تفسير سورة التكاثر . حفظ
الشيخ : الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
أمّا بعد :
فهذا هو اللّقاء الثامن والتّسعون من لقاء الباب المفتوح الذي يتمّ كلّ خميس من كلّ أسبوع، وهذا هو الخميس الثامن من شهر صفر عام ستة عشر وأربعمائة وألف، نفتتح هذا اللّقاء بما انتهينا إليه من تفسير جزء سورة النّبأ حيث وصلنا إلى سورة التّكاثر.
يقول الله عزّ وجلّ: (( ألهاكم التّكاثر * حتىّ زرتم المقابر )): هذه الجملة جملة خبريّة يخبر الله عزّ وجلّ بها العباد مخاطباً لهم يقول: (( ألهاكم التّكاثر )) ومعنى ألهاكم أي: شغلكم حتى لهوتم عمّا هو أهمّ من ذكر الله تعالى والقيام بطاعته، والخطاب كما تعلمون لجميع الأمّة إلاّ أنّه يخصّص بمن شغلتهم أمور الآخرة عن أمور الدّنيا وهم قليل، وإنّما نقول: هم قليل لأنّه ثبت في الصّحيحين أنّ الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة : ( يا آدم! فيقول: لبّيك وسعديك، فيقول: أخرج من ذرّيتك بعثا إلى النّار، قال: وما بعث النّار؟ قال: من كلّ ألف تسمعمائة وتستعة وتسعون، واحد في الجنّة والباقي في النّار )، وهذا عدد هائل، إذا لم يكن من بني آدم إلاّ واحد من الألف من أهل الجنّة والباقون من أهل النّار، إذن فالخطاب بالعموم في مثل هذه الآية جار على أصله، لأنّ الواحد من الألف ليس بشيء بالنّسبة إليهم.
وأمّا قوله: (( التّكاثر )) فهو يشمل التّكاثر في المال، والتّكاثر بالقبيلة، والتّكاثر بالجاه، والتّكاثر بالعلم، وبكلّ ما يمكن أن يقع فيه التّفاخر، ويدلّ لذلك قول صاحب الجنّة لصاحبه: (( أنا أكثر منك مالًا وأعزّ نفراً )) فالإنسان قد يتكاثر بماله، فيطلب أن يكون أكثر من الآخر مالاً وأوسع تجارة، وقد يتكاثر الإنسان بقبيلته، يقول: نحن أكثر منهم عدداً كما قال الشّاعر:
" ولستَ بالأكثر منهم حصى *** وإنّما العزّة للكاثر " .
أكثر منهم حصى: لأنّهم كانوا فيمن سبق يعدّون الأشياء بالحصى، فمثلا إذا كان هؤلاء حصاهم عشرة آلاف، والآخرون حصاهم ثمانية آلاف صار الأوّل أكثر وأعزّ.
فيقول الشّاعر:
" لست بالأكثر منهم حصى *** وإنّما العزّة للكاثر ".
كذلك يتكاثر الإنسان بالعلم، فتجده يفخر على غيره بالعلم، لكن إن كان بالعلم الشّرعيّ فهو خير وإن كان بالعلم غير الشّرعيّ فهو إمّا مباح وإمّا محرّم، المهمّ أنّ ما يقع فيه التّكاثر العلم وهذا هو الغالب على بني آدم: التّكاثر، فيتكاثرون في هذه الأمور عمّا خُلقوا له من عبادة الله عزّ وجلّ.
وقوله: (( حتى زرتم المقابر )) يعني: إلى أن زرتم المقابر، يعني: إلى أن متّم، فالإنسان مجبول على التّكاثر إلى أن يموت، بل كلّما ازداد به الكبر ازداد به الأمل فهو يشيب في السّنّ ويشبّ في الأمل، حتى إنّ الرّجل له تسعون سنة مثلا تجد عنده من الآمال وطول الأمل ما ليس عند الشّابّ الذي عنده خمس عشرة سنة، هذا هو معنى الآية الكريمة، أي: أنّكم تلهّوتم بالتكاثر عن الآخرة إلى أن متّم.
وقيل إنّ معنى (( حتّى زرتم المقابر )): حتى أصبحتم تتكاثرون بالأموات كما تتكاثرون بالأحياء، فيأتي الإنسان أنا قبيلتي أكثر من قبيلتك، وإذا شئت فاذهب إلى القبور فعدّ القبور منّا ونعد القبور منكم فنرى أيّهما أكثر، لكنّ هذا قول ضعيف بعيد من سياق الآية، والمعنى الأوّل هو الصّحيح: أنّكم تتكاثرون إلى أن تموتوا .
وقوله: (( حتى زرتم المقابر )) استدلّ به عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- على أنّ الزّائر لا بدّ أن يرجع إلى وطنه، وأنّ القبور ليست بدار إقامة، وكذلك ذُكر عن بعض الأعراب أنّه سمع قارئا يقرأ: (( ألهاكم التّكاثر * حتى زرتم المقابر )) فقال: " والله لنبعثنّ " ، لماذا ؟
لأنّ الزّائر كما هو معروف يزور ويرجع فقال: " والله لنبعثنّ " ، وهذا هو الحقّ.
وبهذا نعرف أنّ ما يذكره بعض النّاس الآن في الجرائد وغيرها يقول عن الرّجل إذا مات: " إنّه انتقل إلى مثواه الأخير " ، أنّ هذا كلام باطل وكذب لأنّ القبور ليست هي المثوى الأخير، بل لو أنّ الإنسان اعتقد مدلول هذا اللفظ لصار كافرا بالبعث، والكفر بالبعث ردّة عن الإسلام، لكنّ كثيرا من النّاس يأخذون الكلمات على عواهنها ولا يدرون ما معناها، ولعلّ هذه موروثة عن الملحدين الذين لا يقرون بالبعث بعد الموت.
ثمّ قال الله تعالى: (( كلاّ سوف تعلمون * ثمّ كلاّ سوف تعلمون )) قيل: إنّ كلاّ بمعنى الرّدع يعني: ارتدعوا عن هذا التّكاثر، وقيل: إنّها بمعنى حقّا.
ومعنى (( سوف تعلمون )) أي: سوف تعلمون عاقبة أمركم إذا رجعتم إلى الآخرة وأنّ هذا التّكاثر لا ينفعكم، وقد جاء في الحديث عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم أنّ العبد يقول: ( مالي ومالي ) يعني: يفتخر به، ( وليس لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت ) والباقي تاركه لغيرك، وهذا هو الحقّ.
الآن أموالنا التي بين أيدينا إمّا أن نأكلها فتفنى، وإمّا أن نلبسها فتبلى، وإمّا أن نتصدّق بها فنمضيها وتكون أمامنا يوم القيامة، وإمّا أن نتركها لغيرنا، لا يمكن أن يخرج المال الذي بأيدينا عن هذه القسمة الرّباعيّة.
(( كلاّ سوف تعلمون )) أي: سوف تعلمون عاقبة أمركم بالتّكاثر الذي ألهاكم عن الآخرة.
(( ثمّ كلاّ سوف تعلمون )): وهذه الجملة تأكيد للرّدع مرّة ثانية.
ثمّ قال: (( كلاّ لو تعلمون علم اليقين )) يعني: حقّا لو تعلمون علم اليقين لعرفتم أنّكم في ضلال، ولكنّكم لا تعلمون علم اليقين لأنّكم غافلون لاهون في هذه الدّنيا، ولو علمتم علم اليقين لعرفتم أنّكم في ضلال وفي خطأ عظيم.
ثمّ قال تعالى: (( لترونّ الجحيم * ثمّ لترونّها عين اليقين )):
لترونّ: هذه جملة مستقلّة ليس جواب لو، ولهذا يجب على القارئ أن يقف عند قوله: (( كلاّ لو تعلمون علم اليقين )) ونحن نسمع كثيراً من الأئمّة الذين عندهم علم يصلون فيقولون (( كلاّ لو تعلمون علم اليقين * لترونّ الجحيم )) وهذا الوصل إمّا غفلة منهم ونسيان، وإمّا أنّهم لم يتأمّلوا الآية حقّ التّأمّل، وإلاّ لو تأمّلوها حقّ التّأمّل لوجدوا أنّ الوصل يفسد المعنى، لأنّه لو قال: (( كلاّ لو تعلمون علم اليقين * لترونّ الجحيم )) صار رؤية الجحيم مشروطة بماذا؟ بعلمهم، وهذا ليس بصحيح ولذلك يجب التّنبّه والتّنبيه لهذا، إذا سمعتم أحدا يقرأ: (( كلاّ لو تعلمون علم اليقين * لترونّ الجحيم )) نبّهوه، قل: يا أخي وصلك هذا يوهم فساد المعنى، وأنت قف، أوّلاً: لأنّها رأس آية، والمشروع أن يقف الإنسان عند رأس كلّ آية، وثانياً: أنّ الوصل يفسد المعنى.
(( كلاّ لو تعلمون علم اليقين * لترونّ الجحيم )) إذن لترونّ الجحيم جملة مستأنفة لا صلة لها بما قبلها، وهي جملة قسميّة فيها قسم مقدّر والتّقدير: والله لترونّ الجحيم، ولهذا يقول المعربون في إعرابها: إنّ اللّام موطّئة للقسم، وجملة ترونّ هي: جواب القسم، والقسم محذوف والتّقدير والله لترونّ الجحيم.
والجحيم اسم من أسماء النّار.
(( ثمّ لترونّها عين اليقين )) تأكيد لرؤيتها، ومتى ترُى؟
تُرى يوم القيامة، يُؤتى بها تُجرّ بسبعين ألف زمام، كلّ زمام يجرّه سبعون ألف ملك، فما ظنّك بهذه الدّار والعياذ بالله؟ !
إنّها دار كبيرة عظيمة، لأنّ فيها سبعين ألف زمام، كلّ زمام يجرّه سبعون ألف ملك، والملائكة عِظَام شداد، فهي نار عظيمة أعاذنا الله وإيّاكم منها.
(( لترونّ الجحيم * ثمّ لترونّها عين اليقين * ثمّ لتسألنّ يومئذ عن النّعيم )) يعني : ثمّ في ذلك الوقت وفي ذلك الموقف العظيم تسألنّ عن النّعيم، واختلف العلماء رحمهم الله في قوله: (( ثمّ لتسألنّ يومئذ عن النّعيم )) هل المراد الكافر، أو المراد المؤمن والكافر؟
والصّواب أنّ المراد هو المؤمن والكافر، كُلٌّ يُسْأل عن النّعيم، لكن الكافر يُسْأل سؤال توبيخ وتقريع، والمؤمن يُسأل سؤال تذكير، والدّليل على أنّه عامّ ما جرى في قصّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر حيث خرجوا ذات يوم من الجوع، فذهبوا إلى بستان رجل يقال له: أبو الهيثم بن التيّهان، فاستأذنوا فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ( السّلام عليكم، وكانت امرأته وراء الباب فلم تردّ عليه، فقال: السّلام عليكم، فلم تردّ، فقال: السّلام عليكم، فلم تردّ فانصرف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ) ، لأنّ الإنسان إذا استأذن ثلاثا ولم يأذن له فإنّه يرجع، ( فلحقتهم وقالت: إنّي سمعت سلامكم ولكنّي أحببت أن أزداد في الخير، لأنّ الرّسول يدعو بالسّلام عليهم، فأحبّت أن يتكرّر دعاء الرّسول عليه الصّلاة والسّلام لهم، فرجعوا فسألوا عن زوجها فقالت: إنّه ذهب يستعذب الماء ) -أي يأتي بالماء العذب الطيب- ، ( فجلسوا ثمّ جاء الرّجل ففرح بهم فرحا عظيماً وقال: إنّه لا أحد أكرم أضيافا منّي اليوم )، ثمّ قطع لهم عذقا من النّخل وأتى به وألقاه بين أيديهم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ( هلاّ جنيت ) جنيت يعني خرفت وتعلمون أنّ الخراف أن يأخذ الإنسان الرّطب فقط، فقال: ( يا رسول الله أردت أن يكون بين أيديكم البسر والرّطب والمذنّب ) لأنّ العذق يشمل هذا وهذا كل الثلاث، فأكلوا ثمّ دعوا بالماء فشربوا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ( ماء طيّب، وطعام طيّب، وظلّ طيّب، لتسألنّ يومئذ عن النّعيم ) :
وهذا دليل على أنّ الذي يُسأل المؤمن والكافر ، لكن يختلف السّؤال، سؤال المؤمن سؤال تذكير بنعمة الله عزّ وجلّ علينا حتى يفرح ويعلم أنّ الذي أنعم عليه في الدّنيا أكرم مِن أن ينعم عليه في الآخرة بمعنى: أنّه إذا تكرّم عليه بنعمته في الدّنيا تكرّم عليه بنعمته في الآخرة، أمّا الكافر فإنّه سؤال توبيخ وتنبيه، نسأل الله تعالى أن يستعملنا وإيّاكم في طاعته، وأن يجعل ما رزقنا معونة على طاعته إنّه على كلّ شيء قدير.
والآن إلى الأسئلة، ونبدأ باليمين.
السائل : بسم الله الرّحمن الرّحيم .
فضيلة الشّيخ السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
تذكرنا أنّه في العام الماضي ذكرت لنا أنّه إذا كنّا في مجلس فلا نكرّر السّلام.