تفسير سورة قريش وما يستفاد من الآيات. حفظ
الشيخ : الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن هذا هو اللقاء: *لقاء الباب المفتوح* هو اللقاء الثالث بعد المائة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع به، ويقع هذا اللقاء يوم الخميس الحادي عشر من شهر جمادى الأولى عام ستة عشر وأربعمائة وألف.
نتكلم فيه على قول الله تبارك وتعالى: (( لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )):
هذه السورة لها صلة بالسورة التي قبلها، إذ أن السورة التي قبلها فيها بيان منة الله عز وجل على أهل مكة بما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا مكة لهدم الكعبة.
فبين الله في هذه السورة نعمة أخرى كبيرة على أهل مكة، على قريش وهو إيلافهم مرتين في السنة: مرة في الصيف، ومرة في الشتاء.
والإيلاف بمعنى: الجمع والضم ويراد به التجارة التي كانوا يقومون بها مرة في الشتاء ومرة في الصيف:
أما في الشتاء فيتجهون نحو اليمن، للمحصولات الزراعية فيه، ولأن الجو مناسب.
وأما في الصيف فيتجهون إلى الشام، لأن غالب تجارة الفواكه وغيرها تكون في هذا الوقت في الصيف مع مناسبة الجو البارد، فهي نعمة من الله سبحانه وتعالى على قريش في هاتين الرِحلتين، الرحلة الأولى: رحلة الشتاء في أي وقت، ولأي جهة؟
السائل : اليمن.
الشيخ : والثانية رحلة الصيف لجهة الشام.
لما ذكرهم بهذه النعمة وهي نعمة عظيمة، لأنهم يجدون منها فوائد كثيرة ومكاسب كبيرة في هذه التجارة، أمرهم الله عز وجل أن يعبدوا رب البيت عز وجل:
قال: (( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ )): شكراً له على هذه النعمة.
والفاء هذه إما أن تكون فاء السببية، أي: فبسبب هاتين الرحلتين ليعبدوا رب هذا البيت.
أو تكون فاء التفريع، وأياً كانت فهي مبنية على ما سبق، أي: فبهذه النعم العظيمة يجب عليهم أن يعبدوا الله.
والعبادة هي: " التذلل لله عز وجل محبة وتعظيماً "، أن يتعبد الإنسان لله، يتذلل له بالسمع والطاعة، إذا بلغه عن الله ورسوله أمر قال: سمعنا وأطعنا، وإذا بلغه خبر قال: سمعنا وآمنّا.
على وجه المحبة والتعظيم: فبالمحبة يقوم الإنسان بفعل الأوامر، وبالتعظيم يترك النواهي خوفاً من هذا العظيم عز وجل، هذا معنى مِن معاني العبادة.
وتطلق العبادة على نفس المتَعبَّد به، وقد حدها شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المعنى فقال: " إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ".
ولهذا لو سألك سائل: الصلاة ما هي أعبادة أم عادة؟
قلت: عبادة، ولو سألك سائل: أنت الآن تصلي فما معنى صلاتك هذه؟ لقلت: معناها العبادة لله عز وجل، أتعبد لله عز وجل، أتذلل له بالسمع والطاعة وبما أمرني به.
وقوله: (( رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ )) يعني به: الكعبة المعظمة، وقد أضافها الله تعالى إلى نفسه في قوله تعالى: (( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ )).
وهنا أضاف ربوبيته إليه قال: (( رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ )) وهل هو رب لغيره؟
الجواب: نعم، لكن إضافة الربوبية إليه على سبيل التشريف والتعظيم.
طيب (( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ )) أليس كل شيء فهو لله؟
(( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )) كل شيء لله، كل شيء ملكه لله، لماذا أضاف الله البيت إليه؟
تشريفاً وتعظيماً.
إذاً خصصه بالربوبية أي: خصص البيت بالربوبية مرة، وأضافه إلى نفسه مرة أخرى تشريفاً وتعظيماً.
في آية ثانية: (( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا )) وبعدها قال: (( وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ )): احترازاً من أن يتوهم واهم بأنه رب البلدة وحدها، فقال: (( وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ))، ولكل مقام صيغةٌ مناسبة، فبقوله: (( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ )): مناسبة: بيان عموم منكر لئلا يدعي المشركون أنه رب للبلدة فقط، أما هنا فالمقام مقام تعظيم للبيت، فناسب ذكرُه وحده.
(( الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )): الذي: هذه صفة لرب أو للبيت؟
الطالب : لرب.
الشيخ : لرب، إذاً محلها النصب، ولهذا يحسن أن تقف فتقول: (( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ )) ثم تقول: (( الَّذِي أَطْعَمَهُمْ )) لأنك لو وصلت فقلت: (( رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ )) لظن السامع أن الذي، صفة للبيت، وهذا بعيد من المعنى ولا يستقيم بالمعنى.
(( الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )): بيَّن الله تعالى نعمته عليهم، النعمة الظاهرة والباطنة: فإطعامهم من الجوع وقاية من الهلاك في أمر باطن وهو الطعام الذي يأكلونه.
(( وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )) وقاية من الهلاك في الأمر الظاهر، لأن الخوف ظاهر، إذا كانت البلاد محوطة بالعدو خاف أهلها، وامتنعوا عن الخروج، وبقوا في ملاجئهم، فذكرهم الله بهذه النعمة (( أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )): وآمن مكان في الأرض هو مكة، ولذلك لا يقطع شجرها، ولا يحش حشيشها، ولا تلتقط ساقطتها، ولا يصاد صيدها، ولا يُسفك فيها دم، وهذه الخصائص لا توجد في البلاد الأخرى، حتى المدينة محرمة ولها حرم لكن حرمها دون حرم مكة بكثير:
حرم مكة لا يمكن يأتيه أحد من المسلمين لم يأته أول مرة إلا محرماً يجب عليه أن يحرم، والمدينة ليست كذلك.
حرم مكة يحرم حَشيشه وشجره مطلقاً، وأما حرم المدينة فرخص في بعض شجره للحرث ونحوه.
صيد مكة حرام وفيه الجزاء، وصيد المدينة ليس فيه جزاء.
المهم أن أعظم مكان آمن هو مكة، حتى الأشجار آمنة فيه، وحتى الصيود آمنة فيه.
ولولا أن الله تعالى يسر على عباده لكان حتى البهائم يعني قصدي: حتى بهيمة الأنعام التي ليست صيوداً لكن الله تعالى رحم العباد وأذن لهم بأن يذبحوا وينحروا في هذا المكان.
وهذه النعمة ذكرهم الله بها في قوله: (( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ )) يعني: أفلا يشكرون الله على هذا؟!
فهذه السورة كما ترى كلها تذكير لقريش بما أنعم الله عليهم في هذا البيت العظيم، وفي الأمن من الخوف، وفي الإطعام من الجوع.
فإذا بلغ أي: ما واجب قريش نحو هذه النعمة، وكذلك ما واجب من حل في مكة الآن من قريش أو غيرهم؟
قلنا: الواجب الشكر لله تعالى، بالقيام بطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه، ولهذا إذا كثرت المعاصي في الحرم فالخطر على أهله أكثر من الخطر الذي على غيرهم، لأن المعصية في مكان فاضل أعظم من المعصية في مكان مفضول، ولهذا قال الله تعالى: (( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )): فتوعد الله تعالى من أراد فيه أي: من همّ فيه بإلحاد فضلاً عمن ألحد.
والواجب على المرء أن يذكر نعمة الله عليه في كل مكان، لا في مكة فحسب، بلادنا ولله الحمد اليوم من آمن بلاد العالم، وهي من أشد بلاد العالم رَغَداً وعيشاً، أطعمها الله تعالى من الجوع وآمنها من الخوف فعلينا أن نشكر هذه النعمة، وأن نتعاون على البر والتقوى، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الدعوة إلى الله على بصيرة وتأني وتثبت، وأن نكون أخوة متآلفين.
والواجب علينا ولا سيما على طلبة العلم إذا اختلفوا بينهم أن يجلسوا للتشاور وللمناقشة الهادئة التي يقصد منها الوصول إلى الحق.
ومتى تبين الحق لإنسان وجب عليه اتباعه، ولا يجوز أن ينتصر لرأيه، لأنه ليس مُشرعاً معصوماً حتى يقول: إن رأيي هو الصواب، وأن ما عداه هو الخطأ، الواجب على الإنسان المؤمن أن يكون كما أراد الله منه: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً )).
أما كون الإنسان ينتصر لرأيه، ويصر على ما هو عليه ولو تبين له أنه باطل، فهذا خطأ، هذا من دأب المشركين الذين أبوا أن يتبعوا الرسل وقالوا: (( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ )).
نسأل الله أن يديم علينا وعليكم نعمة الإسلام، والأمن في الأوطان، وأن يجعلنا إخوة متآلفين على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ونبتدأ الآن بالأسئلة مبتدئين باليمين، على أن لكل واحد سؤال واحد فقط.
أما بعد: فإن هذا هو اللقاء: *لقاء الباب المفتوح* هو اللقاء الثالث بعد المائة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع به، ويقع هذا اللقاء يوم الخميس الحادي عشر من شهر جمادى الأولى عام ستة عشر وأربعمائة وألف.
نتكلم فيه على قول الله تبارك وتعالى: (( لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )):
هذه السورة لها صلة بالسورة التي قبلها، إذ أن السورة التي قبلها فيها بيان منة الله عز وجل على أهل مكة بما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا مكة لهدم الكعبة.
فبين الله في هذه السورة نعمة أخرى كبيرة على أهل مكة، على قريش وهو إيلافهم مرتين في السنة: مرة في الصيف، ومرة في الشتاء.
والإيلاف بمعنى: الجمع والضم ويراد به التجارة التي كانوا يقومون بها مرة في الشتاء ومرة في الصيف:
أما في الشتاء فيتجهون نحو اليمن، للمحصولات الزراعية فيه، ولأن الجو مناسب.
وأما في الصيف فيتجهون إلى الشام، لأن غالب تجارة الفواكه وغيرها تكون في هذا الوقت في الصيف مع مناسبة الجو البارد، فهي نعمة من الله سبحانه وتعالى على قريش في هاتين الرِحلتين، الرحلة الأولى: رحلة الشتاء في أي وقت، ولأي جهة؟
السائل : اليمن.
الشيخ : والثانية رحلة الصيف لجهة الشام.
لما ذكرهم بهذه النعمة وهي نعمة عظيمة، لأنهم يجدون منها فوائد كثيرة ومكاسب كبيرة في هذه التجارة، أمرهم الله عز وجل أن يعبدوا رب البيت عز وجل:
قال: (( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ )): شكراً له على هذه النعمة.
والفاء هذه إما أن تكون فاء السببية، أي: فبسبب هاتين الرحلتين ليعبدوا رب هذا البيت.
أو تكون فاء التفريع، وأياً كانت فهي مبنية على ما سبق، أي: فبهذه النعم العظيمة يجب عليهم أن يعبدوا الله.
والعبادة هي: " التذلل لله عز وجل محبة وتعظيماً "، أن يتعبد الإنسان لله، يتذلل له بالسمع والطاعة، إذا بلغه عن الله ورسوله أمر قال: سمعنا وأطعنا، وإذا بلغه خبر قال: سمعنا وآمنّا.
على وجه المحبة والتعظيم: فبالمحبة يقوم الإنسان بفعل الأوامر، وبالتعظيم يترك النواهي خوفاً من هذا العظيم عز وجل، هذا معنى مِن معاني العبادة.
وتطلق العبادة على نفس المتَعبَّد به، وقد حدها شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المعنى فقال: " إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ".
ولهذا لو سألك سائل: الصلاة ما هي أعبادة أم عادة؟
قلت: عبادة، ولو سألك سائل: أنت الآن تصلي فما معنى صلاتك هذه؟ لقلت: معناها العبادة لله عز وجل، أتعبد لله عز وجل، أتذلل له بالسمع والطاعة وبما أمرني به.
وقوله: (( رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ )) يعني به: الكعبة المعظمة، وقد أضافها الله تعالى إلى نفسه في قوله تعالى: (( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ )).
وهنا أضاف ربوبيته إليه قال: (( رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ )) وهل هو رب لغيره؟
الجواب: نعم، لكن إضافة الربوبية إليه على سبيل التشريف والتعظيم.
طيب (( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ )) أليس كل شيء فهو لله؟
(( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )) كل شيء لله، كل شيء ملكه لله، لماذا أضاف الله البيت إليه؟
تشريفاً وتعظيماً.
إذاً خصصه بالربوبية أي: خصص البيت بالربوبية مرة، وأضافه إلى نفسه مرة أخرى تشريفاً وتعظيماً.
في آية ثانية: (( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا )) وبعدها قال: (( وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ )): احترازاً من أن يتوهم واهم بأنه رب البلدة وحدها، فقال: (( وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ))، ولكل مقام صيغةٌ مناسبة، فبقوله: (( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ )): مناسبة: بيان عموم منكر لئلا يدعي المشركون أنه رب للبلدة فقط، أما هنا فالمقام مقام تعظيم للبيت، فناسب ذكرُه وحده.
(( الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )): الذي: هذه صفة لرب أو للبيت؟
الطالب : لرب.
الشيخ : لرب، إذاً محلها النصب، ولهذا يحسن أن تقف فتقول: (( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ )) ثم تقول: (( الَّذِي أَطْعَمَهُمْ )) لأنك لو وصلت فقلت: (( رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ )) لظن السامع أن الذي، صفة للبيت، وهذا بعيد من المعنى ولا يستقيم بالمعنى.
(( الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )): بيَّن الله تعالى نعمته عليهم، النعمة الظاهرة والباطنة: فإطعامهم من الجوع وقاية من الهلاك في أمر باطن وهو الطعام الذي يأكلونه.
(( وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )) وقاية من الهلاك في الأمر الظاهر، لأن الخوف ظاهر، إذا كانت البلاد محوطة بالعدو خاف أهلها، وامتنعوا عن الخروج، وبقوا في ملاجئهم، فذكرهم الله بهذه النعمة (( أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ )): وآمن مكان في الأرض هو مكة، ولذلك لا يقطع شجرها، ولا يحش حشيشها، ولا تلتقط ساقطتها، ولا يصاد صيدها، ولا يُسفك فيها دم، وهذه الخصائص لا توجد في البلاد الأخرى، حتى المدينة محرمة ولها حرم لكن حرمها دون حرم مكة بكثير:
حرم مكة لا يمكن يأتيه أحد من المسلمين لم يأته أول مرة إلا محرماً يجب عليه أن يحرم، والمدينة ليست كذلك.
حرم مكة يحرم حَشيشه وشجره مطلقاً، وأما حرم المدينة فرخص في بعض شجره للحرث ونحوه.
صيد مكة حرام وفيه الجزاء، وصيد المدينة ليس فيه جزاء.
المهم أن أعظم مكان آمن هو مكة، حتى الأشجار آمنة فيه، وحتى الصيود آمنة فيه.
ولولا أن الله تعالى يسر على عباده لكان حتى البهائم يعني قصدي: حتى بهيمة الأنعام التي ليست صيوداً لكن الله تعالى رحم العباد وأذن لهم بأن يذبحوا وينحروا في هذا المكان.
وهذه النعمة ذكرهم الله بها في قوله: (( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ )) يعني: أفلا يشكرون الله على هذا؟!
فهذه السورة كما ترى كلها تذكير لقريش بما أنعم الله عليهم في هذا البيت العظيم، وفي الأمن من الخوف، وفي الإطعام من الجوع.
فإذا بلغ أي: ما واجب قريش نحو هذه النعمة، وكذلك ما واجب من حل في مكة الآن من قريش أو غيرهم؟
قلنا: الواجب الشكر لله تعالى، بالقيام بطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه، ولهذا إذا كثرت المعاصي في الحرم فالخطر على أهله أكثر من الخطر الذي على غيرهم، لأن المعصية في مكان فاضل أعظم من المعصية في مكان مفضول، ولهذا قال الله تعالى: (( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )): فتوعد الله تعالى من أراد فيه أي: من همّ فيه بإلحاد فضلاً عمن ألحد.
والواجب على المرء أن يذكر نعمة الله عليه في كل مكان، لا في مكة فحسب، بلادنا ولله الحمد اليوم من آمن بلاد العالم، وهي من أشد بلاد العالم رَغَداً وعيشاً، أطعمها الله تعالى من الجوع وآمنها من الخوف فعلينا أن نشكر هذه النعمة، وأن نتعاون على البر والتقوى، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الدعوة إلى الله على بصيرة وتأني وتثبت، وأن نكون أخوة متآلفين.
والواجب علينا ولا سيما على طلبة العلم إذا اختلفوا بينهم أن يجلسوا للتشاور وللمناقشة الهادئة التي يقصد منها الوصول إلى الحق.
ومتى تبين الحق لإنسان وجب عليه اتباعه، ولا يجوز أن ينتصر لرأيه، لأنه ليس مُشرعاً معصوماً حتى يقول: إن رأيي هو الصواب، وأن ما عداه هو الخطأ، الواجب على الإنسان المؤمن أن يكون كما أراد الله منه: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً )).
أما كون الإنسان ينتصر لرأيه، ويصر على ما هو عليه ولو تبين له أنه باطل، فهذا خطأ، هذا من دأب المشركين الذين أبوا أن يتبعوا الرسل وقالوا: (( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ )).
نسأل الله أن يديم علينا وعليكم نعمة الإسلام، والأمن في الأوطان، وأن يجعلنا إخوة متآلفين على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ونبتدأ الآن بالأسئلة مبتدئين باليمين، على أن لكل واحد سؤال واحد فقط.