تفسير قوله تعالى :" كلا إن الإنسان ليطغى " إلى قوله " ألم يعلم بأن الله يرى "من سورة العلق . حفظ
الشيخ : الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الثالث والثمانون من اللقاءات الأسبوعية التي تتم كل يوم خميس، وهذا هو يوم الخميس السابع والعشرون من شهر رجب عام خمسة عشر وأربعمائة وألف.
نبتدئ هذا اللقاء بما يسر الله سبحانه وتعالى من تفسير سورة اقرأ، سورة العلق، انتهينا فيها إلى قول الله تبارك وتعالى: (( عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )).
قال الله تعالى: (( كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى )) كلا في القرآن الكريم ترد على عدة معاني منها: أن تكون بمعنى: حقًّا كما في هذه الآية، فكلا بمعنى: حقًّا يعني أن الله تعالى يثبت هذا إثباتًا لا مرية فيه (( إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى )) الإنسان ليس شخصًا معينًا بل المراد الجنس، كل إنسان من بني آدم إذا رأى نفسه استغنى فإنه يطغى من الطغيان وهو مجاوزة الحد، إذا رأى أنه استغنى عن رحمة الله طغى ولم يبالي، إذا رأى أنه استغنى عن الله عز وجل في كشف الكربات وحصول المطلوبات صار لا يلتفت إلى الله ولا يبالي، إذا رأى أنه استغنى بالصحة نسي المرض، وإذا رأى أنه استغنى بالشبع نسي الجوع، إذا رأى أنه استغنى بالكسوة نسي العري وهكذا، فالإنسان من طبيعته الطغيان والتمرد متى رأى نفسه في غنى، ولكن هذا يخرج منه المؤمن، لأن المؤمن لا يرى أنه استغنى عن الله طرفة عين فهو دائمًا مفتقر إلى الله سبحانه وتعالى، يسأل ربه كل حاجة ويلجأ إليه عند كل مكروه، ويرى أنه إن وكله الله إلى نفسه وكله إلى ضعف وعجز وعورة، وأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا هذا هو المؤمن، لكن الإنسان من حيث هو إنسان من طبيعته الطغيان، وهذا كقوله تعالى (( وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا )).
ثم قال عز وجل مهددا هذا الطاغية: (( إن إلى ربك الرجعى )) أي: المرجع، يعني مهما طغيت وعلوت واستكبرت واستغنيت فإن مرجعك إلى الله عز وجل، كما قال الله تبارك وتعالى: (( إلا من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر * إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم )) وإذا كان المرجع إلى الله في كل الأمور فإنه لا يمكن لأحد أن يفر من قضاء الله أبدًا ولا من ثواب الله وعدله.
وقوله: (( إن إلى ربك الرجعى )) ربما نقول إنه أعم من الوعيد والتهديد، يعني: أنه يشمل الوعيد والتهديد لكنه ربما يشمل ما هو أعم، فيكون المعنى: أن إلى الله المرجع في كل شيء، في الأمور الشرعية التحاكم إلى أي شيء؟ بسرعة؟ إلى الكتاب والسنة (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول )) الأمور الكونية المرجع فيها إلى من؟ إلى الله (( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم )) فلا رجوع للعبد إلا إلى الله، كل الأمور ترجع إلى الله عز وجل يفعل ما يشاء، حتى ما يحصل بين الناس من الحروب والفتن والشرور فإن الله هو الذي قدرها، لكنه قدرها لحكمة كما قال الله تعالى: (( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد )).
إذن (( إن إلى ربك الرجعى )) يكون فيها تهديد لهذا الإنسان الذي طغى حين رأى نفسه مستغنٍ عن ربه، وفيها أيضًا ما هو أشمل وأعم وهو أن المرجع إلى الله تعالى في كل الأمور.
ثم قال: (( أرأيت الذي ينهى * عبدًا إذا صلى )) يعني: أخبرني عن حال هذا الرجل وتعجب من حال هذا الرجل (( الذي ينهى * عبدًا إذا صلى )) فعندنا الآن ناهي وعندنا منهي، فمن هو الناهي؟ الناهي هو طاغية قريش أبو جهل، وكان يسمى في قريش أبا الحكم لأنهم يتحاكمون إليه ويرجعون إليه فاغتر بنفسه والعياذ بالله وشرق بالإسلام ومات على الكفر كما هو معروف، هذا الرجل سماه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا جهل ضد تسميتهم إياه أبا الحكم، وأما المنهي فهو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو العبد (( عبدًا إذا صلى )) أبو جهل قيل له: إن محمدًا يصلي عند الكعبة أمام الناس يفتن الناس ويصدهم عن أصنامهم وآلهتهم، فمر به ذات يوم وهو ساجد فنهاه، نهى النبي عليه الصلاة والسلام وقال لقد نهيتك فلماذا تفعل؟ فانتهره النبي عليه الصلاة والسلام فرجع، ثم قيل: لأبي جهل إنه -أي: محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ما زال يصلي فقال: والله لئن رأيته لأطأن عنقه بقدمي ولأرغمن وجهه بالتراب، فلما رآه ذات يوم ساجدًا تحت الكعبة وأقبل عليه يريد أن يبر بيمينه وقسمه، لما أقبل عليه وجد بينه وبينه خندقًا من النار وأهوالًا عظيمة، فنكس على عقبيه وعجز أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا العبد الذي ينهى عبدًا إذا صلى تعجب من حاله كيف يفعل هذا؟ ولهذا جاء في آخر الآيات: (( ألم يعلم بأن الله يرى )) وأنه سيجازيه.
ثم قال: (( أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى * )) (( ألم يعلم بأن الله يرى )) أرأيت يعني أخبرني أيها المخاطب إن كان على الهدى من يعني به؟ الناهي أبو جهل أو الساجد محمدًا صلى الله عليه وسلم؟ يعني به الثاني يقول أرأيت إن كان هذا الساجد على الهدى فكيف تنهاه عنه؟ أو أمر بالتقوى قال بعض المفسرين: أو هنا بمعنى الواو يعني وأمر بالتقوى، ولكن الصحيح أنها على بابها للتنويع يعني أرأيت إن كان على الهدى فيما فعل من السجود والصلاة أو أمر غيره بالتقوى، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأمر بالتقوى بلا شك فهو صالح بنفسه مصلح لغيره.
(( ألم يعلم بأن الله يرى )) يعني: يرى المنهي وهو الساجد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الآمر بالتقوى ويرى هذا العبد الطاغية الذي ينهى عبدًا إذا صلى (( ألم يعلم بأن الله يرى )) يرى سبحانه وتعالى علمًا ورؤية، فهو سبحانه وتعالى يرى كل شيء مهما خفي ودق، ويعلم كل شيء مهما بعد ومهما كثر أو قل، فيعلم الآمر والناهي يعلم الآمر والناهي ويعلم المصلي والساجد، ويعلم من طغى ومن خضع لله عز وجل، وسيجازي كل إنسان بعمله.
والمقصود من هذا تهديد هذا الذي ينهى عبدًا إذا صلى وبيان أن الله تعالى يعلم بحاله وحال من ينهاه، وسيجازي كلًّا منهما بما يستحق. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الساجدين لله الآمرين بتقوى الله على هدى من الله ونور إنه على كل شيء قدير.
الآن إلى الأسئلة نبدأ بالأيمن.