تفسير سورة البلد من قوله تعالى : " فلا اقتحم العقبة ..... " إلى نهاية السورة . حفظ
الشيخ : الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فهذا هو المجلس الثاني ، الحادي والسبعون هذا هو المجلس الحادي والسبعون من المجالس بل من اللقاءات التي تُعرَف بلقاء الباب المفتوح وهذا هو يوم الخميس الخامس والعشرون من شهر ربيع الأول عام 1415 .
نبتدئ هذا اللقاء بتكميل الكلام على سورة البلد حيث وقفنا على قول الله تبارك وتعالى : (( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ )) إلى آخر السورة .
(( فَلا اقْتَحَمَ )) أي : الإنسان الذي كان يقول : (( أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً )) .
(( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ )) يعني هلا اقتحم العقبة ؟ والاقتحام هو التجاوز بمشقة تجاوز الشيء بمشقة يسمى اقتحامًا ، والعقبة هي الطريق في الجبل الوعر .
ولا شك أن اقتحام هذه العقبة لا شك أنه صعب شاق على النفوس لا يتجاوزه أو لا يقوم به إلا من كان عنده نية صادقة في تجاوز هذه العقبة .
(( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ )) هذا الاستفهام للتشويق والتفخيم أيضًا يعني ما الذي أعلمك شأن هذه العقبة التي قال الله عنها : (( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ )) ؟ بينها الله بقوله : (( فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا )) إلى آخره فقوله : .
(( فَكُّ رَقَبَةٍ )) هي خبر لمبتدأ محذوف والتقدير هي فك رقبة وفك الرقبة له معنيان : المعنى الأول : فكها من الرق بحيث يعتق الإنسان العبيد المملوكين سواء كانوا في ملكه فيعتقهم أو كانوا في ملك غيره فيشتريهم ويعتقهم هذا نوع. النوع الثاني : فك رقبة من الأسر فإن فكاك الأسير من أفضل الأعمال إلى الله عز وجل . والأسير ربما لا يفكه العدو إلا بفدية مالية وربما تكون هذه الفدية باهظة كثيرة لا يقتحمها إلا من كان عنده إيمان بالله عز وجل بأن يخلف عليه ما أنفق وأن يثيبه على ما تصدق .
فصار فك رقبة له معنيان :
المعنى الأول : فك الرقبة من الرق بحيث يحررها إن كانت في ملكه ففي ملكه وإلا اشتراها وحررها والثاني : فك الرقبة من الأسر .
قال : (( أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ )) أو هذه للتنويع يعني وإما إطعام في يوم ذي مسغبة أي : ذي مجاعة شديدة لأن الناس قد يصابون بالمجاعة الشديدة إما لقلة الحاصل من الثمار والزروع وإما لأمراض في أجسامهم يأكل الإنسان ولا يشبع .
وهذا قد وقع فيما نسمع عنه وقع في البلاد النجدية وربما في غيرها أيضا أن الناس يأكلون ولا يشبعون يأكل الواحد مأكل العشرة ولا يشبع ويموتون من الجوع في الأسواق يتساقطون في الأسواق من الجوع هذه من المساغب .
أو قلة المحصول بحيث لا تثمر الأشجار ولا تنبت الزروع فيقل الحاصل وتحصل المسغبة ويموت الناس جوعا وربما يهاجرون عن بلادهم هذه إطعام في يوم ذي مسغبة .
(( يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ )) يتيما اليتيم هو : من مات أبوه قبل أن يبلغ سواء كان ذكرا أم أنثى فإن بلغ فإنه لا يكون يتيما لأنه بلغ وانفصل .
وكذلك أيضا لو ماتت أمه فإنه لا يكون يتيما خلافا لما يظنه بعض العامة أن اليتيم من ماتت أمه وهذا ليس بصحيح اليتيم من مات أبوه لأنه إذا مات أبوه لم يكن له كاسب من الخلق يكسب عليه .
وقوله : (( ذَا مَقْرَبَةٍ )) أي : ذا قرابة من الإنسان لأنه إذا كان يتيما كان له حظ من الإكرام والصدقات وإذا كان قريبا ازداد حظه من ذلك لأنه يكون واجب الصلة فمن جمع هذين الوصفين اليتم والقرابة فإن الإنفاق عليه من اقتحام العقبة إذا كان ذلك في يوم مسغبة ثم أي نعم (( أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ )) أو إطعام في يوم ذي مسغبة مسكينا ذا متربة المسكين هو الذي لا يجد قوته ولا قوت عياله والمتربة مكان التراب والمعنى أنه مسكين ليس بيديه شيء ليس بيديه شيء أنه مسكين ليس بيديه شيء إلا التراب ومعلوم أنه إذا قيل عن الرجل ليس عنده إلا التراب فالمعنى أنه فقير جدا ليس عنده طعام وليس عنده كساء وليس عنده مال فهو مسكين ذو متربة .
(( ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ )) (( ثُمَّ كَانَ )) يعني هو ثم هو بعد ذلك ليس محسنًا على اليتامى وعلى المساكين بل هو ذو إيمان بالله .
(( ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ )) : الذين آمنوا بمن ؟ آمنوا بكل ما يجب الإيمان به وقد بين الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الذي يجب الإيمان به فقال حين سأله جبريل عن الإيمان : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه، ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ) وقوله جل وعلا : (( وعملوا الصالحات )) أي : عملوا الأعمال الصالحات والأعمال الصالحات هي كل عمل يقرب إلى الله عز وجل وهو مبني على الإخلاص والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا يكون العمل عملا صالحا إلا بنية ومتابعة بنية بأن يكون عملا خالصا لله ومتابعة بأن يكون العمل على وفق شريعة الله سبحانه وتعالى .
فلو أن الإنسان عمل عملا مخلصا فيه غاية الإخلاص لكنه على خلاف هدي الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقبل منه وذلك لعدم الاتباع ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) وكذلك لو كان العمل على وفق الشريعة ظاهرا لكن فيه رياء فإنه لا يقبل ولا يكون عملا صالحا لقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي : ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) .
وقوله : (( وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )) أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر والصبر ثلاثة أنواع : صبر على طاعة الله صبر عن معصية الله صبر على أقدار الله المؤلمة فهم صابرون متواصون بالصبر وأي هذه الأنواع أفضل ؟ الأفضل الصبر على طاعة الله ثم الصبر عن معصية الله ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة وقد اجتمعت هذه الأنواع الثلاثة اجتمعت في الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم فها هو الرسول عليه الصلاة والسلام صابر على طاعة الله يجاهد في سبيل الله ويدعو إلى الله ويؤذى ويعتدى عليه بالضرب حتى هم المشركون بقتله وهو مع ذلك صابر محتسب هو أيضا صابر عن معصية الله لا يمكن أن يغدر بأحد ولا أن يكذب أحدا ولا أن يخون أحدا وهو أيضا متق لله تعالى بقدر ما يستطيع .
كذلك صابر على طاعة الله كم أوذي في الله عز وجل من أجل طاعته أليست قريش قد آذوه حتى إذا رأوه ساجدا تحت الكعبة أمروا من يأتي بسلى ناقة فيضعه على ظهره وهو ساجد عليه الصلاة والسلام وهو صابر في ذلك كله .
يوسف عليه الصلاة والسلام صبر صبر على أقدار الله وقد ألقي في البئر في غيابة الجب وأوذي في الله بالسجن ومع ذلك فهو صابر محتسب لم يتضجر ولم ينكر ما وقع به .
وقوله : (( وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ )) أي : أوصى بعضهم بعضا أن يرحم الآخر أوصى بعضهم بعضًا أن يرحم الآخر ، والرحمة رحمة الله عز وجل أعني رحمة الإنسان للمخلوقات تكون في البهائم وتكون في الناطق فهو يرحم آباءه وأمهاته وأبناءه وبناته وإخوانه وأخواته وأعمامه وعماته وهكذا .
ويرحم كذلك سائر البشر وهو أيضا يرحم الحيوان البهيم فيرحم ناقته وفرسه وحماره وبقرته وشاته وغير ذلك .
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) قال تعالى : (( وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ )) (( أُولَئِكَ )) أي : هؤلاء الموصفون بهذه الصفات (( أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ )) أي : أصحاب اليمين الذين يؤتون كتابهم يوم القيامة بأيمانهم : (( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً )) ثم قال عز وجل : (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ )) لما ذكر المؤمنين ذكر الكافرين فقال : (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا )) أي : جحدوا بها (( هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ )) (( هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ )) الضمير هنا جاء للتوكيد ولو قيل في غير القرآن والذين كفروا بآياتنا أصحاب المشأمة لصح لكن هذا من باب التوكيد .
والمشأمة يعني الشماء أو الشؤم قال تعالى : (( عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ )) أي : عليهم نار مغلقة والعياذ بالله لا يخرجون منها ولا يستطيعون نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والآن إلى الأسئلة نبدأ باليمين .