تفسير سورة القدر كاملة . حفظ
الشيخ : الحمد لله والشكر لله على نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الخامس والثمانون من اللقاءات الأسبوعية التي تتم كل خميس، وهذا هو الخميس الحادي عشر من شهر شعبان عام خمسة عشر وأربعمائة وألف، نبتدئه كالمعتاد بتفسير ما انتهينا إليه من الجزء الثلاثين من كتاب الله عز وجل.
وقد انتهينا إلى سورة القدر حيث يقول الله تبارك وتعالى: (( إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر )) إنا أنزلناه الضمير هنا يعود إلى الله عز وجل، والهاء في قوله: (( أنزلناه )) يعود إلى القرآن، وذكر الله تعالى نفسه بالعظمة (( إنا أنزلناه )) دون أن يقول إني أنزلته لأنه سبحانه وتعالى العظيم الذي لا شيء أعظم منه، والله تعالى يذكر نفسه أحيانًا بصيغة العظمة مثل هذه الآية الكريمة: (( إنا أنزلناه في ليلة القدر )) ومثل قوله تعالى: (( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )) ومثل قوله تعالى: (( إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين )) وأحيانًا يذكر نفسه بصيغة الواحد مثل: (( إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري )) وذلك لأنه واحد عظيم، فباعتبار الصفة يأتي ضمير العظمة، وباعتبار الوحدانية يأتي ضمير الواحد.
والضمير في قوله: (( أنزلناه )) أعني ضمير المفعول به وهي الهاء يعود إلى القرآن وإن لم يسبق له ذكر، لأن هذا أمر معلوم، ولا يمتري أحد في أن المراد بذلك إنزال القرآن الكريم، أنزله الله تعالى في ليلة القدر، فما معنى إنزاله في ليلة القدر؟ الصحيح أن معناها ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر وليلة القدر في رمضان لا شك في هذا، ودليل ذلك قوله تعالى: (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان )) فإذا جمعت هذه الآية أعني (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن )) إلى هذه الآية التي نحن بصدد الكلام عليها تبين لك أن ليلة القدر في رمضان، وبهذا نعرف أن ما اشتهر عند العامة من أن ليلة القدر هي ليلة النصف من شهر شعبان لا أصل له ولا حقيقة له فإن ليلة القدر في رمضان، وليلة النصف من شعبان كليلة النصف من رجب وجمادى وربيع وصفر ومحرم وغيرهن من الشهور لا تختص بشيء، حتى ما ورد في فضل القيام فيها فهو أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، وكذلك ما ورد من تخصيص يومها وهو يوم النص من شعبان بصيام فإنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، لكن بعض العلماء رحمهم الله يتساهلون في ذكر الأحاديث الضعيفة فيما يتعلق بالفضائل فضائل الأعمال أو الشهور أو الأماكن وهذا أمر لا ينبغي، وذلك لأنك إذا سقت الأحاديث الضعيفة في فضل شيء ما فإن السامع سوف يعتقد أن ذلك صحيح وينسبه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا شيء كبير، فالمهم أن يوم النصف من شعبان وليلة النصف من شعبان لا يختصان بشيء دون سائر الشهور، فليلة النصف لا تختص بفضل قيام، وليلة النصف ليست ليلة القدر، ويوم النصف لا يختص بصيام، نعم شهر شعبان ثبتت السنة بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يكثر الصيام فيه حتى لا يفطر منه إلا قليلًا، وما سوى ذلك مما يتعلق بصيامه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إلا ما لسائر الشهور كفضل صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأن تكون في الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وهي أيام البيض.
وقوله تعالى: (( في ليلة القدر )) ما معنى القدر هل هو الشرف كما يقال فلان ذو قدر عظيم أو ذو قدر كبير أي ذو شرف كبير أو المراد بالقدر التقدير لأنه يقدّر فيها ما يكون في السنة لقول الله تعالى: (( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم )) أي: يفصل ويبين؟ من العلماء من قال هذا ومن العلماء من قال بهذا، والصحيح أنه شامل للمعنيين، فليلة القدر لا شك أنها ذات قدر عظيم وشرف كبير، وأنه يقدّر فيها ما يكون في تلك السنة من الإحياء والإماتة والأرزاق وغير ذلك.
ثم قال جل وعلا: (( وما أدراك ما ليلة القدر )) وهذه الجملة بهذه الصيغة يستفاد منها التعظيم والتفخيم وهي مضطردة في القرآن الكريم قال الله تعالى: (( وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين )) وقال تعالى: (( الحاقة * ما الحاقة )) (( القارعة * ما القارعة * وما أدراك ما القارعة )) فهذه الصيغة تعني التفخيم والتعظيم، فهنا قال: (( وما أدراك ما ليلة القدر )) أي: ما أعلمك ليلة القدر وشأنها وشرفها وعظمها، ثم بيّن هذا بقوله: (( ليلة القدر خير من ألف شهر )) وهذه الجملة كالجواب للاستفهام الذي سبقها وهو قوله: (( وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر )) أي: من ألف شهر ليس فيه ليلة قدر، والمراد بالخيرية هنا: ثواب العمل فيها وما ينزل الله تعالى فيها من الخير والبركة على هذه الأمة.
ثم ذكر ما يحدث في تلك الليلة فقال: (( تنزل الملائكة والروح فيها )) تنزل أي: تنزل شيئًا فشيئًا، لأن الملائكة سكان السماوات، والسماوات سبع فتنزل الملائكة إلى الأرض شيئًا فشيئًا حتى تملأ الأرض، ونزول الملائكة في الأرض عنوان على الرحمة والخير والبركة، ولهذا إذا امتنعت الملائكة من دخول شيء كان ذلك دليلًا على أن هذا المكان الذي امتنعت الملائكة من دخوله قد يخلو من الخير والبركة، كالمكان الذي فيه الصور فإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة يعني: صورة محرمة، لأن الصورة إذا كانت ممتهنة في فراش أو مخدة فأكثر العلماء على أنها جائزة، وعلى هذا فلا تمتنع الملائكة من دخول المكان، لأنه لو امتنعت لكان ذلك ممنوعًا، فالملائكة تتنزل في ليلة القدر بكثرة ونزولهم خير وبركة، وقوله :(( بإذن ربهم )) أي: بأمره، والمراد به الإذن الكوني، لأن إذن الله -أي: أمره- ينقسم إلى قسمين: إذن كوني، وإذن شرعي، فقوله تعالى: (( شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله )) أي: ما لم يأذن به شرعًا، لأنه قد أذن به قدر فقد شرع من دون الله، لكنه ليس بإذن الله الشرعي، وإذن قدري كما في هذه الآية: (( بإذن ربهم )) أي: بأمره القدري.
وقوله: (( من كل أمر )) قيل إن من بمعنى الباء أي: بكل أمر أي بكل أمر مما يأمرهم الله به، وهو مبهم لا نعلم ما هو، لكننا نقول: إن تنزل الملائكة في الأرض عنوان على الخير والرحمة والبركة.
(( سلام هي )) الجملة هنا مكونة من مبتدأ وخبر، والخبر فيها مقدم والتقدير: هي سلام أي: هذه الليلة سلام، ووصفها الله تعالى بالسلام لكثرة من يسلم فيها من الآثام وعقوباتها، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه ) ومغفرة الذنوب لا شك أنها سلامة من وبائها وعقوباتها. (( حتى مطلع الفجر )) أي: تتنزل الملائكة في هذه الليلة حتى مطلع الفجر أي: إلى مطلع الفجر، وإذا طلع الفجر انتهت ليلة القدر، سبق أن قلنا إن ليلة القدر في رمضان لا شك، لكن في أي جزء من رمضان أفي أوله أو وسطه أو آخره؟ نقول في الجواب على هذا: إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اعتكف العشر الأول ثم العشر الأوسط تحريًا لليلة القدر، ثم قيل له إنها في العشر الأواخر فاعتكف العشر الأواخر، إذن فهي أعني ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وفي أي ليلة منها؟ الله أعلم، قد تكون في ليلة إحدى وعشرين، أو في ليلة ثلاثين، أو فيما بينهما لم يأت تحديد لها في ليلة معينة كل عام، ولهذا أري النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين، ورأى في المنام أنه يسجد في صبيحتها في الماء والطين، فأمطرت السماء تلك الليلة أي: ليلة إحدى وعشرين فصلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مسجده، وكان مسجده من عريش لا يمنع تسرب الماء من السقف فسجد النبي صلى الله عليه وسلم صباحها -أي: في صلاة الفجر- في الماء والطين، ورأى الصحابة رضي الله عنهم على جبهته أثر الماء والطين، ففي تلك الليلة كانت في ليلة إحدى وعشرين، ومع ذلك قال: ( التمسوها في العشر الأواخر ) وفي رواية: ( في الوتر من العشر الأواخر ) ورآها الصحابة ذات سنة من السنين في السبع الأواخر، فقال صلى الله عليه وسلم: ( أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ) يعني: في تلك السنة، أما في بقية الأعوام فهي في كل العشر فليست معينة، لكن أرجاها ليلة سبع وعشرين، أرجى ما تكون ليلة سبع وعشرين، وقد تكون مثلًا في هذه العام ليلة سبع وعشرين، وفي العام الثاني ليلة إحدى وعشرين، وفي العام الثالث ليلة خمس وعشرين وهكذا، وإنما أبههمها الله عز وجل لفائدتين عظيمتين، الفائدة الأولى: بيان الصادق في طلبها من المتكاسل، لأن الصادق في طلبها لا يهمه أن يتعب عشر ليال من أجل أن يدركها، والمتكاسل قد يكسل يقول ما دام لا أدري أي ليلة هي يكسل أن يقوم عشر ليالي من أجل ليلة واحدة.
الفائدة الثانية: كثرة ثواب المسلمين بكثرة الأعمال، لأنه كلما كثر العمل كثر الثواب، وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى غلط كثير من الناس في الوقت الحاضر حيث يتحرون ليلة سبع وعشرين في أداء العمرة، فإنك في ليلة سبع وعشرين تجد المسجد الحرام قد غص بالناس وكثروا، وتخصيص ليلة سبع وعشرين بالعمرة من البدع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخصصها بعمرة في فعله ولم يخصصها -أي: ليلة سبع وعشرين- بعمرة في قوله، فلم يعتمر ليلة سبع وعشرين من رمضان مع أنه كان في عام الفتح ليلة سبع وعشرين من رمضان كان في مكة ولم يعتمر ولم يقل للأمة تحروا ليلة سبع وعشرين في العمرة أو بالعمرة، لم يقل للأمة تحروا ليلة سبع وعشرين بالعمرة، وإنما أمر أن نتحرى ليلة سبع وعشرين بالقيام فيها لا بالعمرة، وبه يتبين خطأ كثير من الناس، وبه أيضًا يتبين أن الناس ربما يأخذون دينهم كابرًا عن كابر على غير أساس من الشرع، فاحذر أن تعبد الله إلا على بصيرة بدليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو عمل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم.
وبهذا انتهى الكلام على سورة القدر، نسأل الله تبارك وتعالى أن يبلغنا وإياكم إياها في هذا العام وفيما بعده على خير وسلام، وأن يتقبل منا ومنكم إنه على كل شيء قدير.
والآن إلى الأسئلة فنبدأ باليمين.
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الخامس والثمانون من اللقاءات الأسبوعية التي تتم كل خميس، وهذا هو الخميس الحادي عشر من شهر شعبان عام خمسة عشر وأربعمائة وألف، نبتدئه كالمعتاد بتفسير ما انتهينا إليه من الجزء الثلاثين من كتاب الله عز وجل.
وقد انتهينا إلى سورة القدر حيث يقول الله تبارك وتعالى: (( إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر )) إنا أنزلناه الضمير هنا يعود إلى الله عز وجل، والهاء في قوله: (( أنزلناه )) يعود إلى القرآن، وذكر الله تعالى نفسه بالعظمة (( إنا أنزلناه )) دون أن يقول إني أنزلته لأنه سبحانه وتعالى العظيم الذي لا شيء أعظم منه، والله تعالى يذكر نفسه أحيانًا بصيغة العظمة مثل هذه الآية الكريمة: (( إنا أنزلناه في ليلة القدر )) ومثل قوله تعالى: (( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )) ومثل قوله تعالى: (( إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين )) وأحيانًا يذكر نفسه بصيغة الواحد مثل: (( إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري )) وذلك لأنه واحد عظيم، فباعتبار الصفة يأتي ضمير العظمة، وباعتبار الوحدانية يأتي ضمير الواحد.
والضمير في قوله: (( أنزلناه )) أعني ضمير المفعول به وهي الهاء يعود إلى القرآن وإن لم يسبق له ذكر، لأن هذا أمر معلوم، ولا يمتري أحد في أن المراد بذلك إنزال القرآن الكريم، أنزله الله تعالى في ليلة القدر، فما معنى إنزاله في ليلة القدر؟ الصحيح أن معناها ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر وليلة القدر في رمضان لا شك في هذا، ودليل ذلك قوله تعالى: (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان )) فإذا جمعت هذه الآية أعني (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن )) إلى هذه الآية التي نحن بصدد الكلام عليها تبين لك أن ليلة القدر في رمضان، وبهذا نعرف أن ما اشتهر عند العامة من أن ليلة القدر هي ليلة النصف من شهر شعبان لا أصل له ولا حقيقة له فإن ليلة القدر في رمضان، وليلة النصف من شعبان كليلة النصف من رجب وجمادى وربيع وصفر ومحرم وغيرهن من الشهور لا تختص بشيء، حتى ما ورد في فضل القيام فيها فهو أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، وكذلك ما ورد من تخصيص يومها وهو يوم النص من شعبان بصيام فإنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، لكن بعض العلماء رحمهم الله يتساهلون في ذكر الأحاديث الضعيفة فيما يتعلق بالفضائل فضائل الأعمال أو الشهور أو الأماكن وهذا أمر لا ينبغي، وذلك لأنك إذا سقت الأحاديث الضعيفة في فضل شيء ما فإن السامع سوف يعتقد أن ذلك صحيح وينسبه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا شيء كبير، فالمهم أن يوم النصف من شعبان وليلة النصف من شعبان لا يختصان بشيء دون سائر الشهور، فليلة النصف لا تختص بفضل قيام، وليلة النصف ليست ليلة القدر، ويوم النصف لا يختص بصيام، نعم شهر شعبان ثبتت السنة بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يكثر الصيام فيه حتى لا يفطر منه إلا قليلًا، وما سوى ذلك مما يتعلق بصيامه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إلا ما لسائر الشهور كفضل صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأن تكون في الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وهي أيام البيض.
وقوله تعالى: (( في ليلة القدر )) ما معنى القدر هل هو الشرف كما يقال فلان ذو قدر عظيم أو ذو قدر كبير أي ذو شرف كبير أو المراد بالقدر التقدير لأنه يقدّر فيها ما يكون في السنة لقول الله تعالى: (( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم )) أي: يفصل ويبين؟ من العلماء من قال هذا ومن العلماء من قال بهذا، والصحيح أنه شامل للمعنيين، فليلة القدر لا شك أنها ذات قدر عظيم وشرف كبير، وأنه يقدّر فيها ما يكون في تلك السنة من الإحياء والإماتة والأرزاق وغير ذلك.
ثم قال جل وعلا: (( وما أدراك ما ليلة القدر )) وهذه الجملة بهذه الصيغة يستفاد منها التعظيم والتفخيم وهي مضطردة في القرآن الكريم قال الله تعالى: (( وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين )) وقال تعالى: (( الحاقة * ما الحاقة )) (( القارعة * ما القارعة * وما أدراك ما القارعة )) فهذه الصيغة تعني التفخيم والتعظيم، فهنا قال: (( وما أدراك ما ليلة القدر )) أي: ما أعلمك ليلة القدر وشأنها وشرفها وعظمها، ثم بيّن هذا بقوله: (( ليلة القدر خير من ألف شهر )) وهذه الجملة كالجواب للاستفهام الذي سبقها وهو قوله: (( وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر )) أي: من ألف شهر ليس فيه ليلة قدر، والمراد بالخيرية هنا: ثواب العمل فيها وما ينزل الله تعالى فيها من الخير والبركة على هذه الأمة.
ثم ذكر ما يحدث في تلك الليلة فقال: (( تنزل الملائكة والروح فيها )) تنزل أي: تنزل شيئًا فشيئًا، لأن الملائكة سكان السماوات، والسماوات سبع فتنزل الملائكة إلى الأرض شيئًا فشيئًا حتى تملأ الأرض، ونزول الملائكة في الأرض عنوان على الرحمة والخير والبركة، ولهذا إذا امتنعت الملائكة من دخول شيء كان ذلك دليلًا على أن هذا المكان الذي امتنعت الملائكة من دخوله قد يخلو من الخير والبركة، كالمكان الذي فيه الصور فإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة يعني: صورة محرمة، لأن الصورة إذا كانت ممتهنة في فراش أو مخدة فأكثر العلماء على أنها جائزة، وعلى هذا فلا تمتنع الملائكة من دخول المكان، لأنه لو امتنعت لكان ذلك ممنوعًا، فالملائكة تتنزل في ليلة القدر بكثرة ونزولهم خير وبركة، وقوله :(( بإذن ربهم )) أي: بأمره، والمراد به الإذن الكوني، لأن إذن الله -أي: أمره- ينقسم إلى قسمين: إذن كوني، وإذن شرعي، فقوله تعالى: (( شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله )) أي: ما لم يأذن به شرعًا، لأنه قد أذن به قدر فقد شرع من دون الله، لكنه ليس بإذن الله الشرعي، وإذن قدري كما في هذه الآية: (( بإذن ربهم )) أي: بأمره القدري.
وقوله: (( من كل أمر )) قيل إن من بمعنى الباء أي: بكل أمر أي بكل أمر مما يأمرهم الله به، وهو مبهم لا نعلم ما هو، لكننا نقول: إن تنزل الملائكة في الأرض عنوان على الخير والرحمة والبركة.
(( سلام هي )) الجملة هنا مكونة من مبتدأ وخبر، والخبر فيها مقدم والتقدير: هي سلام أي: هذه الليلة سلام، ووصفها الله تعالى بالسلام لكثرة من يسلم فيها من الآثام وعقوباتها، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه ) ومغفرة الذنوب لا شك أنها سلامة من وبائها وعقوباتها. (( حتى مطلع الفجر )) أي: تتنزل الملائكة في هذه الليلة حتى مطلع الفجر أي: إلى مطلع الفجر، وإذا طلع الفجر انتهت ليلة القدر، سبق أن قلنا إن ليلة القدر في رمضان لا شك، لكن في أي جزء من رمضان أفي أوله أو وسطه أو آخره؟ نقول في الجواب على هذا: إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اعتكف العشر الأول ثم العشر الأوسط تحريًا لليلة القدر، ثم قيل له إنها في العشر الأواخر فاعتكف العشر الأواخر، إذن فهي أعني ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وفي أي ليلة منها؟ الله أعلم، قد تكون في ليلة إحدى وعشرين، أو في ليلة ثلاثين، أو فيما بينهما لم يأت تحديد لها في ليلة معينة كل عام، ولهذا أري النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين، ورأى في المنام أنه يسجد في صبيحتها في الماء والطين، فأمطرت السماء تلك الليلة أي: ليلة إحدى وعشرين فصلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مسجده، وكان مسجده من عريش لا يمنع تسرب الماء من السقف فسجد النبي صلى الله عليه وسلم صباحها -أي: في صلاة الفجر- في الماء والطين، ورأى الصحابة رضي الله عنهم على جبهته أثر الماء والطين، ففي تلك الليلة كانت في ليلة إحدى وعشرين، ومع ذلك قال: ( التمسوها في العشر الأواخر ) وفي رواية: ( في الوتر من العشر الأواخر ) ورآها الصحابة ذات سنة من السنين في السبع الأواخر، فقال صلى الله عليه وسلم: ( أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ) يعني: في تلك السنة، أما في بقية الأعوام فهي في كل العشر فليست معينة، لكن أرجاها ليلة سبع وعشرين، أرجى ما تكون ليلة سبع وعشرين، وقد تكون مثلًا في هذه العام ليلة سبع وعشرين، وفي العام الثاني ليلة إحدى وعشرين، وفي العام الثالث ليلة خمس وعشرين وهكذا، وإنما أبههمها الله عز وجل لفائدتين عظيمتين، الفائدة الأولى: بيان الصادق في طلبها من المتكاسل، لأن الصادق في طلبها لا يهمه أن يتعب عشر ليال من أجل أن يدركها، والمتكاسل قد يكسل يقول ما دام لا أدري أي ليلة هي يكسل أن يقوم عشر ليالي من أجل ليلة واحدة.
الفائدة الثانية: كثرة ثواب المسلمين بكثرة الأعمال، لأنه كلما كثر العمل كثر الثواب، وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى غلط كثير من الناس في الوقت الحاضر حيث يتحرون ليلة سبع وعشرين في أداء العمرة، فإنك في ليلة سبع وعشرين تجد المسجد الحرام قد غص بالناس وكثروا، وتخصيص ليلة سبع وعشرين بالعمرة من البدع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخصصها بعمرة في فعله ولم يخصصها -أي: ليلة سبع وعشرين- بعمرة في قوله، فلم يعتمر ليلة سبع وعشرين من رمضان مع أنه كان في عام الفتح ليلة سبع وعشرين من رمضان كان في مكة ولم يعتمر ولم يقل للأمة تحروا ليلة سبع وعشرين في العمرة أو بالعمرة، لم يقل للأمة تحروا ليلة سبع وعشرين بالعمرة، وإنما أمر أن نتحرى ليلة سبع وعشرين بالقيام فيها لا بالعمرة، وبه يتبين خطأ كثير من الناس، وبه أيضًا يتبين أن الناس ربما يأخذون دينهم كابرًا عن كابر على غير أساس من الشرع، فاحذر أن تعبد الله إلا على بصيرة بدليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو عمل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم.
وبهذا انتهى الكلام على سورة القدر، نسأل الله تبارك وتعالى أن يبلغنا وإياكم إياها في هذا العام وفيما بعده على خير وسلام، وأن يتقبل منا ومنكم إنه على كل شيء قدير.
والآن إلى الأسئلة فنبدأ باليمين.