تفسير سورة الزلزلة . حفظ
الشيخ : الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلم على نبيّنا محمّد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فهذا هو يوم الخميس التاسع من شهر محرّم عام ستة عشر وأربعمائة وألف، وهو اللّقاء الثاني من هذا العام نبدأه بتفسير قول الله تبارك وتعالى: (( إذا زلزلت الأرض زلزالها )):
يقول الله عزّ وجلّ: (( إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدّث أخبارها )): يومئذ تحدّث أخبارها هذا هو جواب الشّرط.
(( إذا زلزلت الأرض زلزالها )): والمراد بذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: (( يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم إنّ زلزلة السّاعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حمل حملها وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد )).
وقوله: (( زلزالها )): يعني الزلزال العظيم الذي لم يكن مثله قطّ، ولهذا يقول الله عزّ وجلّ: (( ترى النّاس سكارى وما هم بسكارى )) يعني من شدّة ذهولهم، ومع ما أصابهم تجدهم كأنّهم سكارى، وما هم بسكارى، بل هم صحاة لكن لشدّة الهول صار الإنسان كأنّه سكران، لا يدري كيف يتصرّف ولا كيف يفعل.
(( وأخرجت الأرض أثقالها )): والمراد بهم أصحاب القبور فإنّه (( فإذا نفخ في الصّور فصعق من في السّماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ثمّ نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ))، يخرجون من قبورهم لربّ العالمين عزّ وجلّ، كما قال الله تبارك وتعالى: (( يوم يقوم النّاس لربّ العالمين )).
(( وقال الإنسان ما لها )): قال الإنسان: المراد به الجنس، يعني أنّ البشر يقولون ما لها؟
أيّ شيء هذا الزّلزال؟
لأنّه يخرج وكأنّه كما قال الله تعالى: كأنّه سكران، فيقول ما الذي حدث لها؟ وما شأنها؟ لشدّة الهول.
(( يومئذ )) أي: في ذلك اليوم إذا زلزلت.
(( تحدّث أخبارها )) أي: تخبر بما فعل النّاس عليها من خير أو شرّ، وقد ثبت عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّ المؤذّن إذا أذّن فإنّه لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا شيء إلاّ شهد له يوم القيامة، فتشهد الأرض بما صُنع عليها من خير أو شرّ، وهذه الشّهادة من أجل بيان عدل الله عزّ وجلّ وأنّه سبحانه وتعالى لا يؤاخذ النّاس إلاّ بما عملوه وإلاّ فإنّ الله تعالى بكلّ شيء محيط، ويكفي أن يقول لعباده جلّ وعلا: عملتم كذا وعملتم كذا، لكن من باب إقامة العدل وعدم إنكار المجرم، لأنّ المجرمين ينكرون أن يكونوا مشركين قال الله تعالى: (( ثمّ لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين ))، لأنّهم إذا رأوا أهل التّوحيد قد خلصوا مِن العذاب ونجوا منه، أنكروا الشّرك لعلّهم ينجون، ولكنّهم يختم على أفواههم وتكلّم الأيدي وتشهد الأرجل، والجلود أيضًا والألسن كلّها تشهد على الإنسان بما عمل، وحينئذ لا يستطيع أن يبقى على إنكاره، بل يقرّ ويعترف إلاّ أنّه لا ينفع النّدم في ذلك الوقت.
وقوله: (( بأنّ ربّك أوحى لها )): أي: بسبب أنّ الله أوحى لها يعني: أذن لها في أن تحدّث أخبارها، وهو سبحانه وتعالى على كلّ شيء قدير، إذا أمر شيئا بأمر فإنّه لا بدّ أن يقع، يخاطب الله الجماد فيتكلّم الجماد كما قال الله تعالى: (( ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين ))، وقال الله تعالى للقلم : ( اكتب، قال ربّي وماذا أكتب؟ قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة )، وقال الله تعالى: (( اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون )) .
فالله عزّ وجلّ إذا وجّه الكلام إلى شيء ولو جماداً فإنّه يخاطب الله ويتكلّم ولهذا قال: (( يومئذ تحدّث أخبارها * بأنّ ربّك أوحى لها ))، يومئذ: يعني يومئذ تزلزل الأرض زلزالها يصدر الناس أشتاتاً أي: جماعات متفرّقين، يصدرون كلّ يتّجه إلى مأواه، فأهل الجنّة جعلني الله وإياكم منهم يتّجهون إليها وأهل النّار والعياذ بالله يساقون إليها.
(( يوم نحشر المتّقين إلى الرّحمن وفدا * ونسوق المجرمين إلى جهنّم وردا * لا يملكون الشّفاعة إلاّ من اتّخذ عند الرّحمن عهدا )).
فيصدر النّاس جماعات وزمراً على أصناف متباينة تختلف اختلافاً كبيراً كما قال الله تعالى: (( انظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً )).
(( ليروا أعمالهم )) يعني: يصدرون أشتاتاً فيروا أعمالهم، يريهم الله تعالى أعمالهم إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ وذلك بالحساب وبالكتاب، فيعطى الإنسان كتابه إمّا بيمينه وإمّا بشماله ثمّ يحاسب على ضوء ما في هذا الكتاب، يحاسبه الله عزّ وجلّ، أمّا المؤمن فإنّ الله تعالى يخلو به وحده ويقرّره بذنوبه ويقول: فعلت، كذا وفعلت كذا، وفعلت كذا، حتى يقرّ ويعترف فإذا رأى أنّه هلك قال الله عزّ وجلّ: ( إنّي قد سترتها عليك وأنا أغفرها لك اليوم )، وأمّا الكافر والعياذ بالله فإنّه لا يعامل هذه المعاملة بل ينادى على رؤوس الأشهاد: (( هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظّالمين )).
وقوله: (( ليروا أعمالهم )): هذا مضاف، والمضاف يقتضي العموم، وظاهره أنّهم يرون الأعمال الصّغيرة والكبيرة وهو كذلك، إلاّ ما غفره الله من قبل بحسناتٍ أو دعاء أو ما أشبه ذلك، فهذا يمحى، كما قال تعالى: (( إنّ الحسنات يذهبن السّيّئات * ذلك ذكرى للذّاكرين )).
فيُرى الإنسان عمله، يرى عمله القليل والكثير حتى يتبيّن له الأمر جليّا ويعطى كتابه ويقال: (( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً )) ولهذا يجب على الإنسان أن لا يُقدم على شيء لا يرضي الله عزّ وجلّ لأنّه يعلم أنّه مكتوب عليه وأنّه سوف يحاسب عليه.
(( فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره )):
مَن: شرطيّة تفيد العموم، يعني: أيّ إنسان يعمل مثقال ذرّة فإنّه سيرى سواء من الخير أو من الشّرّ، ومثقال ذرّة: يعني: وزن ذرّة، والمراد بالذّرّة صغار النّمل كما هو معروف، وليس المراد بالذّرّة، الذّرّة المتعارف عليها اليوم كما ادّعاه بعضهم، لأنّ هذه الذّرّة المتعارف عليها اليوم ليست معروفة في ذلك الوقت، والله عزّ وجلّ لا يخاطب النّاس إلاّ بما يفهمون، وإنّما ذكر الذّرّة لأنّها مضرِب المثل في القلّة كما قال تعالى: (( إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنة يضاعفها ))، وإلاّ من المعلوم أنّ مَن عمل ولو أدنى من الذّرّة فإنّه سوف يجده ، لكن لمّا كانت الذّرّة مضرب المثل في القلّة قال الله تعالى: (( فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره )) .
وقوله تبارك وتعالى: (( مثقال ذرّة )): يفيد أنّ الذي يوزن هو الأعمال، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم:
فمن العلماء من يقول: إنّ الذي يوزن العمل.
ومنهم من يقول: إنّ الذي يوزن صحائف الأعمال.
ومنهم من يقول: إنّ الذي يوزن هو العامل نفسه.
ولكلّ دليل، أمّا من قال: إنّ الذي يوزن هو العمل فاستدلّ بهذه الآية: (( فمن يعمل مثقال ذرّة )) لأنّ تقدير الآية: فمن يعمل عملا مثقال ذرّة، واستدلّوا أيضا بقول النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ( كلمتان حبيبتان إلى الرّحمن، خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان ) وهذا القول كما ترى له دليل من القرآن ومِن السّنّة، لكن يُشكل على هذا أنّ العمل ليس جسمًا يمكن أن يوضع في الميزان، بل العمل عملًا انتهى وانقضى، ولكن يجاب عن هذا بأن يقال: على المرء أن يصدّق بما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب وإن كان عقله قد يحار فيه، يعني يتعجّب ويقول كيف هذا؟!
فعلينا بالتّصديق لأنّ قدرة الله تعالى فوق ما نتصوّر، هذا أوّل جواب عن هذا الإيراد.
الإيراد عرفتموه الآن؟
وهو كيف يوزن العمل وهو معنى وحركة انتهى؟
فيقال: الواجب على المسلم أن يسلّم ويستسلم، ولا يقول كيف، لأنّ أمور الغيب فوق ما نتصوّر، هذه واحدة.
ثانياً: أنّ الله تعالى يجعل هذه الأعمال أجساماً توضع في الميزان، وتثقل وتخفّ، والله تعالى قادر على أن يجعل الأمور المعنويّة أجساماً كما صحّ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، في أنّ الموت يؤتى به على صورة كبش ويوقف بين الجنّة والنّار ويقال: ( يا أهل الجنّة فيشرئبّون ويطّلعون ) لماذا نودوا؟ ( ويقال يا أهل النّار فيشرئبّون ويطّلعون ) لماذا نودوا؟ ( فيقال لهم هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت ) مع أنّه في صورة كبش، والموت معنى وليس جسما ولكنّ الله تعالى يجعله جسما يوم القيامة، فيقال: ( هذا الموت فيذبح أمامهم ويقال: يا أهل الجنّة خلود ولا موت ويا أهل النّار خلود ولا موت ) وبهذا يزول الإشكال الوارد على هذا القول، ما هو القول؟
هو أنّ الذي يوزن هو العمل.
طيب أمّا من قال: إنّ الذي يوزن هو صحائف الأعمال فاستدلّوا بحديث صاحب البطاقة الذي يؤتى يوم القيامة به، ويقال: انظر إلى عملك، فتمدّ له السّجلّات مكتوب فيها العمل السّيّء، سجّلات عظيمة، فإذا رأى أنّه قد هلك، أُوتي ببطاقة صغيرة فيها لا إله إلاّ الله، فيقول: يا ربّ، ما هذه البطاقة مع هذه السّجلاّت؟ فيقال له: ( إنّك لا تظلم شيئا ثمّ توزن البطاقة في كفّة والسّجلاّت في كفّة فترجح بهنّ البطاقة ) وهي لا إله إلاّ الله.
فقالوا: هذا دليل على أنّ الذي يوزن هو صحائف الأعمال.
طيب وأمّا الذين قالوا: إنّ الذي يوزن هو العامل نفسه فاستدلّوا بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( أنّه كان ذات يوم مع النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فهبّت ريح شديدة، فقام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فجعلت الرّيح تُكفّؤه، لأنّه نحيف القدمين والسّاقين، فجعل النّاس يضحكون فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ممّ تضحكون -أو- ممّ تعجبون، والذي نفسي بيده إنّ ساقيه في الميزان أثقل مِن أحد ) ، وهذا يدلّ على أنّ الذي يوزن هو العامل.
فيقال: نأخذ بالقول الأوّل أنّ الذي يوزن العمل، ولكن ربّما يكون بعض النّاس توزن صحائف أعمالهم، وبعض النّاس بوزن هو بنفسه.
فإن قال قائل: على هذا القول أنّ الذي يوزن هو العامل، هل ينبني على أجسام الناس التي في الدّنيا، وأنّ صاحب الجسم الكبير العظيم يثقل ميزانه يوم القيامة؟
فالجواب: لا، لا ينبني على أجسام الدّنيا، يؤتى بالرّجل السّمين، الغليظ، الكبير، الواسع الجسم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وهذا عبد الله بن مسعود يقول النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: ( إنّ ساقيه في الميزان أثقل من أحد )، فالعبرة بثقل الجسم أو عدم ثقله يوم القيامة بما كان معه من أعمال صالحة.
يقول الله عزّ وجلّ: (( فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره )):
وفي هذه الآية، بل في هذه السّورة كلّها التّحذير والتّخويف من زلزلة الأرض.
وفيها الحثّ على الأعمال الصّالحة.
وفيها أنّ العمل لا يضيع مهما قلّ حتى لو كان مثقال ذرّة أو أقلّ فإنّه لا بدّ أن يراه الإنسان ويطّلع عليه يوم القيامة.
نسأل الله تعالى أن يختم لنا ولكم بالخير، والسّعادة، والصّلاح، والفلاح، وأن يجعلنا ممّن يقدمون إلى الرّحمن وفدًا إنّه على كلّ شيء قدير، الآن إلى الأسئلة.
أمّا بعد: فهذا هو يوم الخميس التاسع من شهر محرّم عام ستة عشر وأربعمائة وألف، وهو اللّقاء الثاني من هذا العام نبدأه بتفسير قول الله تبارك وتعالى: (( إذا زلزلت الأرض زلزالها )):
يقول الله عزّ وجلّ: (( إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدّث أخبارها )): يومئذ تحدّث أخبارها هذا هو جواب الشّرط.
(( إذا زلزلت الأرض زلزالها )): والمراد بذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: (( يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم إنّ زلزلة السّاعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حمل حملها وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد )).
وقوله: (( زلزالها )): يعني الزلزال العظيم الذي لم يكن مثله قطّ، ولهذا يقول الله عزّ وجلّ: (( ترى النّاس سكارى وما هم بسكارى )) يعني من شدّة ذهولهم، ومع ما أصابهم تجدهم كأنّهم سكارى، وما هم بسكارى، بل هم صحاة لكن لشدّة الهول صار الإنسان كأنّه سكران، لا يدري كيف يتصرّف ولا كيف يفعل.
(( وأخرجت الأرض أثقالها )): والمراد بهم أصحاب القبور فإنّه (( فإذا نفخ في الصّور فصعق من في السّماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ثمّ نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ))، يخرجون من قبورهم لربّ العالمين عزّ وجلّ، كما قال الله تبارك وتعالى: (( يوم يقوم النّاس لربّ العالمين )).
(( وقال الإنسان ما لها )): قال الإنسان: المراد به الجنس، يعني أنّ البشر يقولون ما لها؟
أيّ شيء هذا الزّلزال؟
لأنّه يخرج وكأنّه كما قال الله تعالى: كأنّه سكران، فيقول ما الذي حدث لها؟ وما شأنها؟ لشدّة الهول.
(( يومئذ )) أي: في ذلك اليوم إذا زلزلت.
(( تحدّث أخبارها )) أي: تخبر بما فعل النّاس عليها من خير أو شرّ، وقد ثبت عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّ المؤذّن إذا أذّن فإنّه لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا شيء إلاّ شهد له يوم القيامة، فتشهد الأرض بما صُنع عليها من خير أو شرّ، وهذه الشّهادة من أجل بيان عدل الله عزّ وجلّ وأنّه سبحانه وتعالى لا يؤاخذ النّاس إلاّ بما عملوه وإلاّ فإنّ الله تعالى بكلّ شيء محيط، ويكفي أن يقول لعباده جلّ وعلا: عملتم كذا وعملتم كذا، لكن من باب إقامة العدل وعدم إنكار المجرم، لأنّ المجرمين ينكرون أن يكونوا مشركين قال الله تعالى: (( ثمّ لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين ))، لأنّهم إذا رأوا أهل التّوحيد قد خلصوا مِن العذاب ونجوا منه، أنكروا الشّرك لعلّهم ينجون، ولكنّهم يختم على أفواههم وتكلّم الأيدي وتشهد الأرجل، والجلود أيضًا والألسن كلّها تشهد على الإنسان بما عمل، وحينئذ لا يستطيع أن يبقى على إنكاره، بل يقرّ ويعترف إلاّ أنّه لا ينفع النّدم في ذلك الوقت.
وقوله: (( بأنّ ربّك أوحى لها )): أي: بسبب أنّ الله أوحى لها يعني: أذن لها في أن تحدّث أخبارها، وهو سبحانه وتعالى على كلّ شيء قدير، إذا أمر شيئا بأمر فإنّه لا بدّ أن يقع، يخاطب الله الجماد فيتكلّم الجماد كما قال الله تعالى: (( ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين ))، وقال الله تعالى للقلم : ( اكتب، قال ربّي وماذا أكتب؟ قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة )، وقال الله تعالى: (( اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون )) .
فالله عزّ وجلّ إذا وجّه الكلام إلى شيء ولو جماداً فإنّه يخاطب الله ويتكلّم ولهذا قال: (( يومئذ تحدّث أخبارها * بأنّ ربّك أوحى لها ))، يومئذ: يعني يومئذ تزلزل الأرض زلزالها يصدر الناس أشتاتاً أي: جماعات متفرّقين، يصدرون كلّ يتّجه إلى مأواه، فأهل الجنّة جعلني الله وإياكم منهم يتّجهون إليها وأهل النّار والعياذ بالله يساقون إليها.
(( يوم نحشر المتّقين إلى الرّحمن وفدا * ونسوق المجرمين إلى جهنّم وردا * لا يملكون الشّفاعة إلاّ من اتّخذ عند الرّحمن عهدا )).
فيصدر النّاس جماعات وزمراً على أصناف متباينة تختلف اختلافاً كبيراً كما قال الله تعالى: (( انظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً )).
(( ليروا أعمالهم )) يعني: يصدرون أشتاتاً فيروا أعمالهم، يريهم الله تعالى أعمالهم إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ وذلك بالحساب وبالكتاب، فيعطى الإنسان كتابه إمّا بيمينه وإمّا بشماله ثمّ يحاسب على ضوء ما في هذا الكتاب، يحاسبه الله عزّ وجلّ، أمّا المؤمن فإنّ الله تعالى يخلو به وحده ويقرّره بذنوبه ويقول: فعلت، كذا وفعلت كذا، وفعلت كذا، حتى يقرّ ويعترف فإذا رأى أنّه هلك قال الله عزّ وجلّ: ( إنّي قد سترتها عليك وأنا أغفرها لك اليوم )، وأمّا الكافر والعياذ بالله فإنّه لا يعامل هذه المعاملة بل ينادى على رؤوس الأشهاد: (( هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظّالمين )).
وقوله: (( ليروا أعمالهم )): هذا مضاف، والمضاف يقتضي العموم، وظاهره أنّهم يرون الأعمال الصّغيرة والكبيرة وهو كذلك، إلاّ ما غفره الله من قبل بحسناتٍ أو دعاء أو ما أشبه ذلك، فهذا يمحى، كما قال تعالى: (( إنّ الحسنات يذهبن السّيّئات * ذلك ذكرى للذّاكرين )).
فيُرى الإنسان عمله، يرى عمله القليل والكثير حتى يتبيّن له الأمر جليّا ويعطى كتابه ويقال: (( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً )) ولهذا يجب على الإنسان أن لا يُقدم على شيء لا يرضي الله عزّ وجلّ لأنّه يعلم أنّه مكتوب عليه وأنّه سوف يحاسب عليه.
(( فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره )):
مَن: شرطيّة تفيد العموم، يعني: أيّ إنسان يعمل مثقال ذرّة فإنّه سيرى سواء من الخير أو من الشّرّ، ومثقال ذرّة: يعني: وزن ذرّة، والمراد بالذّرّة صغار النّمل كما هو معروف، وليس المراد بالذّرّة، الذّرّة المتعارف عليها اليوم كما ادّعاه بعضهم، لأنّ هذه الذّرّة المتعارف عليها اليوم ليست معروفة في ذلك الوقت، والله عزّ وجلّ لا يخاطب النّاس إلاّ بما يفهمون، وإنّما ذكر الذّرّة لأنّها مضرِب المثل في القلّة كما قال تعالى: (( إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنة يضاعفها ))، وإلاّ من المعلوم أنّ مَن عمل ولو أدنى من الذّرّة فإنّه سوف يجده ، لكن لمّا كانت الذّرّة مضرب المثل في القلّة قال الله تعالى: (( فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره )) .
وقوله تبارك وتعالى: (( مثقال ذرّة )): يفيد أنّ الذي يوزن هو الأعمال، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم:
فمن العلماء من يقول: إنّ الذي يوزن العمل.
ومنهم من يقول: إنّ الذي يوزن صحائف الأعمال.
ومنهم من يقول: إنّ الذي يوزن هو العامل نفسه.
ولكلّ دليل، أمّا من قال: إنّ الذي يوزن هو العمل فاستدلّ بهذه الآية: (( فمن يعمل مثقال ذرّة )) لأنّ تقدير الآية: فمن يعمل عملا مثقال ذرّة، واستدلّوا أيضا بقول النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ( كلمتان حبيبتان إلى الرّحمن، خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان ) وهذا القول كما ترى له دليل من القرآن ومِن السّنّة، لكن يُشكل على هذا أنّ العمل ليس جسمًا يمكن أن يوضع في الميزان، بل العمل عملًا انتهى وانقضى، ولكن يجاب عن هذا بأن يقال: على المرء أن يصدّق بما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب وإن كان عقله قد يحار فيه، يعني يتعجّب ويقول كيف هذا؟!
فعلينا بالتّصديق لأنّ قدرة الله تعالى فوق ما نتصوّر، هذا أوّل جواب عن هذا الإيراد.
الإيراد عرفتموه الآن؟
وهو كيف يوزن العمل وهو معنى وحركة انتهى؟
فيقال: الواجب على المسلم أن يسلّم ويستسلم، ولا يقول كيف، لأنّ أمور الغيب فوق ما نتصوّر، هذه واحدة.
ثانياً: أنّ الله تعالى يجعل هذه الأعمال أجساماً توضع في الميزان، وتثقل وتخفّ، والله تعالى قادر على أن يجعل الأمور المعنويّة أجساماً كما صحّ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، في أنّ الموت يؤتى به على صورة كبش ويوقف بين الجنّة والنّار ويقال: ( يا أهل الجنّة فيشرئبّون ويطّلعون ) لماذا نودوا؟ ( ويقال يا أهل النّار فيشرئبّون ويطّلعون ) لماذا نودوا؟ ( فيقال لهم هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت ) مع أنّه في صورة كبش، والموت معنى وليس جسما ولكنّ الله تعالى يجعله جسما يوم القيامة، فيقال: ( هذا الموت فيذبح أمامهم ويقال: يا أهل الجنّة خلود ولا موت ويا أهل النّار خلود ولا موت ) وبهذا يزول الإشكال الوارد على هذا القول، ما هو القول؟
هو أنّ الذي يوزن هو العمل.
طيب أمّا من قال: إنّ الذي يوزن هو صحائف الأعمال فاستدلّوا بحديث صاحب البطاقة الذي يؤتى يوم القيامة به، ويقال: انظر إلى عملك، فتمدّ له السّجلّات مكتوب فيها العمل السّيّء، سجّلات عظيمة، فإذا رأى أنّه قد هلك، أُوتي ببطاقة صغيرة فيها لا إله إلاّ الله، فيقول: يا ربّ، ما هذه البطاقة مع هذه السّجلاّت؟ فيقال له: ( إنّك لا تظلم شيئا ثمّ توزن البطاقة في كفّة والسّجلاّت في كفّة فترجح بهنّ البطاقة ) وهي لا إله إلاّ الله.
فقالوا: هذا دليل على أنّ الذي يوزن هو صحائف الأعمال.
طيب وأمّا الذين قالوا: إنّ الذي يوزن هو العامل نفسه فاستدلّوا بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( أنّه كان ذات يوم مع النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فهبّت ريح شديدة، فقام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فجعلت الرّيح تُكفّؤه، لأنّه نحيف القدمين والسّاقين، فجعل النّاس يضحكون فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ممّ تضحكون -أو- ممّ تعجبون، والذي نفسي بيده إنّ ساقيه في الميزان أثقل مِن أحد ) ، وهذا يدلّ على أنّ الذي يوزن هو العامل.
فيقال: نأخذ بالقول الأوّل أنّ الذي يوزن العمل، ولكن ربّما يكون بعض النّاس توزن صحائف أعمالهم، وبعض النّاس بوزن هو بنفسه.
فإن قال قائل: على هذا القول أنّ الذي يوزن هو العامل، هل ينبني على أجسام الناس التي في الدّنيا، وأنّ صاحب الجسم الكبير العظيم يثقل ميزانه يوم القيامة؟
فالجواب: لا، لا ينبني على أجسام الدّنيا، يؤتى بالرّجل السّمين، الغليظ، الكبير، الواسع الجسم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وهذا عبد الله بن مسعود يقول النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: ( إنّ ساقيه في الميزان أثقل من أحد )، فالعبرة بثقل الجسم أو عدم ثقله يوم القيامة بما كان معه من أعمال صالحة.
يقول الله عزّ وجلّ: (( فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره )):
وفي هذه الآية، بل في هذه السّورة كلّها التّحذير والتّخويف من زلزلة الأرض.
وفيها الحثّ على الأعمال الصّالحة.
وفيها أنّ العمل لا يضيع مهما قلّ حتى لو كان مثقال ذرّة أو أقلّ فإنّه لا بدّ أن يراه الإنسان ويطّلع عليه يوم القيامة.
نسأل الله تعالى أن يختم لنا ولكم بالخير، والسّعادة، والصّلاح، والفلاح، وأن يجعلنا ممّن يقدمون إلى الرّحمن وفدًا إنّه على كلّ شيء قدير، الآن إلى الأسئلة.