تفسير سورة العلق من قوله تعالى : " اقرأ باسم ربك الذي خلق " إلى قوله تعالى" الذي علم بالقلم ". حفظ
الشيخ : هذا اللقاء اليوم سيكون الذي نتكلم عليه من كتاب الله هو سورة اقرأ، إذ أننا ولله الحمد أكملنا ما سبق يقول الله عز وجل بسم الله الرحمن الرحيم: (( اقرأ باسم ربك الذي خلق )) وفي البسملة بحث سبقت الإشارة إليه لكن لا مانع من إعادته، وهو هل البسملة آية من السورة التي تليها أم هي آية مستقلة؟ الصحيح أنها آية مستقلة وأنها ليست من السورة التي تليها، فلا هي من الفاتحة ولا من البقرة ولا من آل عمران بل هي آية مستقلة، ولهذا لو أن الإنسان في الصلاة قرأ الفاتحة بدون البسملة فصلاته صحيحة لأن البسملة ليست منها، لكن سورة براءة لم تكتب فيها البسملة لأنها لم تنزل البسملة بينها وبين سورة الأنفال، لكن اشتبه على الصحابة حين جمع القرآن فجعلوا فاصلًا بين سورة الأنفال وسورة براءة ولم يكتبوا البسملة، يقول الله عز وجل بسم الله الرحمن الرحيم: (( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم )) هذه الآيات أول ما نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن، هي أول ما نزل عليه من القرآن نزلت عليه وهو يتعبد في غار حراء، وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول ما بدء به الوحي أنه يرى الرؤيا في المنام يراها في المنام فتأتي مثل فلق الصبح، يعني: يحدث ما يصدق هذه الرؤيا، وأول ما كان يرى هذه الرؤيا في ربيع الأول فبقي ستة أشهر يرى مثل هذه الرؤيا ويراها تجيء مثل فلق الصبح، وفي رمضان نزل الوحي الذي يكون في اليقظة، والمدة بين ربيع الأول ورمضان كم؟ ست شهور وزمن الوحي ثلاث وعشرون سنة، ولهذا جاء في الحديث أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.
لما كان يرى هذه الرؤيا التي تجيء مثل فلق الصبح حبب إليه الخلا يعني أن يخلو بنفسه ويبتعد عن هذا المجتمع الجاهلي، فرأى عليه الصلاة والسلام أن أحسن ما يخلو به هذا الغار الذي في جبل حراء وهو غار في قمة الجبل لا يكاد يصعد إليه الإنسان القوي إلا بمشقة، فكان يصعده عليه الصلاة والسلام ويتحنث ويتعبد لله عز وجل بما فتح الله عليه في هذا الغار الليالي ذوات العدد، يعني عدة ليالي ومعه زاد أخذه يتزود به من طعام أو شراب، ثم ينزل ويتزود بمثلها من أهله ويرجع ويتحنث لله عز وجل إلى أن نزل عليه الوحي وهو في هذا الغار أتاه جبريل وأمره أن يقرأ فقال: ( ما أنا بقارئ ) ومعنى ما أنا بقارئ يعني لست من ذوي القراءة وليس مراده المعصية لأمر جبريل، لكنه لا يستطيع ليس من ذوي القراءة إذ أنه هو صلى الله عليه وسلم كان أميًّا كما قال الله تعالى: (( فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي )) وقال تعالى: (( هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم )) فكان لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من حكمة الله أنه لا يقرأ ولا يكتب حتى تتبين حاجته وضرورته إلى هذه الرسالة وحتى لا يبقى لشاكٍ شكٌ في صدقه، وقد أشار الله إلى هذه في قوله: (( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون )) قال له: ( ما أنا بقارئ ) فغطه مرتين أو ثلاثًا ثم قال له: (( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم )) خمس آيات نزلت فرجع بها النبي صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده من الخوف والفزع حتى أتى إلى خديجة، وحديث الوحي وابتدائه موجود في أول صحيح البخاري من أحب أن يرجع إليه فليرجع.
يقول الله عز وجل: (( اقرأ باسم ربك الذي خلق )) قوله: (( باسم ربك )) قيل: معناه متلبسًا بذلك، وقيل: مستعينًا بذلك يعني اقرأ مستعينا باسم الله لأن أسماء الله تعالى كلها خير كلها إعانة يستعين بها الإنسان، ولذلك يستعين بها الإنسان على وضوئه ويستعين بها على أكله، ويستعين بها على جماعه فهي كلها عون (( باسم ربك الذي خلق )) إلى آخره.
وقال: (( باسم ربك )) دون أن يقول بسم الله لأن المقام مقام الربوبية وتصرف وتدبير للأمور وابتداء الرسالة فلهذا قال: (( باسم ربك )) إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام قد رباه الله تعالى تربية خاصة وربه كذلك ربوبية خاصة.
(( الذي خلق )) خلق أي شيء؟ خلق كل شيء كما قال تعالى: (( وخلق كل شيء فقدره تقديرًا )) وقال تعالى: (( الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل )) فما من شيء في السماء ولا في الأرض من خفي وظاهر وصغير وكبير إلا وهو مخلوق لمن؟ لله عز وجل، ولهذا قال: (( خلق )) وحذف المفعول إشارة للعموم، لأن حذف المفعول يفيد العموم إذ لو ذكر المفعول لتقيد الفعل به، مفهوم هذا الكلام؟ يعني لو قال خلق كذا تقيد الخلق بما ذكر فقط، لكن إذا قال خلق وأطلق صار عامًّا فهو خالق كل شيء جل وعلا.
ثم قال: (( خلق الإنسان من علق )) فنص وخص خلق الإنسان تكريمًا للإنسان وتشريفًا للإنسان لأن الله تعالى يقول: (( ولقد كرمنا بني آدم وحلمناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا )) فلهذا نص على خلق الإنسان خلق الإنسان أي ابتدأ خلقه.
(( من علق )) اسم جمع علقة كشجر اسم جمع إيش؟ شجرة، فما هو العلق؟ العلق هو عبارة عن دودة حمراء من الدم صغيرة وهذا المنشأ الذي به الحياة، لأن الإنسان دم لو تفرغ من الدم لهلك، وقد بيّن الله عز وجل أنه خلق الإنسان من علق ولكنه يتطور وبيّن في آيات أخرى أنه خلق الإنسان من تراب، وفي آية أخرى خلقه من طين، وفي آية أخرى من صلصال كالفخار، وفي آية أخرى من ماء دافق، وفي آية أخرى من ماء مهين، في هذه الآية من علق، فهل في هذا تناقض؟ الجواب: لا، لا يمكن أن يكون في كلام الله أو ما صح عن رسوله شيء من التناقض أبدًا فإن الله يقول: (( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا )) لكنه سبحانه وتعالى يذكر أحيانًا مبدأ الخلق من وجه ومبدأ الخلق من وجه آخر، فخلقه من تراب لأن أول ما خلق الإنسان من التراب، ثم صب عليه الماء فكان إيش؟ طينًا، ثم استمر مدة فكان حمأ مسنونًا، ثم طالت مدته فكان صلصالًا يعني إذا ضربته بيدك تسمع له صلصلة كالفخار، ثم خلقه عز وجل لحمًا وعظمًا وعصبًا إلى آخره، الخلق الآخر هذا ابتداء الخلق المتعلق بآدم، الخلق الآخر من بنيه أول منشئهم من نطفة وهي الماء المهين وهي الماء الدافق، هذه النطفة تبقى في الرحم أربعين يومًا ثم تتحول شيئًا فشيئًا، وبتمام الأربعين تنقلب بالتطور والتدريج حتى تكون دمًا علقة ثم تبدأ بالنمو والثخونة وتتطور شيئًا فشيئًا، فإذا تمت ثمانين يومًا انتقلت إلى مضغة قطعة من لحم بقدر ما يمضغه الإنسان، وتبقى كذلك أربعين يومًا، فهذه مئة وعشرون يومًا وهي بالأشهر كم؟ هاه؟ أربعة أشهر، بعد أربعة أشهر يبعث الله إليه الملك الموكل بالأرحام فينفخ فيه الروح، فتدخل الروح الجسد بإذن الله عز وجل، والروح لا نستطيع أن نعرف كنهها وحقيقتها ومادتها ما ندري من أي مادة هي، الجسد عرفنا أنه من أين؟ أصله من التراب ثم في أرحام النساء من النطفة، لكن الروح ما نعرف، ما نعرف من أي جوهر هي ولا من أي مادة (( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا )) فينفخ الملك الروح في هذا الجنين فيبدأ يتحرك لأن نماءه الأول كنماء الأشجار بدون إحساس بعد أن تنفخ فيه الروح يكون آدميًّا يتحرك، ولهذا إذا سقط الحمل من البطن قبل أربعين يومًا دفن في أي مكان من الأرض بدون تغسيل ولا تكفين ولا صلاة عليه ولا شيء، وبعد أن يتم له نعم أقول إنه إذا سقط قبل أربعة أشهر دفن في أي مكان من الأرض بدون تغسيل ولا تكفين ولا صلاة عليه ولا يبعث هذا، لا يبعث لأنه ليس آدميًّا، وبعد أربعة أشهر إذا سقط يجب أن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في المقابر لأنه صار إنسانًا ويسمى أيضًا، يسمى لأنه يوم القيامة سيدعى باسمه ويعق عنه، لكن العقيقة عنه ليست في التأكيد كالعقيقة عمن بلغ سبعة أيام بعد خروجه.
على كل حال هذا الجنين في بطن أمه يتطور حتى يكون بشرًا، ثم يأذن الله عز وجل له بعد المدة التي أكثر ما تكون عادة تسعة أشهر فيخرج إلى الدنيا، وبهذه المناسبة نود أن نبين أن للإنسان أربع دور، الدار الأولى: في بطن أمه، والثانية: في الدنيا، والثالثة: في البرزخ، والرابعة: في الجنة أو النار وهي المنتهى.
(( الذي خلق الإنسان من علق )) وش قلنا في العلق؟ اسم جمع علقة وهي دودة من الدم معروفة، وهذا أول نشأة الإنسان الذي يتكون منه مادة الحياة وهو الدم.
(( اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم )) اقرأ تكرار للأولى، لكن هل هي توكيد أو هي تأسيس؟ الصحيح أنها تأسيس، وأن الأولى: (( اقرأ باسم ربك الذي خلق )) قرنت بما يتعلق بالربوبية، (( وربك الأكرم * الذي علم بالقلم )) بما يتعلق بالشرع، فالأولى بما يتعلق بالقدر والثانية بما يتعلق بالشرع، لأن التعليم بالقلم أكثر ما يعتمد الشرع عليه، إذ أن الشرع يكتب ويحفظ، القرآن يكتب ويحفظ، السنة تكتب وتحفظ، كلام العلماء يكتب ويحفظ، فلهذا أعادها الله مرة ثانية.
ويأتي إن شاء الله بقية الكلام على هذه الآية لأنا نحب أن يتسع الوقت للأسئلة فنبدأ باليمين.