وكن نصرانياً أو يهودياً؟ لأن بعض الناس والعياذ بالله عند الموت يُفْتَن، تُعْرَض عليه الأديان، ويقال له: اختر النصارى، أو اختر اليهود، أعرض عن الإسلام، ولهذا: ومن فتنة المحيا والممات. من الذي يأمن؟ أسأل الله أن يحسن لي ولكم الخاتمة، من الذي يأمن؟ إذن: على الإنسان أن يستعد.
(( يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثَقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ )).
ثم ختم الله تعالى هذه السورة بما يبهج القلب، ويشرح الصدر، فقال: (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ )) اللهم اجعل نفوسنا مطمئنة.
(( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ))
(( ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ )) يقال هذا القول للإنسان عند النزع في آخر لحظة من الدنيا، يقال لروحه: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رحمةٍ من الله ورضوان، فتستبشر تفرح، ويسهُل خروجُها من البدن، لأنها بُشِّرت بما هو أنعم ِبمَّا في الدنيا كلها، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( لَمَوضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها ) سوط الإنسان: العصا القصير، موضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وليست دنياك أنت، الدنيا من أولها إلى آخرها، بما فيها من النعيم، والمُلْك، والرفاهية، وغيرها، موضع سوط خير من الدنيا وما فيها، فكيف بمن ينظر في مُلْك مسيرته ألفَي عام، ألفين سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، نعيمٌ لا يمكن أن ندركه بنفوسنا ولا بتصورنا: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))
معنى المطمئنة؟ المطمئنة يعني: المؤمنة الآمنة المؤمنة الآمنة، لأنك لا تجد أطمن نفس مِن نفْس المؤمن أبداً، المؤمن يا إخواني نفسُه طيبة مطمئنة، ولهذا تعجب الرسول صلى الله عليه وسلم من المؤمن قال: ( عجباً لأمر المؤمن إن أمرَه كلَّه خير، إن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له ) هو مطمئنٌ ماشي مع الله بقضائه وقدره، لا يسخط عند المصائب، ولا يبطر عند النعم، بل هو شاكر عند النعم، صابر عند البلاء، فتجده مطمئناً.
لكن الكافر، أو ضعيف الإيمان لا يطمئن، إذا أصابه البلاء جَزع وسخِط، ورأى أنه مظلوم مِن قِبَل الله والعياذ بالله، حتى إن بعضهم ينتحر ما يصبر ما يطمئن، يكون دائماً في قلق، ينظر مثلا إلى نفسه وإذا هو قليل المال ، قليل العيال، ليس عنده زوجة، ليس له قوم يحمونه، فيقول: أنا لستُ في نعمة، لأن فلاناً عنده مال، عنده زوجات، عنده أولاد، عنده قبيلة تحميه، أنا ليس عندي ، فلا يرى لله عليه نعمة لا يرى لله عليه نعمة ، لأنه ضعيف الإيمان، وليس بمطمئن، دائماً في قلق.
ولهذا نجد الناس الآن يذهبون إلى كل مكان ليُرَفِّهوا عن أنفسهم، ليزيلوا عنها الألم والتعب، لكن لا يزيل ذلك عنك إلا إيش؟ إلا الإيمان الإيمان الحقيقي، هو الذي يؤدي إلى الطمأنينة.
فالنفس المطمئنة: هي المؤمنة ايش؟ الآمنة، مؤمنة في الدنيا، آمنة من عذاب الله يوم القيامة، اللهم اجعل نفوسنا هكذا.
يا إخواني قال بعض السلف كلمة عجيبة، قال: " لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لَجالَدُونا عليه بالسيوف " هل تجدون أنعم في الدنيا من الملوك وأبنائهم؟ اجيبوا؟ لا، لا يوجد أحدٌ أنعم منهم في الظاهر يعني في نعمة الجسد أو نعمة الجسد، لكن قلوبهم ليست كقلوب المؤمنين، المؤمن الذي ليس عليه إلا ثوبٌ مُرَقَّع، وكوخٌ لا يحميه من المطر ولا من الحر ولكنه مؤمن، دنياهُ ونعيمُه في الدنيا أفضل من الملوك وأبناء الملوك، لأن قلبَه مستنير بنور الله بنور الإيمان.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حُبس وأوذي في الله عزَّ وجلَّ، فلما أُدْخِل الحبس وأغلقوا عليه الباب قال رحمه الله: (( فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ )) يقول هذا تَحَدُّثاً بنعمة الله لا افتخاراً، ثم قال: ما يصنع أعدائي بي؟ -أيَّ شيءٍ يصنعون؟ إن جنتي في صدري ما هي الجنة؟ الإيمان، والعلم، واليقين، وإن حبسي خلوة، ونفيي -إن نفَوه من البلد- سياحة، وقتلي شهادة، سبحان الله! هذا اليقين، هذه الطمأنينة.
الإنسان لو أُدخل الحبس عندنا قام يُخَمِّس ويُسَدِّس،: ما مستقبلي؟ ما مستقبل أولادي؟ أهلي؟ قومي؟ لكن هذا يقول: جنتي في صدري، وصَدَقَ، ولعل هذا هو السر في قوله تبارك وتعالى: (( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى )) يعني: في الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، معلوم الجنة ما فيها موت لا أولى ولا ثانية، لكن لَمَّا كان نعيم القلب ممتداً من الدنيا إلى دخول الجنة صارت كأن الدنيا والآخرة كلها جنة، وليس فيها إلا موتة واحدة، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، وأن يجمعنا وإياكم وإخوانَنا المسلمين الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في الجنة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إنه على كل شيء قدير.
يقول تعالى: (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً )) (( رَاضِيَةً )) بما أعطاك الله من النعيم (( مَرْضِيَّةً )) عند الله عزَّ وجلَّ، كما قال الله تعالى: (( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )).
(( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي )) أي: ادخلي في عبادي الصالحين مِن جملتهم، لأن الصالحين عباد الله هم خير طبقات البشر، البشر طبقاتهم ثلاث: مُنْعَمٌ عليهم، ومغضوبٌ عليهم، وضالُّون.
كل هذه الطبقات مذكورةٌ في سورة ما هي؟ سورة الفاتحة: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )).
وأنا بسألكم هل أنتم عندما تقرأون هذه الآية: هل أحدكم يشعر بأن الذين أنعم الله عليهم هم: النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، ويشعر بأنه يسأل الله أن يهديه صراط هؤلاء؟ أكثر الناس لا يشعر، أكثر الناس يقرؤها هكذا، لكن ما يشعر أن هذا تاريخ، يعني تشير إلى تاريخ الأمم، وأن الطبقة الثانية المغضوب عليهم هم اليهود وأشباه اليهود مِن كل مَن عَلِم الحق وخالفة، كل مَن عَلِم الحق وخالفَه، كل من علم الحق وخالفه ففيه شَبَهٌ من اليهود، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله قال: " مَن فَسَدَ مِن علمائنا ففيه شَبَهٌ مِن اليهود ".
الضالون من؟ النصارى، هم الذين جهلوا الحق، أرادوه لكن عُمُوا عنه -والعياذ بالله- ما اهتدوا إليه.
قال ابن عيينة: " وكل مَن فَسَدَ مِن عُبَّادنا ففيه شَبَهٌ مِن النصارى " لأنهم العُبَّاد يريدون الخير ويريدون العبادة لكن ما عندهم علم، فهم ضالون.
فأقول يا إخواني الناس طبقات ثلاث: المُنْعَمُ عليهم، والمغضوبُ عليهم، والضالُّون.
وهنا يقول: (( ادْخُلِي فِي عِبَادِي )) من العباد؟ المراد أيّ الطبقات؟ الطبقة الأولى: المُنْعَم عليهم.
(( وَادْخُلِي جَنَّتِي )) جنتُه التي أعدها الله عزَّ وجلَّ لأوليائه -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها- أضافها الله إلى نفسه تشريفاً لها وتعظيماً، وإعلاماً للخلق بعنايته بها جلَّ وعَلا.
والله سبحانه وتعالى قد خلقها خلقاً غير خلق الدنيا، خَلَقَ لنا في الدنيا فاكهة ونخل ورمان، في الجنة أيضاً فاكهة ونخل ورمان، أتظنون أن ما في الجنة كالذي في الدنيا؟ أبداً لا يمكن، لأن الله يقول: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ )) ولو كان ما في الجنة كالذي في الدنيا لكنا نعلم.
إذن: هو مثله في الاسم، لكن ليس مثله في الحقيقة، ولا في الكيفية، ولهذا قال: (( وَادْخُلِي جَنَّتِي )) فأضافها إلى نفسه للدلالة على شرفها وعناية الله بها، وهذا يوجب للإنسان أن يرغب فيها غاية الرغبة، كما أنه يرغب في بيوت الله، اللي هي المساجد، لأن الله أضافها إلى نفسه، فكذلك يرغب في هذه الدار التي أضافها إلى نفسه، والأمر يسير، قال رجلٌ للرسول صلى الله عليه وسلم: ( دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال: لقد سألت عن عظيم ) -وهو صحيحٌ عظيم، (( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )) ولكن- وإنه ليسير على مَن يسره الله عليه -اللهم يسرنا لليسرى- ( إنه ليسير على مَن يسره الله عليه تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة ) وذَكَرَ الحديث.
المهم أن الدين والحمد لله يسير وسهل، لكن النفوس الأمارة بالسوء هي التي تحول بيننا وبين ديننا والشهوات والشبهات.
(( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )).
(( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )).
والآن إلى الأسئلة، ونبدأ باليمين، ومن عادتنا أن السؤال واحد لكل واحد، وأنه لا تعقيب على الجواب إلا إذا كان الجواب خطأً. نعم