تفسير سورة الفاتحة الآيات (4-7) وآيات أخرى مختارة وما يستفاد من الآيات . حفظ
الشيخ : الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الثالث عشر بعد المائة من لقاء الباب المفتوح الذي يتم كل يوم خميس، وهذا هو الخميس التاسع والعشرون من شهر رجب عام ستة عشر وأربعمائة وألف.
نفتتح هذا اللقاء بإكمال سورة الفاتحة حيث تكلمنا على ثلاث آيات منها وهي قوله تبارك وتعالى: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )).
قال الله عز وجل: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) الجملتان فيهما حصر، فمعنى: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )) أي: لا نعبد إلا إياك، (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) لا نستعين إلا إياك، وطريق الحصر أنه قدم المعمول وحقه التأخير، وكلما قُدِّم ما حقه التأخير فإنه يفيد الحصر، هكذا في اللغة العربية كما نص على ذلك أهل البلاغة وأهل النحو.
فما معنى العبادة التي قال الله عنها: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ))؟ العبادة: هي التذلل لله عز وجل والخضوع له بامتثال أوامره، باجتناب نواهيه، تصديق أخباره، تعظيمه، محبته، إلى غير ذلك من أنواع العبادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ".
فالطهارة عبادة، والصلاة عبادة، والصدقة عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، والنذر عبادة، والتوكل -وهو التفويض المطلق- عبادة، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي ذكرها أهل العلم، والإنسان العابد يشعر بأنه عبد لسيده وإلهه، إذا أمره قال: سمعنا وأطعنا.
ومن تمام العبودية: الحب في الله والبغض في الله، فإن هذا أوثق عرى الإيمان أن تحب لله وتبغض لله، وتوالي لله وتعادي لله، فمن كان من عباد الله الصالحين فهو حبيبك في أي مكان من الأرض، وفي أي زمن من الأزمنة، حتى الذين آمنوا بموسى من بني إسرائيل، والذين آمنوا بعيسى من بني إسرائيل هم أحبابنا وإخواننا.
يعني: لا تظنوا أن الحبيب أو الأخ ومن كان من هذه الأمة، كل من كان مسلماً في أي زمان وفي أي مكان فإنه أخ لنا، لأن هذا مقتضى العبادة، الحب في الله والبغض في الله، والولاء في الله والمعادة في الله عز وجل، هذا من تمام العبادة.
من تمام العبادة: أن الله إذا أمر بأمر تقول: سمعنا وأطعنا، بعض الناس الآن إذا قلت: أمر الله بكذا أو أمر الرسول بكذا قال: هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ سبحان الله! هل كان الصحابة يستفهمون مثل هذا الاستفهام إذا أمرهم الله بشيء أو أمرهم الرسول بشيء، يقول: هل هو للاستحباب وللوجوب؟! يقول: سمعنا وأطعنا.
نعم إذا وقع الإنسان في المخالفة فحينئذٍ يتوجه هذا السؤال أن يقال: هل هذا للوجوب ويحتاج إلى فدية أو كفارة أو ما أشبه ذلك؟ إذا نهى الله ورسوله عن شيء يقول لك: هل النهي للكراهة ولا للتحريم؟ سبحان الله! إذا نهى عن شيء قل: سمعنا وأطعنا، تجنب.
ولهذا لا يستطيع أحد أن يأتي بحرف واحد عن الصحابة أنهم إذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء قالوا: هل أنت تأمرنا على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب؟ إذا نهاهم عن شيء قال: هل أنت تنهانا على سبيل التحريم أو على سبيل التنزيه؟ أبداً، نعم إذا حصل شيء يوجب الاستفهام استفهموا.
مثل: قضية بريرة رضي الله عنها، فإنها لما عتقت وكان زوجها رقيقاً، قال لها الرسول عليه الصلاة والسلام: ( أنت بالخيار إن شئت أن تبقي معه، فابقي معه وإن شئت أن تفسخي النكاح فافسخي النكاح، فقالت: أختار نفسي وأفسخ النكاح، ففسخت النكاح ) وكان زوجها مغيث يحبها حباً شديداً وهي تكرهه كراهة شديدة، فكان يمشي خلفها في أسواق المدينة يسألها أن ترجع وأن تعدل عن رأيها، ولكنها تأبى، فطلب مغيث من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع له، فشفع له لعله يرجع إليها، قالت: ( يا رسول الله أتأمرني؟ فسمعاً وطاعة، أم أمر تشير به عليَّ فلا حاجة لي فيه، قال: بل أمر أشير به عليكِ، قالت: لا حاجة لي فيه ) .
وكذلك إذا دلت القرينة على أن الأمر ليس للوجوب مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام لـجابر بن عبد الله: بعني الجمل ( بعنيه بأوقية ) فجعل يماكسه حتى اشتراه الرسول عليه الصلاة والسلام، المهم أن الأمر الشرعي لا يمكن للصحابة أن يقولوا: يا رسول الله هل هو أمر استحباب أو أمر وجوب.
فمن تمام التعبد أنك إذا سمعت بأمر الله ورسوله لا تتردد، لا تقل: للوجوب أو للاستحباب، قل: سمعنا وأطعنا، وافعل ستؤجر، كذلك إذا سمعت النهي لا تتردد لا تقل: هل هو للتحريم فأجتنبه وجوباً، أو للكراهة فأجتنبه تنزهاً، قل: سمعنا وأطعنا، لكن قلت لكم الآن: إلا إذا وقع الإنسان في المخالفة، فحينئذٍ يسأل: هل هو واجب أو محرم لأجل أن يستدرك ما فاته، المهم أن من تمام العبادة تمام الامتثال، بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
(( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) معنى نستعين، أي: نطلب العون من الله، والاستعانة تقع على وجهين: الوجه الأول: استعانة عبادة، بمعنى: أن الإنسان يفوض أمره إلى الله، ويعلم أنه لا قدرة له على أي شيء إلا بمعونة الله، أفهمت يا أخ؟ ما فهمت ؟ ما يصير هذا الحاضر يحضر بقلبه وبدنه.
الاستعانة استعانتان :
استعانة عبادة وهي أن يفوض الإنسان أمره إلى من استعان به تفويضاً تاماً ويعلم أنه لا طاقة له بهذا الشيء إلا بمعونة من استعانه، هذه لا تكون إلا لله.
استعانة بأمر يقدر عليه المعين، والإنسان لا يرى أنه يفوض أمره إلى هذا المستعان به، ولكن يرى أنه من باب المساعدة، هذا جائز، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة ) تعينه، فأثبت الإعانة من المخلوق للمخلوق.
(( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) ما المراد بالاستعانة هنا؟ الاستعانة التي لا تصلح إلا لله أم التي تصلح لله وللمخلوق؟ المراد الأول، الاستعانة التي فيها التفويض المطلق وأنه لا قدرة للمستعين على أي شيء إلا بمعونة، هذه الاستعانة به وهذه لا تكون إلا لله عز وجل.
(( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )) اهدنا الهداية تكون بمعنى الدلالة، وتكون بمعنى التوفيق، فأي المعنيين هنا يريد الداعي: هداية التوفيق أو هداية الدلالة، أو كلتيهما؟
الطالب : كلتيهما.
الشيخ : كلتيهما، يريد هداية الدلالة يعني: العلم، هداية التوفيق يعني: التزام الصراط المستقيم، ومعلوم أن الإنسان لا يستطيع أن يلتزم الصراط المستقيم إلا بعلم، كيف يعبد الله على جهل؟! لا يمكن لا بد أن يهديه الله، يدله أولاً ثم يوفقه ثانياً.
قول الله عز وجل: (( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) يخاطب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما المراد بالهداية هنا؟ هداية الدلالة والإرشاد والبيان، وقوله: (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ )) هداية التوفيق، يعني: لا تستطيع أن توفق أحد للهدى أبداً، لا يستطيع ذلك إلا الله وحده، قوله تعالى: (( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى )) هداية الدلالة، دلهم الله على الحق، وبين لهم رسولهم الحق ولكنهم: استحبوا العمى على الهدى (( فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ )).
المهم أن الهداية نوعان: هداية الدلالة، وهداية التوفيق.
هداية الدلالة تكون بالعلم، هداية التوفيق تكون بالسير على الصراط المستقيم.
وقول المصلي أو الداعي بهذه الآية الكريمة: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )) يعني: هداية إيش؟ الدلالة والتوفيق، فيكون هذا الدعاء شاملاً للعلم بالحق، والعمل بالحق.
وقوله: (( الصِّرَاطَ )) يقول أهل اللغة: إن الصراط لا يطلق على الطريق إلا إذا كان واسعاً، أما الطريق الضيق فليس بصراط، ووجه ذلك في المعنى: أن الصراط والزراط والسراط كلها تدل على سعة وسهولة نفوذ، يقال: زرط الرجل اللقمة.
يعني: ابتلعها بسرعة وسهولة، هنا الصراط يعني: الطريق الواسع الذي يمضي به الإنسان من غير تعب ولا مشقة.
لكن الصراط قد يكون مائلاً، وقد يكون فيه مرتفعات ومنخفضات، فلهذا قال: (( الْمُسْتَقِيمَ )) يعني: الذي لا اعوجاج فيه وليس فيه منخفض ولا مرتفع، لأن الطريق المعوج يعوق.
مثلاً: إذا كان بينك وبين البلدة في خط مستقيم عشرين كيلو، يكون بينك وبينها في خط معوج ثلاثون كيلو أو أكثر حسب كثرة الاعوجاج،0كذلك في المنخفضات والمرتفعات، إذا كانت الطريق سوياً فإنك تصل إلى ما تريد بسرعة، لكن إذا كان مرة في الأعلى ومرة في الأسفل زاد عليك الطريق، فالمستقيم إذن هو المستوي المعتدل، فخرج به إيش؟ المعوج وما فيه انخفاض وارتفاع.
فما المراد بالصراط المستقيم هنا: هل المراد الصراط المستقيم الحسي أو المراد المعنوي؟ المراد المعنوي ليس الحسي، أما في قول موسى عليه الصلاة والسلام: (( عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ )) فالمراد به الحسي، ولهذا هداه الله عز وجل إلى سواء السبيل، لكن هنا الصراط المعنوي، والصراط المعنوي بينه بقوله: (( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )) يعني: أنعمت عليهم النعمة التامة التي يكون فيها نعمة الدين والدنيا، فمَن هؤلاء؟ قال الله تعالى: (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ )) أربعة أصناف هم الذين أنعم الله عليهم، وهم على مراتبهم هذه: الأول: قال: (( مِنَ النَّبِيِّينَ )) والنبيون هنا يشمل المرسلين، لأن الرسول نبي، والرسل أعلى طبقة من الأنبياء، وأولو العزم أعلى طبقة من غيرهم، ومحمد أعلى ذوي العزم طبقة.
فإذن: النبيون يشمل في الطبقات المرسلون نعم أعلى من النبيين، أولو العزم أعلى من بقية الرسل، محمد أعلى طبقة من أولي العزم في أولي العزم.
هل أنت تستحضر وأنت تقرأ هذه الآية هل تستحضر هؤلاء السادة؟ أجيبوا بصراحة ؟
الطالب : أحياناً .
الشيخ : أحياناً وأحياناً، لكن لا بد أن يكون في قلبك ذكر لهؤلاء السادة.
طيب الصديقون، الصديقون هم الذين بلغوا في الصدق غايته في تصديق ما أنزل الله على رسوله، وقاموا بذلك وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
الطالب : ...
الشيخ : على أرس الصديقين الصديق أبو بكر، كيف عرفنا أنه على رأس الصديقين؟ لأن هناك حواريون وأنصار للرسل السابقين، فكيف عرفنا أن أبا بكر هو أفضلهم؟ عرفنا ذلك لأن هذه الأمة أفضل الأمم: (( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )) وأن أفضل هذه الأمة هو أبو بكر باتفاق الصحابة، فقد كان الصحابة يقولون على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ( خير هذه الأمة أبو بكر ثم عمر ) حتى علي بن أبي طالب كان يعلن على منبر الكوفة بعد أن كان خليفة يقول: " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر " وبذلك نعرف كذب الرافضة الذين ادعوا أن أبا بكر ليس خليفة وأنه ظالم ظالم لعلي، لأن علي عندهم هو الخليفة، فيقال: لماذا لم يعلن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين كان خليفة لم يعلن أنه مظلوم بل أعلن أن ما جرى هو العدل؟ لأنه أقر واعترف بأن خير هذه الأمة أبو بكر ، وهذا إقرار بفضله وبأحقيته للخلافة، لأنه لا يولى على القوم إلا أفضلهم وخيرهم.
على كل حال: نحن نقول: الصنف الثاني أو الطبقة الثانية من الخلق هم الصديقون.
الشهداء، الشهداء يشمل شهداء المعركة، وهم الذين قتلوا في سبيل الله، ومَن الذي قُتل في سبيل الله؟ هو الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا خاصة، فمن قاتل للقومية فهو خاسر، ومن قاتل للوطنية فهو خاسر، ومن قاتل ليرى مكانه فهو خاسر، ومن قاتل رياءً فهو خاسر، المقاتل الذي إذا قُتل فهو شهيد هو الذي قاتل لهذا الغرض لتكون كلمة الله هي العليا، هذا هو المقاتل في سبيل الله وهو الشهيد، وقد ( سئل النبي صلى الله عليه وسلم: عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) يعني: وهؤلاء ليسوا في سبيل الله، ولهذا جاء في الحديث: ( ما من مكلوم يكلم ) يعني: ما من مجروح يجرح في الجهاد ( والله أعلم بمن يكلم في سبيله ) الجملة هذه مهمة، يعني ما كل من قتل في الجهاد يكون عند الله شهيداً، قد يكون في رأينا شهيداً، ولكنه عند الله ليس بشهيد، لأنه قال: ( الله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة لونه -يعني: لون دمه- لون لون الدم، وريحه ريح المسك ) .
الشهداء يشمل أيضاً أهل العلم، فإن العلماء من الشهداء قال الله تعالى: (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) لكن مَن هم أولي العلم الذين يكونون من الشهداء؟ هم أولي العلم الذين يطلبون العلم لله، والذين إذا بان لهم الحق تبعوه، والذين لا يخرجون عن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ليس العالم القارئ، ولهذا قال عبد الله بن مسعود: " كيف بكم إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم " يعني: لو وجدنا شخصاً بحراً في العلم، إن جئته في التفسير فإذا هو بحر، في الحديث بحر، في الفقه بحر، كل فن هو بحر، لكنه لا يعمل بعلمه، ولا يتبع طريق السلف فهذا ليس من أولي العلم، يقول الله عز وجل في المنافقين: (( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ )) ليش تسمع لأنه فصاحة وبيان، وهم في مظهر يعجبه، لكنهم لا خير فيهم: (( كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ )) .
فالحاصل أن الشهداء يشمل طائفتين من الناس: الأول: من قتل في سبيل الله.
والثاني: العلماء، العلماء حقيقة.
والصالحين: هم الطبقة الأخيرة، وهم عامة المسلمين والمؤمنين، فأنت تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهؤلاء يجمعهم معنى واحد: ألا وهو العلم بالحق والعمل به، كل هؤلاء الأصناف الأربعة يجمعهم شيء واحد وهو العلم بالحق والعمل به
قال: (( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )) هذان صنفان مخالفان للذين أنعم الله عليهم.
قلنا: الذين أنعم الله عليهم قلنا أنهم يجمعهم شيء واحد وهو العلم بالحق والعمل به، هؤلاء الصنفان أعني: (( غير المغضوب عليهم ولا الضالين )) على عكس من ذلك، فالمغضوب عليهم، علموا بالحق ولم يعملوا به، وعلى رأسهم اليهود علموا الحق ولم يعملوا به، والضالون هم الذين لم يعلموا الحق، يعني: عبدوا الله على جهل، وعلى رأسهم النصارى قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، أما بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام فالنصارى واليهود سواء، لأنهم علموا الحق ولم يعملوا به، فكما أن اليهود علموا بصحة نبوة عيسى ولكنهم لم يتبعوه، هكذا النصارى علموا بصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه، إذن لا فرق بينهم وبين اليهود فالجميع بعد بعثة الرسول مغضوب عليهم.
وهنا يقال: لماذا قال: (( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ )) مع أنه قال: (( الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ))؟ لأن النعمة من الله، والغضب يكون من الله ومن غيره، فإذا غضب الله على أحد فكل المؤمنين بالله يغضبون عليه، ولهذا اليهود مغضوب عليهم من قبل الله ومن قبل الرسل ومن قبل الصديقين والشهداء والصالحين.
نسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
الآن إلى الأسئلة نبدأ من اليمين، والضيف مقدم على صاحب البيت .
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الثالث عشر بعد المائة من لقاء الباب المفتوح الذي يتم كل يوم خميس، وهذا هو الخميس التاسع والعشرون من شهر رجب عام ستة عشر وأربعمائة وألف.
نفتتح هذا اللقاء بإكمال سورة الفاتحة حيث تكلمنا على ثلاث آيات منها وهي قوله تبارك وتعالى: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )).
قال الله عز وجل: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) الجملتان فيهما حصر، فمعنى: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )) أي: لا نعبد إلا إياك، (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) لا نستعين إلا إياك، وطريق الحصر أنه قدم المعمول وحقه التأخير، وكلما قُدِّم ما حقه التأخير فإنه يفيد الحصر، هكذا في اللغة العربية كما نص على ذلك أهل البلاغة وأهل النحو.
فما معنى العبادة التي قال الله عنها: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ))؟ العبادة: هي التذلل لله عز وجل والخضوع له بامتثال أوامره، باجتناب نواهيه، تصديق أخباره، تعظيمه، محبته، إلى غير ذلك من أنواع العبادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ".
فالطهارة عبادة، والصلاة عبادة، والصدقة عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، والنذر عبادة، والتوكل -وهو التفويض المطلق- عبادة، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي ذكرها أهل العلم، والإنسان العابد يشعر بأنه عبد لسيده وإلهه، إذا أمره قال: سمعنا وأطعنا.
ومن تمام العبودية: الحب في الله والبغض في الله، فإن هذا أوثق عرى الإيمان أن تحب لله وتبغض لله، وتوالي لله وتعادي لله، فمن كان من عباد الله الصالحين فهو حبيبك في أي مكان من الأرض، وفي أي زمن من الأزمنة، حتى الذين آمنوا بموسى من بني إسرائيل، والذين آمنوا بعيسى من بني إسرائيل هم أحبابنا وإخواننا.
يعني: لا تظنوا أن الحبيب أو الأخ ومن كان من هذه الأمة، كل من كان مسلماً في أي زمان وفي أي مكان فإنه أخ لنا، لأن هذا مقتضى العبادة، الحب في الله والبغض في الله، والولاء في الله والمعادة في الله عز وجل، هذا من تمام العبادة.
من تمام العبادة: أن الله إذا أمر بأمر تقول: سمعنا وأطعنا، بعض الناس الآن إذا قلت: أمر الله بكذا أو أمر الرسول بكذا قال: هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ سبحان الله! هل كان الصحابة يستفهمون مثل هذا الاستفهام إذا أمرهم الله بشيء أو أمرهم الرسول بشيء، يقول: هل هو للاستحباب وللوجوب؟! يقول: سمعنا وأطعنا.
نعم إذا وقع الإنسان في المخالفة فحينئذٍ يتوجه هذا السؤال أن يقال: هل هذا للوجوب ويحتاج إلى فدية أو كفارة أو ما أشبه ذلك؟ إذا نهى الله ورسوله عن شيء يقول لك: هل النهي للكراهة ولا للتحريم؟ سبحان الله! إذا نهى عن شيء قل: سمعنا وأطعنا، تجنب.
ولهذا لا يستطيع أحد أن يأتي بحرف واحد عن الصحابة أنهم إذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء قالوا: هل أنت تأمرنا على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب؟ إذا نهاهم عن شيء قال: هل أنت تنهانا على سبيل التحريم أو على سبيل التنزيه؟ أبداً، نعم إذا حصل شيء يوجب الاستفهام استفهموا.
مثل: قضية بريرة رضي الله عنها، فإنها لما عتقت وكان زوجها رقيقاً، قال لها الرسول عليه الصلاة والسلام: ( أنت بالخيار إن شئت أن تبقي معه، فابقي معه وإن شئت أن تفسخي النكاح فافسخي النكاح، فقالت: أختار نفسي وأفسخ النكاح، ففسخت النكاح ) وكان زوجها مغيث يحبها حباً شديداً وهي تكرهه كراهة شديدة، فكان يمشي خلفها في أسواق المدينة يسألها أن ترجع وأن تعدل عن رأيها، ولكنها تأبى، فطلب مغيث من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع له، فشفع له لعله يرجع إليها، قالت: ( يا رسول الله أتأمرني؟ فسمعاً وطاعة، أم أمر تشير به عليَّ فلا حاجة لي فيه، قال: بل أمر أشير به عليكِ، قالت: لا حاجة لي فيه ) .
وكذلك إذا دلت القرينة على أن الأمر ليس للوجوب مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام لـجابر بن عبد الله: بعني الجمل ( بعنيه بأوقية ) فجعل يماكسه حتى اشتراه الرسول عليه الصلاة والسلام، المهم أن الأمر الشرعي لا يمكن للصحابة أن يقولوا: يا رسول الله هل هو أمر استحباب أو أمر وجوب.
فمن تمام التعبد أنك إذا سمعت بأمر الله ورسوله لا تتردد، لا تقل: للوجوب أو للاستحباب، قل: سمعنا وأطعنا، وافعل ستؤجر، كذلك إذا سمعت النهي لا تتردد لا تقل: هل هو للتحريم فأجتنبه وجوباً، أو للكراهة فأجتنبه تنزهاً، قل: سمعنا وأطعنا، لكن قلت لكم الآن: إلا إذا وقع الإنسان في المخالفة، فحينئذٍ يسأل: هل هو واجب أو محرم لأجل أن يستدرك ما فاته، المهم أن من تمام العبادة تمام الامتثال، بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
(( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) معنى نستعين، أي: نطلب العون من الله، والاستعانة تقع على وجهين: الوجه الأول: استعانة عبادة، بمعنى: أن الإنسان يفوض أمره إلى الله، ويعلم أنه لا قدرة له على أي شيء إلا بمعونة الله، أفهمت يا أخ؟ ما فهمت ؟ ما يصير هذا الحاضر يحضر بقلبه وبدنه.
الاستعانة استعانتان :
استعانة عبادة وهي أن يفوض الإنسان أمره إلى من استعان به تفويضاً تاماً ويعلم أنه لا طاقة له بهذا الشيء إلا بمعونة من استعانه، هذه لا تكون إلا لله.
استعانة بأمر يقدر عليه المعين، والإنسان لا يرى أنه يفوض أمره إلى هذا المستعان به، ولكن يرى أنه من باب المساعدة، هذا جائز، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة ) تعينه، فأثبت الإعانة من المخلوق للمخلوق.
(( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) ما المراد بالاستعانة هنا؟ الاستعانة التي لا تصلح إلا لله أم التي تصلح لله وللمخلوق؟ المراد الأول، الاستعانة التي فيها التفويض المطلق وأنه لا قدرة للمستعين على أي شيء إلا بمعونة، هذه الاستعانة به وهذه لا تكون إلا لله عز وجل.
(( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )) اهدنا الهداية تكون بمعنى الدلالة، وتكون بمعنى التوفيق، فأي المعنيين هنا يريد الداعي: هداية التوفيق أو هداية الدلالة، أو كلتيهما؟
الطالب : كلتيهما.
الشيخ : كلتيهما، يريد هداية الدلالة يعني: العلم، هداية التوفيق يعني: التزام الصراط المستقيم، ومعلوم أن الإنسان لا يستطيع أن يلتزم الصراط المستقيم إلا بعلم، كيف يعبد الله على جهل؟! لا يمكن لا بد أن يهديه الله، يدله أولاً ثم يوفقه ثانياً.
قول الله عز وجل: (( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) يخاطب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما المراد بالهداية هنا؟ هداية الدلالة والإرشاد والبيان، وقوله: (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ )) هداية التوفيق، يعني: لا تستطيع أن توفق أحد للهدى أبداً، لا يستطيع ذلك إلا الله وحده، قوله تعالى: (( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى )) هداية الدلالة، دلهم الله على الحق، وبين لهم رسولهم الحق ولكنهم: استحبوا العمى على الهدى (( فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ )).
المهم أن الهداية نوعان: هداية الدلالة، وهداية التوفيق.
هداية الدلالة تكون بالعلم، هداية التوفيق تكون بالسير على الصراط المستقيم.
وقول المصلي أو الداعي بهذه الآية الكريمة: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )) يعني: هداية إيش؟ الدلالة والتوفيق، فيكون هذا الدعاء شاملاً للعلم بالحق، والعمل بالحق.
وقوله: (( الصِّرَاطَ )) يقول أهل اللغة: إن الصراط لا يطلق على الطريق إلا إذا كان واسعاً، أما الطريق الضيق فليس بصراط، ووجه ذلك في المعنى: أن الصراط والزراط والسراط كلها تدل على سعة وسهولة نفوذ، يقال: زرط الرجل اللقمة.
يعني: ابتلعها بسرعة وسهولة، هنا الصراط يعني: الطريق الواسع الذي يمضي به الإنسان من غير تعب ولا مشقة.
لكن الصراط قد يكون مائلاً، وقد يكون فيه مرتفعات ومنخفضات، فلهذا قال: (( الْمُسْتَقِيمَ )) يعني: الذي لا اعوجاج فيه وليس فيه منخفض ولا مرتفع، لأن الطريق المعوج يعوق.
مثلاً: إذا كان بينك وبين البلدة في خط مستقيم عشرين كيلو، يكون بينك وبينها في خط معوج ثلاثون كيلو أو أكثر حسب كثرة الاعوجاج،0كذلك في المنخفضات والمرتفعات، إذا كانت الطريق سوياً فإنك تصل إلى ما تريد بسرعة، لكن إذا كان مرة في الأعلى ومرة في الأسفل زاد عليك الطريق، فالمستقيم إذن هو المستوي المعتدل، فخرج به إيش؟ المعوج وما فيه انخفاض وارتفاع.
فما المراد بالصراط المستقيم هنا: هل المراد الصراط المستقيم الحسي أو المراد المعنوي؟ المراد المعنوي ليس الحسي، أما في قول موسى عليه الصلاة والسلام: (( عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ )) فالمراد به الحسي، ولهذا هداه الله عز وجل إلى سواء السبيل، لكن هنا الصراط المعنوي، والصراط المعنوي بينه بقوله: (( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )) يعني: أنعمت عليهم النعمة التامة التي يكون فيها نعمة الدين والدنيا، فمَن هؤلاء؟ قال الله تعالى: (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ )) أربعة أصناف هم الذين أنعم الله عليهم، وهم على مراتبهم هذه: الأول: قال: (( مِنَ النَّبِيِّينَ )) والنبيون هنا يشمل المرسلين، لأن الرسول نبي، والرسل أعلى طبقة من الأنبياء، وأولو العزم أعلى طبقة من غيرهم، ومحمد أعلى ذوي العزم طبقة.
فإذن: النبيون يشمل في الطبقات المرسلون نعم أعلى من النبيين، أولو العزم أعلى من بقية الرسل، محمد أعلى طبقة من أولي العزم في أولي العزم.
هل أنت تستحضر وأنت تقرأ هذه الآية هل تستحضر هؤلاء السادة؟ أجيبوا بصراحة ؟
الطالب : أحياناً .
الشيخ : أحياناً وأحياناً، لكن لا بد أن يكون في قلبك ذكر لهؤلاء السادة.
طيب الصديقون، الصديقون هم الذين بلغوا في الصدق غايته في تصديق ما أنزل الله على رسوله، وقاموا بذلك وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
الطالب : ...
الشيخ : على أرس الصديقين الصديق أبو بكر، كيف عرفنا أنه على رأس الصديقين؟ لأن هناك حواريون وأنصار للرسل السابقين، فكيف عرفنا أن أبا بكر هو أفضلهم؟ عرفنا ذلك لأن هذه الأمة أفضل الأمم: (( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )) وأن أفضل هذه الأمة هو أبو بكر باتفاق الصحابة، فقد كان الصحابة يقولون على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ( خير هذه الأمة أبو بكر ثم عمر ) حتى علي بن أبي طالب كان يعلن على منبر الكوفة بعد أن كان خليفة يقول: " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر " وبذلك نعرف كذب الرافضة الذين ادعوا أن أبا بكر ليس خليفة وأنه ظالم ظالم لعلي، لأن علي عندهم هو الخليفة، فيقال: لماذا لم يعلن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين كان خليفة لم يعلن أنه مظلوم بل أعلن أن ما جرى هو العدل؟ لأنه أقر واعترف بأن خير هذه الأمة أبو بكر ، وهذا إقرار بفضله وبأحقيته للخلافة، لأنه لا يولى على القوم إلا أفضلهم وخيرهم.
على كل حال: نحن نقول: الصنف الثاني أو الطبقة الثانية من الخلق هم الصديقون.
الشهداء، الشهداء يشمل شهداء المعركة، وهم الذين قتلوا في سبيل الله، ومَن الذي قُتل في سبيل الله؟ هو الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا خاصة، فمن قاتل للقومية فهو خاسر، ومن قاتل للوطنية فهو خاسر، ومن قاتل ليرى مكانه فهو خاسر، ومن قاتل رياءً فهو خاسر، المقاتل الذي إذا قُتل فهو شهيد هو الذي قاتل لهذا الغرض لتكون كلمة الله هي العليا، هذا هو المقاتل في سبيل الله وهو الشهيد، وقد ( سئل النبي صلى الله عليه وسلم: عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) يعني: وهؤلاء ليسوا في سبيل الله، ولهذا جاء في الحديث: ( ما من مكلوم يكلم ) يعني: ما من مجروح يجرح في الجهاد ( والله أعلم بمن يكلم في سبيله ) الجملة هذه مهمة، يعني ما كل من قتل في الجهاد يكون عند الله شهيداً، قد يكون في رأينا شهيداً، ولكنه عند الله ليس بشهيد، لأنه قال: ( الله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة لونه -يعني: لون دمه- لون لون الدم، وريحه ريح المسك ) .
الشهداء يشمل أيضاً أهل العلم، فإن العلماء من الشهداء قال الله تعالى: (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) لكن مَن هم أولي العلم الذين يكونون من الشهداء؟ هم أولي العلم الذين يطلبون العلم لله، والذين إذا بان لهم الحق تبعوه، والذين لا يخرجون عن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ليس العالم القارئ، ولهذا قال عبد الله بن مسعود: " كيف بكم إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم " يعني: لو وجدنا شخصاً بحراً في العلم، إن جئته في التفسير فإذا هو بحر، في الحديث بحر، في الفقه بحر، كل فن هو بحر، لكنه لا يعمل بعلمه، ولا يتبع طريق السلف فهذا ليس من أولي العلم، يقول الله عز وجل في المنافقين: (( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ )) ليش تسمع لأنه فصاحة وبيان، وهم في مظهر يعجبه، لكنهم لا خير فيهم: (( كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ )) .
فالحاصل أن الشهداء يشمل طائفتين من الناس: الأول: من قتل في سبيل الله.
والثاني: العلماء، العلماء حقيقة.
والصالحين: هم الطبقة الأخيرة، وهم عامة المسلمين والمؤمنين، فأنت تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهؤلاء يجمعهم معنى واحد: ألا وهو العلم بالحق والعمل به، كل هؤلاء الأصناف الأربعة يجمعهم شيء واحد وهو العلم بالحق والعمل به
قال: (( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )) هذان صنفان مخالفان للذين أنعم الله عليهم.
قلنا: الذين أنعم الله عليهم قلنا أنهم يجمعهم شيء واحد وهو العلم بالحق والعمل به، هؤلاء الصنفان أعني: (( غير المغضوب عليهم ولا الضالين )) على عكس من ذلك، فالمغضوب عليهم، علموا بالحق ولم يعملوا به، وعلى رأسهم اليهود علموا الحق ولم يعملوا به، والضالون هم الذين لم يعلموا الحق، يعني: عبدوا الله على جهل، وعلى رأسهم النصارى قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، أما بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام فالنصارى واليهود سواء، لأنهم علموا الحق ولم يعملوا به، فكما أن اليهود علموا بصحة نبوة عيسى ولكنهم لم يتبعوه، هكذا النصارى علموا بصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه، إذن لا فرق بينهم وبين اليهود فالجميع بعد بعثة الرسول مغضوب عليهم.
وهنا يقال: لماذا قال: (( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ )) مع أنه قال: (( الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ))؟ لأن النعمة من الله، والغضب يكون من الله ومن غيره، فإذا غضب الله على أحد فكل المؤمنين بالله يغضبون عليه، ولهذا اليهود مغضوب عليهم من قبل الله ومن قبل الرسل ومن قبل الصديقين والشهداء والصالحين.
نسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
الآن إلى الأسئلة نبدأ من اليمين، والضيف مقدم على صاحب البيت .