كيف تكون البيعة في وقتنا الحالي مع الإضطرابات والإنقلابات السياسية في بلاد المسلمين ؟ حفظ
السائل : فضيلة الشّيخ ثبت في الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: ( من مات وليس في عنقه لأحد بيعة مات ميتة جاهليّة ) ومعلوم أنّه في أكثر بلاد المسلمين اليوم لا يتحقّق هذا الأمر وأنّه ليس في عنقهم بيعة لأسباب كثيرة منها الاضطرابات السّياسيّة والانقلابات وغيرها فكيف يخرج المسلمون في تلك البلاد من هذا الإثم وهذا الوعيد؟ جزاكم الله خيرا.
الشيخ : المعروف عند أهل العلم أنّ البيعة لا يلزم منها رضا كلّ واحد، ومن المعلوم أنّ في البلاد من لا يرضى أحد من النّاس أن يكون وليّا عليه، لكن إذا قهر الوليّ وسيطر وصارت له السّلطة فهذا هو تمام البيعة، لا يجوز الخروج عليه إلاّ في حال واحدة استثناها النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام فقال: ( إلاّ أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان ):
فقال: ( إلاّ أن تروا ) والرّؤية إمّا بالعين وإمّا بالقلب، الرّؤية بالعين بصريّة وبالقلب علميّة، بمعنى: أنّنا لا نعمل بالظّنّ أو بالتّقديرات أو بالإحتمالات بل لا بدّ أن نعلم علم اليقين، وأن نرى كفرا لا فسوقا، يعني مثلا الحاكم لو كان أفسق عباد الله عنده شرب خمر وغيره من المحرّمات وهو فاسق ولكن لم يخرج من الإسلام فإنّه لا يجوز الخروج عليه وإن فسق، لأنّ مفسدة الخروج عليه أعظم بكثير من مفسدة معصيته التي هي خاصّة به.
الثالث قال: ( بواحا ): البواح يعني الصّريح، والأرض البواح هي الواسعة التي ليس فيها شجر، ولا مدر، ولا جبل، بل هي واضحة للرّؤية، لا بدّ أن يكون الكفر بواحا ظاهرا، لا يشكّ فيه أحد، مثل أن يدعو إلى نبذ الشّريعة، أو أن يدعو إلى ترك الصّلاة، وما أشبه ذلك من الكفر الواضح الذي لا يحتمل التّأويل، فأمّا ما يحتمل التّأويل فإنّه لا يجوز الخروج عليه حتّى وإن كنّا نرى نحن أنّه كفر وبعض النّاس يرى أنّه ليس بكفر فإنّنا لا يجوز الخروج عليه لأنّ هذا ليس بواحا.
الرّابع: عندنا من الله فيه برهان، ( أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان )، فإن لم يكن عندنا برهان أي: دليلا واضحا وليس مجرّد اجتهاد أو قياس بل هو بيّن واضح أنّه كفر حينئذ يجوز الخروج.
ولكن هل معنى جواز الخروج أنّه جائز بكلّ حال، أو واجب على كلّ حال؟
لا، لا بدّ من قدرة على منابذة هذا الوالي الذي رأينا فيه الكفر البواح لا بدّ من قدرة، أمّا أن نخرج عليه بسكاكين المطبخ وعوامل البقر ولديه دبّابات وصواريخ فهذا سفه في العقل وضلال في الدين! لأنّ الله لم يوجب الجهاد على المسلمين حين كانوا ضعفاء في مكّة، ما قال اخرجوا على قريش وهم عندهم، ولو شاءوا لاغتالوا كبراءهم وقتلوهم، لكنّه لم يأمرهم بهذا ولم يأذن لهم به، لماذا؟
السائل : لعدم القدرة.
الشيخ : لعدم القدرة، وإذا كانت الواجبات الشّرعيّة التي لله عز وجل تسقط بالعجز فكيف بالذي سوف يكون فيه دماء، ليست إزالة الحاكم بالأمر الهيّن، ليس مجرّد ريشة تنفخ عليها فتمشي، لا بدّ من قتال، وإذا قتل فلا بدّ له من أعوان، فالمسألة ليست بالأمر الهيّن حتى نقول: بكلّ سهولة نزيل الحاكم أو نقضي عليه وينتهي كلّ شيء فلا بدّ من القدرة، والقدرة الآن ليست بأيدي الشّعوب فيما أعلم والعلم عند الله عزّ وجلّ، ليس بأيدي الشّعوب قدرة على إزالة مثل هؤلاء القوم الذين نرى فيهم كفرا بواحا.
ثمّ إنّ القيود التي ذكرها النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام قيود صعبة، من يتحقّق أنّ هذا الحاكم مثلا، علمنا أنّه كافر علم اليقين نراه كما نرى الشّمس أمامنا، ثمّ علمنا أنّ الكفر بواحا لا يحتمل التّأويل ولا أدنى لبس، ثمّ عندنا دليل من الله، برهان قاطع، هذه قيود صعبة.
أمّا مجرّد ما يظنّ الإنسان أنّ الحاكم كفر! هذا ليس بصحيح أنّه يكفر، لا بدّ من إقامة الحجّة، وأنتم تعلمون أنّه ما ضرّ الأمّة من أوّل ما ضرّها في عهد الخلفاء الرّاشدين ما ضرّها إلاّ التّأويل الفاسد، التّأويل الفاسد والخروج على الإمام، الخوارج لماذا خرجوا على عليّ بن أبي طالب؟
قالوا لأنّه حكّم غير القرآن، كانوا في الأوّل معه على جيش معاوية ولما رضي بالصّلح والتّحاكم إلى القرآن قالوا: خلاص أنت الآن حكّمت آراء الرّجال ورضيت بالصّلح فأنت كافر، وسنقاتلك الآن، فانقلبوا عليه، بماذا؟
بالتّأويل، وليس كلّ ما رآه الإنسان يكون هو الحقّ، قد ترى أنت شيئا محرّما أو شيئا من معصية أو شيئا كفراً وغيرك لا يراه كذلك، ألسنا نرى نحن أنّ تارك الصّلاة كافرا؟
السائل : بلى.
الشيخ : نرى ذلك لا شكّ، لكن يأتي غيرنا ثمّ يقول: هذا ليس بكفر، والذين يقولون ليس بكفر علماء يعني ليسوا أناسا أهل هوى، هم علماء لكن هذا الذي أدّى إليه اجتهادهم، فإذا كان العلماء أهل الفقه قد يرون ما هو كفر في نظر الآخرين ليس بكفر فما بالك بالحكّام الذي قد يكون بعضهم عنده من الجهل ما عند عامّة النّاس، فالمهمّ هذه المسائل يا إخواني مسائل صعبة وخطيرة ولا ينبغي للإنسان أن ينساب وراء العاطفة أو التّهييج، بل الواجب أن ينظر بنظر فاحص متأنّي، متروّي، وينظر ماذا يترتّب على هذا الفعل وليس المقصود أنّ الإنسان يبرّد حرارة غيرته فقط، المقصود إصلاح الخلق، وإلاّ فالإنسان لا شكّ أحيانا يلحقه غيرة ويمتلأ غيظا ممّا وقع أو يقع من بعض الولاّة لكن يرى أنّ من المصلحة أن يعالج المشكلة بطريق آخر غير التّهييج، وكما قلت لكم: إنّ بعض النّاس يظنّ أنّ هذا سبب يقتضي الضّغط على وليّ الأمر حتى يفعل الذي يرى هذا القائل أنّه إصلاح، ولكنّ هذا غير مناسب في مثل بلادنا، نعم.