تفسير سورة الذاريات الآيات ( 43- 46 ) وآيات اخرى مختارة وما يستفاد منها . حفظ
الشيخ : انتهينا فيما سبق إلى قوله تعالى: (( وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ )) .
ثمود: هم الذين أرسل الله إليهم نبيه صالحاً عليه الصلاة والسلام فوعظهم وذكرهم، وجعل لهم آية وهي الناقة التي شرفها الله تعالى بإضافتها إلى نفسه الكريمة، حيث قال تبارك وتعالى: (( فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا )) أي: احذروا ناقة الله أن تعبثوا فيها أو أن تنكروها.
وهذه الناقة لها شرب تشرب من البئر التي تسمى: بئر الناقة، ولهم (( شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ )) يشربونه، فالناقة تشرب يوماً وهم يشربون يوماً، وهذه الناقة ذكروا أنه ما جاء أحد يستقي من هذا البئر في يومها الذي تشرب منه إلا أخذ بدل شُربها شيئاً من لبنها بقدر ما شربت.
فالله أعلم هل هذا هو الواقع أو يختلف، لكن على كل حال هذه الناقة لا شك أنها ناقة ليست كسائر النوق إذ أنها آية من آيات الله عز وجل، لكنهم كذَّبوا وأبوا وتوعدهم صالح عليه الصلاة والسلام أن يتمتعوا في دارهم ثلاثة أيام، ولكنهم ما زالوا على كفرهم وإنكارهم، ولهذا قال: (( وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ )).
وديارهم معروفة الآن موجودة في مكان يسمى الحجر، ويسمى الآن ديار ثمود، وقد مرّ بها النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى تبوك لكنه عليه الصلاة والسلام أسرع حين مرّ بهذه الديار وقنّع رأسه ونهى أمته أن يدخلوا إلى هذه الأماكن أماكن المعذبين إلا أن يكونوا باكين، قال: ( فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوها أن يصيبكم ما أصابهم ). وقوله: ( أن يصيبكم ما أصابهم ) لا يلزم منه أن يُراد به ما أصابهم من العذاب الحسي، قد يكون المراد ما أصابهم من العذاب الحسي وما أصابهم من الإعراض والكفر، فلو قال قائل: إنه يوجد أناس يذهبون إلى هذه الأماكن وهم غير باكين ولم يصابوا بشيء.
نقول: الجواب عن هذا من وجهين:
أولاً : أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يؤكد أن يصابوا بهذا، ولكن قال: خوفاً أو خشية أن يصابوا بما أصاب هؤلاء.
والوجه الثاني: أن نقول: لا يتعين أن يكون المراد بذلك أن يؤخذوا بما أُخذ به هؤلاء من العقوبة الحسية الظاهرة وهي الرجفة والصيحة التي أماتتهم عن آخرهم، قد يكون المراد مرض القلب قد يكون المراد بذلك مرض القلب الذي هو الاستكبار والإعراض ورد الحق.
(( إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ )) هذا الحين هو ثلاثة أيام.
(( فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ )) ولم يرجعوا عن غيهم، (( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ )) الصاعقة التي صعقتهم وهي رجفة وصيحة، (( وهم ينظرون )) أي: ينظر بعضهم إلى بعض يتهاوون ويتساقطون أمواتاً.
(( فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ )) أي: ما استطاعوا أن يقوموا، (( وما كانوا منتصرين )) أي: لم يتمكن بعضهم أن ينصر بعضاً بل كلهم هلكوا عن آخرهم.
وهكذا يفعل الله تعالى بمن كذَّب رسله عليهم الصلاة والسلام، إلا أن العذاب المستأصِل رُفع عن هذه الأمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه سبحانه وتعالى ألا يأخذهم بسنة عامة أي: بعقوبة عامة لكن ابتلوا بشيء آخر وهو أن يقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، والأمر كذلك وقع، فإن هذه الأمة لم تُصَب بعذاب عام كما أصيبت به الأمم التي قبلها، لكن أصيبت بأن جعل الله بأسهم بينهم منذ زمن الخلفاء الراشدين كما اختلفوا على عثمان وعلى علي رضي الله عنهما وحصلت الفتن تتوالى إلى يومنا هذا.
ثم هذه الأمة التي جُعل بأسها بينها ليست هي أمة الإجابة فقط، بل أمة الإجابة وأمة الدعوة، ولهذا نقول: ما حصل من الفتن والبلاء في الأرض مشارقها ومغاربها من الكفار وغير الكفار فإنما هو نتيجة للمعاصي، وهي عقوبة هذه الأمة: أن الله يذيق بأسهم بأس بعض.
(( فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ )) يعني: اذكر قوم نوح من قبل وهم أول أمة أرسل إليهم الرسول، ولكنهم كذبوه، وهذا الرسول عليه الصلاة والسلام نوح بقي فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، ويذكرهم، ويعظهم، ولكنهم والعياذ بالله لم يؤمنوا (( مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ )).
حتى إنه عليه الصلاة والسلام يقول: (( كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ )) ((جعلوا أصابعهم في آذانهم )) لئلا يسمعوا ما يقول، (( واستغشوا ثيابهم )) أي: تغطوا بها لئلا يبصروه نسأل الله العافية وهذا غاية ما يكون من البغضاء لما يقول وما يفعل، (( واستغشوا ثيابهم وأصروا )) على باطلهم (( وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ))
فكان آخر ما قال عليه الصلاة والسلام: (( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً )) ودعا ربه: (( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ )) قال الله تعالى: (( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ )) ولهذا والله أعلم سيكون عليهم نصيب من عذاب المكذِّبين، لأنهم هم أول أمة كذبت الرسل ( ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) كما أن من قتل نفساً فإن على ابن آدم الذي قتل أخاه كفلاً ونصيباً من عذاب القاتل إلى يوم القيامة.
(( وقوم نوح من قبل إنكم كانوا قوماً فاسقين ))
ثم قال عز وجل: (( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ )) السماء هذه مفعول لفعل محذوف التقدير وبنينا السماء، وقوله: (( بأيدٍ )) أي: بقوة، كما قال الله تعالى: (( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً )) فالأيد هنا أي: القوة وليست جمع يد كما يظنه بعض الناس، بل هي مصدر ( آد يئيد أيداً ) كما يقال: باع يبيع بيعاً، بنيناها بأيد أي: بقوة، والإنسان إذا تأمل وتفكر في السماوات عرف أنها قوية شديدة عظيمة، وأن قوتها تدل على قوة بانيها عز وجل،
(( وإنا لموسعون )) أي: لموسعون لأرجائها، ولهذا كانت السماوات أكبر بكثير من الأرض وهي محيطة بالأرض من كل جانب، وعلى هذا فتكون أوسع من الأرض وليست الأرض بالنسبة للسماء إلا شيئاً يسيراً.
قال تعالى: (( وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا )) أي: فرشناها لأهلها، جعلناها لهم كالفراش يأوون إليها ويتمتعون بها، لم يجعلها الله تعالى صعبة ولا سهلة بل هي متوسطة، لو كانت لينة رِخوة ما تمكن أحد من البقاء عليها، ولو كانت صعبة ما تمكن أحد من الانتفاع بها، ولكنها كانت كما وصفها الله عز وجل: (( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ))
ثم قال: (( فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ )) أثنى على نفسه تبارك وتعالى أن جعل هذه الأرض مِهاداً للناس يتمتعون بها على ما تقتضيه مصالحهم.
وإلى هنا ينتهي الكلام على ما تيسر من أجل إفساح المجال للأسئلة ونبدأ باليمين .