تابع تفسير الآيات ( 52 - 55 و 59 - 60 ) من سورة الذاريات وآيات أخرى مختارة وما يستفاد منها حفظ
الشيخ : نستدرك فيه بعض الآيات بل كل الآيات التي نسيناها في الدرس السابق وهي قوله تبارك وتعالى: (( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ )) يعني: أن الأمر الذي حصل لك يا محمد! حصل لمن قبلك، فقوله: كذلك خبر مبتدأ محذوف التقدير: الأمر كذلك، يعني: أن أمر الأمم السابقة كأمر هؤلاء الذين كذبوك يا محمد، وفسر هذه الكذبة بقوله: (( مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ )) يعني: ما أتاهم رسول إلا قالوا كذا، و((مِن)) في قوله: (( من رسول )) زائدة من حيث الإعراب كقوله تعالى: (( أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ )) المعنى: ما جاءنا بشير ونذير، لكن تزاد الحروف في بعض الجمل للتأكيد.
فـ ( ما أتى الذين من قبلهم من رسول ) عني: ما أتاهم رسول إلا وصفوه بهذين الوصفين: (( إلا قالوا ساحر أو مجنون )) ساحر باعتبار تأثيره وبيانه وبلاغته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من البيان لسحراً ) .
(( أو مجنون )) يعني: أو قالوا مجنون باعتبار تصرفاته، لأن هذا التصرف في نظر هؤلاء المكذبين جنون نسأل الله العافية.
وفي هذا تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، لأن الإنسان إذا علم أن غيره أصابه ما أصابه تسلى بذلك وهان عليه الأمر، ولهذا قالت الخنساء تُماضِر وهي ترثي أخاها صخراً قالت في رثاءٍ لها:
" ولولا كثرة الباكين حولي ***على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن *** أسلي النفس عنه بالتأسي "

وقد دل لذلك قول الله تبارك وتعالى: (( وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ )) لأن الإنسان إذا شاركه غيره في العذاب هان عليه، لكن يوم القيامة لا ينفع الإنسان أن يشاركه غيره في عقوبته.
المهم أن في هذه الجملة بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام تسلية له حتى لا يحزن، فإن ما أصابه قد أصاب غيره، وفيها أيضاً دليل على أن المكذبين للرسل طريقهم واحدة ولو تباعدت أزمانهم ولو تباعدت أقطارهم، لأن المجرم أخو المجرم فالطريقة واحدة.
قال الله تعالى: (( أَتَوَاصَوْا بِهِ )) أي: بهذا القول: (( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ )) يعني: هل هؤلاء المكذبين للرسل الذين اتفقوا على وصفهم الرسل بأنهم سحرة ومجانين هل هم تواصوا بذلك؟ يعني: هل كل واحد من هذه الأمم كتب وصية إلى الأمم اللاحقة أن قولوا لأنبيائكم: إنكم سحرة ومجانين؟
الجواب: لا، ولهذا قال: (( بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ )) وهذا إضراب إبطال، يعني: ما حصل تواصل، ولكن تواردت الخواطر، لأن الهدف واحد وهو تكذيب الرسل فاتفقت الكلمة، وفي قوله: طاغون وصف بأن هؤلاء طغاة معتدون، وهذا من أعظم الطغيان - والعياذ بالله - أن يصفوا دعاة الحق بأنهم سحرة ومجانين.
قال الله تعالى: (( فَتَوَلَّ عَنْهُم )) أي: أعرض عن هؤلاء ولا تهتم بهم.
(( فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ )) يعني: لا أحد يلومك، لأنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، وصبرت وصابرت، فلقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم وصابر على أذى قريش وامتهانهم إياه، ولكنه كانت له العاقبة ولله الحمد، ولهذا قال: تول عنهم بمعنى: أنك لا تتعب نفسك فيهم، ولا تهلك نفسك فيهم، فأنت في هذه الحال لا تلام على ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم قام بما يجب عليه.
وفي قوله تعالى: (( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ )) فيها أمران:
الأمر الأول: عذر النبي عليه الصلاة والسلام وإقامة العذر له،
والثاني: تهديد هؤلاء المكذبين أن الله تعالى يهددهم بتولي الرسول عنهم، لأنهم لا خير فيهم.
ثم قال: (( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ))ذكر أي: ذكر الناس بآيات الله بشرائعه بأيامه، شرائعه: ما أوجب الله على العباد، أيامُه: عقابه تبارك وتعالى للمكذبين وإثابته للطائعين، لكن أطلق الله الذكر وقال: ذكر ولم يقل: ذكر المؤمنين، لكن بيَّن أن الذي ينتفع بالذكرى هم المؤمنون قال: (( فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )) لأن المؤمن إذا ذُكر فهو كما وصفه الله عز وجل، (( إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً )) بل يقبلونها بكل رحابة صدر وبكل طُمأنينة، وفي الآية دليل على وجوب التذكير على كل حال، وفيها أن الذي ينتفع بالذكرى هم المؤمنون، وأن من لا ينتفع بالذكرى فهو ليس بمؤمن، إما فاقد الإيمان وإما ناقص الإيمان، وهنا فتش عن نفسك إذا ذُكِّرْتَ بآيات الله وخُوِّفْتَ من الله عز وجل هل أنت تتذكر أو يبقى قلبك كما هو قاسياً؟ إن كانت الأولى فاحمد الله فإنك من المؤمنين، وإن كانت الثانية فحاسب نفسك ولا تلومن إلا نفسك، عليك أن ترجع إلى الله عز وجل حتى تنتفع بالذكرى.
وفي الآية دليل على أنه كلما كان الإيمان أقوى كان الانتفاع بالذكرى أعظم وأشد، وذلك من قاعدة معروفة عند العلماء وهي: أن الحكم إذا علق بوصف ازداد بزيادته ونقص بنقصانه.
أما قوله تعالى: (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ )) فقد سبق الكلام عليها في اللقاء السابق.
ثم قال الله تعالى: (( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ )) الذين ظلموا بالكفر لهم ذنوب مثل ذنوب أصحابهم، والذنوب في الأصل هو الدلو أو ما يستقى به، وشاهد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( أريقوا على بوله ذنوباً من ماء ) والمعنى: هؤلاء الظالمون لهم نصيب مثل نصيب من سبقهم: فإن للذين ظلموا فإن بالفاء ولا بالواو ؟
الطالب : بالفاء
الشيخ : بالفاء (( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ )) أي: نصيباً من العذاب مثل نصيب أصحابهم.
وانظر كيف سمى الله تعالى السابقين بأزمان بعيدة أصحاباً لهؤلاء، وذلك لاتفاقهم في التكذيب، ورمي الرسل بما لا يستحقون، فهم أصحاب في الواقع وإن تباعدت الأزمان والأماكن.
(( فلا يستعجلون )) النون هنا مكسورة على أنها نون الوقاية، وحذف الضمير الياء وأصله: فلا يستعجلوني، فحذفت الياء تخفيفاً، ولهذا لا يشكل على الإنسان فيقول: كيف كانت النون مع لا ناهية؟
والجواب أن نقول: هذه النون ليست نون الإعراب ولكنها نون الوقاية، فالفعل إذاً مجزوم، والنون للوقاية والياء التي هي المفعول محذوفة
(( فلا يستعجلون )) وفي قوله : (( فلا يستعجلون )) تهديد واضح أن هؤلاء سيأتيهم العذاب لا محالة ولكن لا يستعجلون الله عز وجل، لأن الله تعالى يملي للظالم ويمهله حتى إذا أخذه لم يفلته، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته وتلا قوله تعالى: (( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )) )
(( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ )) ويل بمعنى الوعيد والعذاب، يعني: أنه يتوعدهم عز وجل من هذا اليوم الذي يوعدون وهو يوم القيامة، لأنهم سيجدون ما أُرسل إليهم حقاً وسيجدون الذل والعار، (( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ )) (( وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً )) فيكون من بين هذا العالم نسأل الله العافية على هذا الوجه، ولهذا قال: (( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ )) وسيكون هذا اليوم يوماً عسيراً عليهم، لأنهم كفرة والعياذ بالله.
وإلى هنا انتهى الكلام على سورة الذاريات ولنأت الآن بالأسئلة ولنبدأ باليمين ولكل واحد سؤال .